ملخص:

تستعرض الورقة بالتحليل أدبيات التدخل الدولي الإنساني وشموله حماية المدنيين أثناء الحرب الأهلية من وجهة علاقته بالسيادة الوطنية، كما تناولت التغيرات التي شهدتها سياسات التدخل في أواخر القرن العشرين ودور الأمم المتحدة في عمليات التأسيس القانوني لشروط التدخل.

فيما يتعلق بالحالة الليبية، تناولت الورقة العمليات التشريعية في المرحلة الانتقالية وحدود تأثّرها بالتدخل الدولي، وهو ما يظهر من خلال صلاحيات الحكومة في الوثائق القانونية وتعبيرها عن السيادة الوطنية. في الأخير، تناولت ممارسات الحكومات المختلفة في السياسة الخارجية وفقاً للصلاحيات القانونية والاعتراف الدولي، حيث كشفت عن ضمان النظام القانوني لمقتضيات السيادة، وقد مارستها الحكومات المتتابعة دون تشكيك في تصرفاتها، غير أنّ إثارتها مؤخراً ارتبط بعوامل سياسية أكثر منها قانونية.

الكلمات المفتاحية: التدخّل الإنساني، مسؤولية الحماية، الأزمة الليبية، السيادة الوطنية، الصراع على السلطة

محتويات الورقة:

مقدمة

التدخل الإنساني في القانون الدولي

تحول التدخل الدولي الإنساني

التدخل ومسؤولية الحماية

التجربة الليبية وتدابير التدخل الإنساني

طبيعة الإطار الدستوري الانتقالي

الحكومة الليبية وأعمال السيادة

خاتمة

قائمة المراجع

لقراءة وتحميل المقال PDF

 

مقدمة:

أثارَ التدخلُ الدوليّ الإنسانيّ في ليبيا الجدلَ حول مسألة السيادة، ومدى تمتعِ الدولةِ بها، فقد ظلت ليبيا وعلى مدى مرحلتي التدخل المباشر وإعادة البناء تخضعُ إلى تدابيرِ الفصلِ السابع، في الوقت الذي ظهرت فيه سياقاتٌ دستورية وحكوماتٌ بصلاحيات عادية تمنحُها إمكانية القيام بأعمال السيادة، وبخاصة فيما يتعلق بالتمثيلِ الدولي واستمرارِ الشخصيةِ الاعتباريةِ.

خلال الفترة الانتقاليةِ ظلت مسألةُ سيادة الدولة الليبية محلَ نقاش بين اتجاهين: تَعَلق الأول بمسألة التكييف القانوني لشخصية الدولة في ظل تدخلِ الأمم المتحدةِ ومدى الاحتجاج “بالسيادة” في مواجهة الدول الأخرى، في حين ارتبط الثاني بتعريف صلاحيات الحُكم المؤقت في إدارة الشؤون الداخلية والخارجية. ثارت هذه المسائل مع توقيع السلطة التنفيذية مذكراتِ تفاهمٍ مع أطراف دولية أخرى، بدعوى أنها سلطة مؤقتة لا يقع في اختصاصها الدخولُ في ارتباطاتٍ تؤثّر على مستقبل البلاد أو العلاقات الخارجية للدولة.

لم يظهر النقاش حول سيادة ليبيا في ظل حكومات المؤتمر الوطني العام التي مارست صلاحياتها في السياسة الخارجية وعقد اتفاقيات للتدريب وتبادلت البعثات الدبلوماسية، لكن فيما بعد ثار نقاشٌ حول حدود صلاحيات الحكومة وطبيعة تمثيلها السياسي عندما عقدت حكومتا الوفاق الوطني والوحدة الوطنية مذكرات تفاهم مع الحكومة التركية في عامي 2019 و2022 على التوالي.

في هذا السياق، تبرز أهمية تناول طبيعة التدخل الدولي ومدى تأثيره على استقلال الدول وسيادتها. لاشكّ بأنّ التدخّل يمسُ بالسيادة الوطنية غير أنّ دراسة أنماطه تساعدنا في الكشف عن سياقات قانونية غير متطرّق لها، خاصةً في حالات التدخل وفق مبدأ الحماية الإنسانية، نظراً لارتباطه بالشؤون الداخلية للدول وتعطيل أعمال السلطة القائمة وإكساب جماعات أخرى صفة المشروعية.

يساعد التحليل القانوني في تقديم قراءة شكلية للنصوص المُنظِّمة للتدخل الإنساني، لكنّه لا يعكس مباشرةً تراكيبَ دوائر النفوذ والهيمنة. إنّه يُساعد على فهم السياقات الرسمية والاقتراب من حقيقة الصلاحيات القائمة وفق النص القانوني والفرص الكامنة فيها، بغض النظر عن قدرة الحكومة على ممارستها وتشغيلها.

في هذا الإطار، تتناول الورقة محتوى عملية التدخل والترتيبات القانونية المصاحبة لها. بالطبع، لا يمكن تجاهل علاقات التحيّزِ والهيمنة في التعامل الدولي، فهناك الكثير من الشواهد على الإكراه السياسي. في هذه السياقات المركبة يساعد التحليل القانوني على الاقتراب من المشكل الليبي من زاويةٍ تساعد على فهم أرضية تحرك الليبيين وتقييم تصرف الحكومات في شؤون التمثيل السياسي والسياسة الخارجية.

يثير طول الفترة الانتقالية وتعثر صدور الدستور وتفكك سلطات الدولة، الجدلَ حول كفاءة دور الأمم المتحدة في ليبيا، فبالرغم من وقف العمليات العسكرية في 27 أكتوبر 2011 وبدء العملية السياسية، ظلت ليبيا تُعاني من تأرجح مرحلة إعادة البناء، ما يتطلب مناقشة مدى تأثير التدخل الإنساني على السيادة الوطنية وصلاحيات الحكومة، ويساعد تناول سياقات التدخل الانساني وتجربته في ليبيا على تفسير/ فهم حدود ثبات أو تراجع الشخصية الاعتبارية للدولة/ الحكومة وأهليتها للالتزامات الدولية.

التدخل الإنساني في القانون الدولي:

من الناحية النظرية هناك جدلٌ بخصوص مسألة التدخّل الإنساني، إذْ يتسّع حجم الاختلاف حوله بتعدّد الاختلاف القائم بين النظريات المعالجة له. في الوقت الذّي تستند البنائية على مبدئيْ القيود الاجتماعية والتأثير الكبير للجهات الفاعلة في الدولة [1]، تعد الواقعية التقليدية الدولة الفاعل الرئيسي في السياسة الدولية، فيما تمثل السياسة الداخلية دوراً ثانوياً في تفسير تفاعلات السياسة الدولية من وجهة العلاقة بين التدخل والسيادة [2]. يرجع تعدد نظريات نشأة الدولة إلى تعدد النظر في العلاقة بين مكوناتها. يُساعدنا الطرح الذّي تتبنّاه المدرسة التاريخية القائل بأسبقية المجتمع على الدولة على فهم احتواء مفهوم السيادة على مُكوني الشعب والحكومة معًا. شكلت هذه النقطة مدخلاً للقانون الدولي الإنساني لاعتبار التمتع بالحقوق السياسية جزءًا من السيادة، بما يضمن للأفراد مركزاً قانونياً دولياً، وحقوقاً تكفلها الدولة[3].

بشكل عام، يعد ميثاق الأمم المتحدة مبدأ عدم التدخل الأصلَ في القانون الدولي لتوافقه مع السيادة، وقد عالج ميثاق الأمم المتحدة التدخل كحالة استثنائية، تنحصر في نطاق الدعم والحماية. بشكل عام، غَلبَ التوظيف السياسي لمفهوم التدخل على الغرض الأساسي منه، بحيث تعمل الدول القوية على تبنيه عندما تتهدّد مصالحها وأمنها القومي، بغض النظر عن توافر شروط التدخل حسب الميثاق أو الالتزام به. تتبنى المادة 2/ 4 من الميثاق مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول والابتعادَ عن استعمال القوة والتهديد بالعقوبات التي تهدّد الوحدة الترابية أو تؤثّر على الاستقلال السياسي لأية دولة، ذلك أنّ جميع الدول تتساوى من حيث مبدأ السيادة [4].

نظرا لحاجة الدول إلى أمنٍ جماعي، ظهرت أفكار تدعو للتنسيق بين الدول في هذا الصدد، فمن شأن ذلك أن يساعد الدولة على القيام بوظائفها. بدت هذه الأفكار إجراءً وقائيا لتكييف الوقائع حسب مبدأ عدم التدخل، بحيث يكون نائباً عنها في تقرير بعض شؤونها ونقلها من الاختصاص الداخلي، ويكون دور الأمم المتحدة في تكييف الوقائع واتخاذ التدابير اللازمة للتعامل مع حالة تهديد السلم والأمن. وفق الفصل السابع، يعمل مجلس الأمن على اتخاذ تدابير قسرية أو غيرها لمنع تفاقم الأزمة من دون الإخلال بالمركز القانوني للدولة في حالة النزاع الداخلي أو بحقوق الأطراف في حالة الصراع بين الدول. يكون الهدف من التدابير إضعافُ قدرة الدول أو الأطراف على المضي في تهديد السلم والأمن (المواد 42 – 47)، وتأخذ التدابير خطاً تصاعدياً حتى تبلغ مستوى التدخل العسكري[5].

خلال العقود الأخيرة، تطورت تصورات الأمن الجماعي لتشملَ حقوق الإنسان ضمن الالتزامات الدولية، حيث تضمنت الفقرة الثالثة من ديباجة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ضرورة استجابة التشريعات الوطنية للمبادئ الأساسية[6]، ليساهم تدويل حقوق الانسان في ظهور القانون الدولي الإنساني لحماية المدنيين في أوقات النزاعات المسلحة، ويستمد أساسه القانوني من اتفاقيات جنيف الأربعة، ويتعلق بحماية ظروف ضحايا الحرب وتحسينها. لقد وفرت التشريعات الدولية تجانساً وتكاملاً في المدونة الدولية لحماية حياة الأفراد وإلزام الدولة بتوفير الحدّ الأدنى من ضمانات الحماية.[7]

ساهم اتساع الأخطار ضدّ حياة الأفراد وانتشارُ الحروب الأهلية والسلاح في زيادة أعباء المنظمات الدولية في التدخل العسكري وغير العسكري لأجل الحماية وتأمين المساعدات الإنسانية المصحوبة بوحدات عسكرية من دون طلب الموافقة من الدول المعنية، وتطبيق هذا المبدأ لإزالة التَعسف وتجاوز حقوق الإنسان. يكون التدخل الإنساني بطرق سلمية أو بتدخل مباشر عن طريق استخدام القوة العسكرية، كما يكون التدخل الإنساني في حالة اندلاع الحرب بين دولتين لحماية حياة المدنيين أثناء الحرب أو الانتهاكات المرتكبة من طرف الحكومة المحلية ضد بعض الجماعات السكانية.[8]

تحول التدخل الدولي الإنساني:

ثمّة اتجاه يرى التدخل الإنساني عُدواناً عندما ينتهك الأسس الشرعية للدول المستقلة، كما يتسبّب في اندلاع المنازعات والحروب، خاصّةً مع استخدام القوة العسكرية. لذلك يذهب هذا الاتجاه إلى تقييد التدخل العسكري، كحالة الدفاع الشرعي، ويكون استخدامها وفق ترتيبات القانون الدولي. للتحوط ضد انتهاك السيادة الوطنية، ركزت أدبيات التدخل الإنساني على اتباع الوسائل السلمية مثل العقوبات السياسية أو الدبلوماسية أو الاقتصادية، منها: تنظيمُ الحملات الصحفية وحظر بيع السلاح. تنتهي هذه الإجراءات باللجوء إلى الفصل السابع واضطلاع مجلس الأمن باختصاصه في تعريف ما إذا كان النزاع يتعلّق بتهديد الأمن والسلم، واتخاذ تدابير بحسب ميثاق الأمم المتحدة، على أن ينحصرَ التدخل في تلك الحالات التّي يتعرّض فيها عدد كبير من الشعب إلى الاضطهاد على نطاق واسع.[9]

منذ بداية تسعينيات القرن الماضي، بدت الحاجة إلى تقنين عمليات التدخل في الشؤون المحلية للدول، وقصرها على رد العدوان والحماية الإنسانية. وضعت الأمم المتحدة عدداً من الشروط، كان أهمها موافقة الدولة التي تتّم فيها العمليات الإنسانية وتحديد نطاق العمليات الإنسانية بحيث لا تتجاوز هذه العمليات أهدافاً أخرى أو تتحوّل إلى عدوان، كما يشترط توافر حالة الضرورة لإنقاذ حياة الأفراد ومنع تهديد المصالح الإنسانية. يكون ظرف الاستعجال متوافراً ومحدّداً، حيث يكون الخطر حالاً بإضرار العدوان بالبشر ويُمثّل اعتداءً جسيماً، وتُتَخذ التدابير المتعلّقة بالسلم والأمن بعد تحقيقٍ يكشف حجم التهديد وجسامة الضرر.[10]

في ظل تشابك العلاقات بين الدول، شَرَعت الأمم المتحدة، مدفوعة من عدة دول، في تعديل مفهوم السيادة ليسمح بالتدخل لأهداف إنسانية، حيث تضمن قرار الجمعية العامة رقم 168/ 54 المُؤرَّخ يوم 17 ديسمبر 1999، ضرورة احترام مبادئ السيادة الوطنية وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول وفي عملياتها الانتخابية، وجَعْلِ ذلك مسألةً جوهرية لتعزيز حماية حقوق الإنسان، فيما يرتبط بالتدخل الذي يمس كافة أشكال الأمنَ الإنساني بتدابير سلمية أو عسكرية. بدت هذه التوجهات مُتحيزة للأمن الإنساني على حساب نظرية الأمن القومي.[11]

بدأ اهتمام الأمم المتحدة بتطبيق قواعد الأمن الإنساني في سنة 2001 عندما تشكلت اللجنة الدولية المعنية بالتدخل وسيادة الدول (ICISS) على قاعدة التدخل لحماية حقوق الإنسان، فقد تم الانتقال من التدخل الدولي الإنساني إلى تحميل الدولة مسؤولية حماية السكان، وفقا لمبدأ السيادة الإقليمية، فهي تقوم بوظائف خدمة مواطنيها من الجرائم شديدة الخطورة كالإبادة الجماعية وجرائم الحرب والتطهير العرقي. لذلك فإنّ عدم تجسيد هذه الوظيفة لأسباب داخلية يُعد مسوغا لتطبيق مبدأ المسؤولية الدولية للحماية، التّي تضطلع بها الأمم المتحدة وفق مبادئ الأمن الجماعي[12].

وضعت الفقرتين رقم 138 و139 من قرار الجمعية العامة في مؤتمر القمة العالمي لسنة 2005 مبادئ وتدابير مؤولية الحماية فيما يتعلق بارتكاب الدولة للجرائم الجسيمة ضدّ رعاياها داخل حدودها الإقليمية.[13] هكذا بدأ مبدأ مسؤولية الحماية يظهر في الجمعية العامة على خلفية وقوع جرائم الإبادة ضد الإنسانية في عدة دول، حيث نوقش حقّ التدخل، وجرت مناقشات لأجل بلورة فكرة مسؤولية الحماية لحياة الأفراد داخل الدولة وخارجها، وذلك بالارتكاز على التضامن لأجل وقف الانتهاكات ضد البشرية. تتلاقى المبادئ القانونية على ربط السيادة بمسؤولية الدولة تجاه حماية مواطنيها حسب القانون المحلي، بهذا المعنى يكون التدخل استثناءً يُنظمه ميثاق الأمم المتحدة للتعامل مع حالات النزاع المسلح وفشل الدولة في حفظ الأمن الداخلي[14].

لقد ظهر الجدل حول المفاهيم الجديدة للتدخل بعد تدخل حلف الأطلسي في كوسوفو في العام 2000 وعلى إثر الحرب الأهلية الرواندية في الفترة مابين 1990- 1993، حيث طرح “كوفي أنان” (الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة) سؤالاً حول كيفية الردّ الذي ينبغي أن يقوم به المجتمع الدولي على “الانتهاكات الجسيمة والممنهجة لحقوق الإنسان التّي تؤثّر على المبادئ المشتركة، والمعالجة القانونية للتدخل بغرض حماية الإنسان، بحيث لا يؤدّي التدخل لحالة من الفوضى أو تحول القيود القانونية دون التصرّف لأجل الحماية الإنسانية.[15]

مع انتشار النزاعات الداخلية في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ظهرت مفاهيم جديدة مُتعلقة بموضوع التدخل الدولي الإنساني، حيث أشارت الوثيقة الختامية لمؤتمر القمة العالمي للأمم المتحدة عام 2005، أنّه لا يمكن الاعتداد بمبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول في حالة تخلّي الدولة عن حماية مواطنيها أو عدم قدرتها على حمايتهم، وبخاصة مع ظهور مؤشرات لوجود إبادةٍ جماعية. على هذا الأساس ظهر مفهوم مسؤولية الحماية بثلاثة التزامات: أولاً، الوقاية باتخاذ الإجراءات اللازمة لمعالجة الأسباب المباشرة للصراع. ثانياً، مسؤولية ردّ الفعل، وتتعلق بمنع وقوع الإبادة الجماعية. أما الالتزام الثالث فيتعلق بإعادة البناء، حيث يشمل مجموعة الترتيبات مرحلة ما بعد انتهاء التدخل المباشر لتوفير الحد الأدنى من الأمن ومنع اندلاع النزاع مرّةً أخرى [16].

التدخل ومسؤولية الحماية:

يتطلب تطبيق الحماية الدولية الإنسانية وضع آليات تشمل العلاقات بين الدول والنزاعات الداخلية. فمع تشكّل النظام الدولي لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، إهتّم القانون الدولي الإنساني بوضع السكان وقت الحرب الأهلية، بحيث يكون للمجتمع الدولي حقّ التدخّل وتجاوز السيادة الوطنية.[17]

أدّت التغيّرات العملية الطارئة على العلاقات بين الدول المعاصرة إلى جعل تطبيق مسؤولية الحماية مسألةً أكثر أهميةً من مخاوف تقييد السيادة بالنسبة للدول، فقد تقلصت صلاحيات الدولة في إدارة شؤونها الداخلية لحساب المعاهدات والتجمّعات السياسية والاقتصادية بحيث تراجع مفهوم السيادة المطلقة، وقد عدّت الأمم المتحدة تقصير الدولة في آداء وظائفها عَدمَ قدرةٍ على ممارسة السيادة، وأمرًا مُوجِباً للتدخل الإنساني تحت مظلة “مسؤولية الحماية” تلبيةً لنداء الاستغاثة القادم من الجهات المتضرّرة أو الأفراد المتضرّرين داخل هذه الدولة، بحيث لا يُعتد باحتجاج الحكومة بالسيادة على اعتبار كونها إحدى خصائص الدولة بجانب الشعب والإقليم والاعتراف الدولي. في حالة ليبيا، اعترفت فرنسا ثم الأمم المتحدة بالحكومة الليبية المؤقتة (المجلس الوطني الانتقالي) في 10 مارس 2011، ولم تعد حكومة معمر القذافي شرعية نظراً لإخلالها بمسؤولية الحماية الإنسانية والتزاماتها تجاه اتفاقيات القضاء على التمييز.[18]

فيما يتعلق بالتدخل الدولي في حالة الحرب الأهلية، تذهب اتجاهات إلى أنه لا يجب أن تكون الحروب الأهلية محصورة داخل حدود دولة معترفٍ بها دولياً، وهو تعريف يمكن أن يزداد تعقيداً في حالة سهولة اختراق الحدود وزيادة التدخل الإقليمي. وفقا لتعريف الأمم المتحدة الخاص بالسيادة الإقليمية وبالدولة، ينطبق مفهوم الحرب الأهلية على الصراع الداخلي، لكنّه لا يشمل النزاعات الحدودية والانتفاضات الانفصالية.

 بالاقتراب من تعريف الحرب الأهلية كمسوغ للتدخل الدولي، فإنه يجب تمييز دور الحكومة، وما إذا كانت كياناً مُسلحاً خارج إطار القانون يسعى لفرض السيطرة على الموارد، ولذلك، فإن انهيار الفاعلين الحكوميين، مثل الجيش والشرطة، يمكن أن يجعل القوات الموالية للحكومة أقل تماسكًا.[19]

ترتبط آثار أنماط التدخل الإنساني بالأطر المنظمة للمسؤولية الدولية. توجد ثلاثة بدائل تترتب على التدخل الدولي، يأتي في مقدّمتها الحفاظ على الوضع القائم، حيث يتمثّل الهدف هنا في حماية نظام الحكم ووقف محاولات تغييره ومنع التوجهات الانفصالية من تقسيم الدولة أيضا. أما البديل الثاني فيتمثّل في تغيير الأوضاع القائمة داخل الدول، حيث يستهدف التدخل المباشر توطين أفكار وسياسات لم تكن سائدة، كتغيير النمط السياسي والاقتصادي والاجتماعي. في حين يدور البديل الثالث حول إزاحة الحكومة تحت ذريعة تهديد المصالح الحيوية وحماية الاستقرار الإقليمي.[20]

التجربة الليبية وتدابير التدخل الإنساني:

مع اندلاع ثورة فبراير 2011، اتخذت الأمم المتحدة تدابيراً وِفق الفصل السابع، أصدرها مجلس الأمن فيما يقرب من 30 قراراً لترتيب الوضع في ليبيا. من الناحية القانونية، استند التدخل الدولي إلى مفهوم “مسؤولية الحماية”، والذّي جاء كتطوير لسياسات التدخل في الشؤون الداخلية. في حالة ليبيا، مرت سياسات الأمم المتحدة بمرحلتين: كانت المرحلة الأولى متمثّلة في تفويض حلف الأطلسي لفرض حظر الطيران على الأجواء الليبية حسب قرار مجلس الأمن رقم 1973 [21] انتهت هذ المرحلة بصدور قرار مجلس الأمن رقم 2016[22]، كما تضمّنت القرارات الدولية عقوبات واسعة على النظام الليبي.[23] كما تشكلّتتحت ضغط الأحداث في الشرق الأوسط- قناعات لدى المجتمع الدولي بأن المسألة الليبية تقع تحت مبدأ “مسؤولية الحماية” نظراً لتعرّض المدنيّين إلى القتل الجماعي، وفق توصيف مندوب ليبيا لدى الأمم المتحدة في 24 فبراير 2011[24].

ضمن تفسير مبدأ مسؤولية الحماية، بدأت الأمم المتحدة اتخاذَ تدابير عسكرية بسبب القلق من حدوث مذبحة في بنغازي[25]، حيث قادت فرنسا وبريطانيا صياغة القرارات الدولية لفرض منطقة حظر جوي فوق ليبيا[26]، وتبلور الموقف الفرنسي في مجلس الأمن بعد سماح القرار بتطوير إستراتيجية عسكرية على مسارين: الاعتراف بالمجلس الوطني الانتقالي كحكومة شرعية في ليبيا، وتقديم مشروع القرار رقم 1973 في الوقت نفسه للقضاء على مشروعية نظام معمر القذافي [27].

 أما المرحلة الثانية فقد اتسمت باتخاذ التدابير اللازمة لمرحلة البناء. في خطوة أولى أنشأ مجلس الأمن لجنة الجزاءات وفق القرار رقم (1970/ 24) لإعداد القوائم الخاصة بالعقوبات والإعفاء منها ومتابعة تنفيذ قرارات الأمم المتحدة كتجميد الأصول المالية والمـوارد الاقتـصادية الأخـرى الموجـودة على أراضـي الأعضاء في الأمم المتحدة، غير أن القرار رقم 2009 استثنى مؤسّسات السلطة النقدية من العقوبات والتي تشمل مصرف ليبيا المركزي والمـصرف العـربي الليبي الخارجي والمؤسّسة الليبية للاستثمار أو محفظة الاسـتثمارات الإفريقيـة الليبيـة من تجميد الأموال[28].

أسند مجلس الأمن مهمّة مساعدة الحكومة الليبية المؤقتة للجنة الجزاءات، كما ورد في الفقرة (7/ أ) لإدارة التحــول الــديمقراطي من خلال تقديم الدعم الفني وتحسين قدرة المؤسسات الرسمية والمدنية، كما تضمنت الفقرة ( 7/ ب) تعزيز سيادة القانون وحماية حقوق الإنــسان، وتقديم المشورة في إعـادة إقـرار الأمـن العـام(7/ ج) مـن أجـل إنـشاء مؤسـسات وآليـات فعالـة لتنسيق شـؤون الأمـن الـوطني، وتقديم المساعدة في التصدي للانتشار غير المـشروع لجميـع الأسـلحة، وحسب الفقرة 9 استثنى القرار المعدات عسكرية لأغراض إنسانية أو تدريب الأجهزة الأمنية.

في إطار تطوير التدخل الدولي، نشأت “بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا”، لتبدأ الخطوة الثانية مع قرار مجلس الأمن رقم 2009 لمراقبة مرحلة إعادة البناء برئاسة الممثّـل الخـاصّ للأمين العام، على أن تُقدم تقاريرها لمجلس الأمن، وتكون سلطتها في نطاق الالتزام بالقرارات الدولية والاختصاصات المُسندة إليها، وهي بطبيعتها تنسيقية، وذلك فيما يتعلّق في تعزيز سيادة القانون وتسهيل الانتخابات، والإعداد للحوار السياسي والمصالحة الوطنية، والمساعدة في تحسين الخدمات العامة والإنعاش الاقتصادي[29].

طبيعة الإطار الدستوري الانتقالي:

منذ صدور الإعلان الدستوري المؤقت في 3 أغسطس 2011، مرت التشريعات الانتقالية بمرحلتين، اتسمت فيها المرحلة الأولى (أغسطس 2011 – أغسطس 2014) بالاستقرار النسبي، حيث سادت حالة من التضامن لأجل التغيير وملء الفراغ الناتج عن سقوط نظام معمر القذافي. في تلك الفترة، أُجري سبع تعديلات دستورية تعلّقت بدور المؤتمر الوطني العام (السلطة التشريعية) والهيئة التأسيسية لمشروع الدستور وقانون انتخابات مجلس النواب الليبي. استمدّت المؤسّسات الدستورية شرعيتها من الإرادة الشعبية المُعبّر عنها في صناديق الاقتراع. بدت التشريعات الليبية أكثر تعبيراً عن اتجاهات الناخبين والجماعات السكانية، باستثناء تفضيل جماعة الأمازيغ الامتناع عن المشاركة في انتخابات الهيئة التأسيسية والنواب[30].

شهدت المرحلة التالية منذ أغسطس 2014، تصاعد النزاع ما بين أطراف المؤتمر الوطني ومجلس النواب حول سلطة إصدار التشريعات. في هذه المرحلة، تسارع صدور القوانين والتعديلات الدستورية للاستحواذ على السلطة، وظلّت هذه المشكلة دون حلٍّ بعد صدور “الاتفاق السياسي الليبي” في ديسمبر 2015 (اتفاق الصخيرات). على أيّة حال، ظلّت التشريعات الليبية مُعبِّرة عن مُحصّلة التفاعل بين المكونات الليبية دون تدخّل خارجي في مراحل صياغة التشريعات وإصدارها.

تضمّن محتوى التشريعات الانتقالية التأكيد على الاستقلال الوطني ووحدة الدولة وسيادتها وشخصيّتها الاعتبارية، ومنح الحكومة صلاحيّة التمثيل السياسي لدى الدول الأخرى والمنظمات الدولية على حدّ سواء. أسّس الإعلان الدستوري ملامح الهويّة على الرُّوح الإسلامية، وتصوير العَلَم (المادة 3) رمزاً للاستقلال، إضافةً لإعلان الدولة عن رغبتها في الانضمام للمعاهدات الدولية الخاصّة بحقوق الإنسان[31].

ظلت عمليات صياغة القوانين سيادية تتّم في المؤسّسات الوطنية، فيما تكون الأمم المتحدة جهة الاعتراف الدولي. فطريقة صدور قوانين الفترة الانتقالية بدت بأنّها تُعزّز فكرة السيادة. لا يقتصر الأمر على صدور الإعلان الدستوري، بل يشمل مجموعات القوانين الصادرة عن المؤتمر الوطني ومجلس النواب، حيث صدرت القوانين والقرارات دون تدخّل البعثة الدولية. يمكن الإشارة بشكلٍ خاصّ إلى دورة صياغة قوانين الانتخابات وتداولها بين الجهة التشريعية والمفوضيّة الوطنية العليا للانتخابات. وفق المبادئ القانونية يضمن الاعتراف الدولي احترام النظام السياسي والاجتماعي للإرادة الشعبية المُعبرة عنها.[32] في حالة ليبيا، اقتصر دور البعثة الدولية على إقرار نتائج العمليات السياسية والاجتماعية، سواء بالانتخابات التشريعية أو بتوافق لجنة الحوار. فمنذ الاعتراف بالمجلس الانتقالي في 2011، دعَّمت الأمم المتحدة العمليات السياسية واستخدمت سلطة الاعتراف الدولي لإثبات مشروعية الحكومات المتتابعة وصلاحيتها لإدارة الشؤون الداخلية والخارجية من دون الخضوع إلى سلطة أخرى، أو إشراف منظمة دولية، وبخاصّة فيما يتعلّق بأعمال السيادة، حيث يمنح اعتماد الأمم المتحدة الوثائق الانتقالية سلطة أصلية للحكومة في هيكلة أجهزة الخدمة العامة[33]

على مدى الفترة الانتقالية سعت مبادرات الأمم المتحدة إلى الحوار الوطني لتشكيل كيانات سياسية للتعبير عن المجتمع الليبي والحدّ الملائم من الإرادة الشعبية والدفع نحو سياسات إعادة البناء. في وقت مُبكر أدركت البعثة الدولية نتائجَ النزاع بين السلطات الليبية عندما طرح “طارق متري” (المبعوث الخاص للأمين العام للأمين ما بين سبتمبر 2013 – سبتمبر 2014) مبادرةً في الخامس من يونيو سنة 2014 لتحييد النزاع حول نتائج الانتخابات ووقف الصراع المسلَّح، فقد اتجه مباشرة إلى اختيار ممثّلين من خارج المؤسّسات الرسمية، وذلك للوصول إلى حلٍّ تفاوضي وتعايش سلمي.[34] وبينما توسّعت المبادرة في مراعاة الجوانب الرسمية والاجتماعية، اتّجه قرار مجلس الأمن رقم (2174 / 3) إلى مخاطبة مجلس النواب، السلطة الدستورية الوحيدة في ليبيا، ولذلك اقتصرت ترتيبات حوار “غدامس” (29 سبتمبر 2014) على مشاركة أعضاء من البرلمان، من دون تمثيل للمستقلين.[35]

مع تصاعد الخلاف حول الإعلان الدستوري، قامت فكرة الاتفاق السياسي على مبدأ احتواء النزاع الدستوري والانقسام السياسي. أشارت الديباجة إلى مشاركة ممثّلين من المؤتمر الوطني ومجلس النواب، بالإضافة إلى تكوينات سياسية واجتماعية أخرى. شكّلت هذه الممارسات مبدأ سيادة الدولة والفصل بين السلطات، بالإضافة إلى إقرار التوجهات الاقتصادية[36].

تتجلّى ملامح السيادة هنا في انبثاق الاتفاق السياسي ومخرجاته عن لجنة الحوار الوطني، غير أنّ السيادة يعتريها النقص لانخراط البعثة الدولة في ترتيبات الحوار وسير انعقاده، وهنا، تُثير العمليات السياسية المؤسِّسة لخارطة طريق المرحلة التمهيدية الصادرة في نوفمبر 2020 مسألةَ اكتمال السيادة، وذلك لاستنادها إلى المؤتمر المنعقد في برلين في يناير 2020، وقرار سابقٍ لمجلس الأمن رقم (2510 / 2020). 

عالجت خارطة الطريق أزمة السلطة التنفيذية بتشكيلها من مجلس رئاسي وحكومة وحدة وطنية، على أن تنتهي هذه المرحلة بانتخابات تشريعية ورئاسية، وتظهر إشكالية السيادة بسبب الدور الإشرافي للبعثة الدولية، وتكييف دور مجلس الأمن. فمن جهة ترتيبات الحوار الوطني، اقتصر دور البعثة على الوساطة وتنسيق الاقتراحات المختلفة لنظام التصويت، ومن جهة أخرى، اقتصر دور مجلس الأمن على إقرار ما تمّ التوصّل إليه في اجتماعات لجنة الحوار السياسي في جنيف في مارس 2021.

ظهرت خارطة الطريق كاستجابة مشتركة لمؤتمر برلين المنعقد في يناير 2020، وقرار سابق لمجلس الأمن رقم 2510 من جهة، ولجنة الحوار السياسي بتكوينها التمثيلي للسلكة التشريعية ومنظمات المجتمع المدني والشخصيات المستقلة. ورغم وجود دوائر نفوذ، راعت السمات الشكلية الحاجات السيادية واستمرار السلطة القانونية[37].

شكل الإعلان الدستوري والاتفاق السياسي المرجعية القانونية للعمليات السياسية. فيما تضع خريطة الطريق ملامح العلاقة بين السلطة التنفيذية وبين الجهة التشريعية والمؤسسات العامة [38]، وحسب المادة رقم 1، تحدّدت مهام الحكومة في تهيئة المناخ لإجراء الانتخابات وبسط السيادة الوطنية على الأراضي الليبية، بالإضافة إلى تمكين المؤسّسات المحليّة من القيام بوظائفها وإنهاء الوجود الأجنبي وتوحيد مؤسّسات الدولة وتحرير القرار السيادي الوطني من أيّ إكراهٍ مادّي أو تأثيرٍ معنوي وحماية حقوق الإنسان والتداول السلمي للسلطة.[39]

لإنجاز هذه المهام، تُثبت خارطة الطريق المسؤولية التضامنية بين المؤسسات شرطاً لإنجاز المسار الدستوري مع منح ملتقى الحوار سلطة التدخل من خلال وضع تشريعات جديدة تُدعّم الحلّ السياسي في حالة الضرورة.[40] أشارت المادة 4/ 6 إلى مسألة الإرادة الشعبية باعتبارها مستقراً للسلطة عندما نصّت على مسؤولية المؤسّسات عن أعمالها أمام الشعب وتحت مراقبة ملتقى الحوار السياسي، وهو ما يشير إلى وجود شكلٍ من التمثيل السياسي المُعبِّر عن السيادة الوطنية، في حين يقتصر دور البعثة على توفير الدعم (فقرة 8)[41].

الحكومة الليبية وأعمال السيادة:

وفق المسودات الدستورية المتعدّدة، تتمتع الحكومة بحق أعمال السيادة، واستناداً إلى مقررات ملتقى الحوار والاتفاق السياسي والتشريعات الصادرة قبل عام 2011، ووفقاً للمادة رقم 2، تُمارس الحكومة صلاحياتٍ سيادية، فيختص المجلس الرئاسي بقيادة الجيش وتعيين المستويات القيادية، وإطلاق المصالحة الوطنية، وإعلان قرار الحرب والسلم واعتماد السفراء والبعثات الخارجية، بالإضافة إلى تمثيل الدولة في الخارج، كما يمثّل الرئيس الدولة في الخارج. في السياق ذاته، تمنح المادة 3 /1 /5 حكومة الوحدة سلطة هَيْكلَة الأجهزة التنفيذية[42].

بمرور الوقت تغيّر الوضع الانتقالي الليبي من نظام الجمعية الوطني إلى التمثيل النيابي شبه البرلماني. جرت عملية التغيّر تحت ضغوط الصراع على السلطة ولم تكن وفق تخطيطٍ لبناء نظام الحكم. اكتسب المؤتمر الوطني السيادة ليتولى السلطة التشريعية والتنفيذية، فقد حدّدت المادة (30/ 1) اختصاصاته في تعيين رئيس الوزراء ومنح الثقة للوزراء، وتعيين رؤساء الهيئات السيادية كالقيادة العامة للأركان والمخابرات ومصرف ليبيا المركزي، وقد استمرّت هذه الاختصاصات مع مجلس النواب حتى صدور الاتفاق السياسي (حكومتا الوفاق والوحدة الوطنية)، حيث قرّر في المادة رقم (8) نقل اختصاص قيادة الجيش إلى مجلس الوزراء، بالإضافة إلى مهام سيادية أخرى، ونقل اختصاص قيادة الجيش للمجلس الرئاسي.[43]

أمّا المادة رقم 5 / 10 فنظمّت صلاحية الحكومة في عقد الاتفاقيات مع دول أخرى وفق قيدين، يتعلق الأول منهما بعدم إلحاق الضرر في العلاقات الخارجية، ففي ظلّ التفاعلات الجارية حول ليبيا، يكون هناك حاجة إلى آلية لتعريف الضرر، وخصوصاً مع استمرار حالة التنافس الدولي واختلاف تفضيل الأطراف الليبية للعلاقات الخارجية. أما القيد الثاني فيتمثّل في عدم عقد اتفاقيات طويلة الأمد تمتّد آثارها للحكومات القادمة.

على مدى الفترة الانتقالية، عقدت الحكومات الليبية مذكرات تفاهم وتعاون لتدريب الشرطة والجيش، وهي إجراءات تُحدّد توجّهات المؤسّسات الرئيسية، كما عقدت الحكومة الحالية أطر تعاونٍ قصيرة المدى مع مصر وتركيا وبلدان أخرى، وهي في طبيعتها تتعلّق بالتعاون الاقتصادي وتطوير البنية الأساسية والطاقة. يتسّم النصّ المنشور لمذكرة التفاهم بين ليبيا وتركيا بمرونة التعديل والإلغاء قبل بلوغ أجلٍ مدتّه 3 سنوات، كما تخضع المذكرات للمراجعة السنوية من قِبل الحكومة التركية والليبية.[44]

شهدت تجارب نقل السلطة إشكالات كثيرة، كان أهمّها صيغة تسليم الحكومة الجديدة، سكت الإعلان الدستوري عن طريقة نقل السلطة للمؤتمر الوطني، ونصّت المادة (30) على أنّه مع انعقاد الجلسة الأولى للمؤتمر يُحَلّ المجلس الوطني الانتقالي تلقائياً من دون صدور قرار من المجلس أو من رئيسه. نشأت هذه المشكلة مع انتخاب مجلس النواب عندما اشترط قرار رئيس المؤتمر الوطني عقد جلسة مشتركة، ولم يلتزم النواب بالقرار. طور ملتقى الحوار هذه القاعدة عندما نصّ في المادة 4 /5 على ربط انتهاء عمل حكومة الوفاق بإجراءات تسليم السلطة. بالرغم من ضعف التجربة الدستورية، ينصرف أثر هذه القاعدة للوضع الحالي ويُدعم إصرار الحكومتين على إجراءات التسليم وجود قناعة بأنّه شرط لازم لانتقال السلطة.[45]

لقد سار التفسير القانوني في المرحلة الانتقالية لبقاء السلطة حتّى يتّم انتخاب أخرى بديلة. باستثناء التداخل بين المؤتمر الوطني ومجلس النواب، أشارت المادة 18 من الاتفاق السياسي إلى استمرار مجلس النواب حتى تُنتخب سلطة تشريعية جديدة. وفقاً لهذا التوجه، يمكن تفسير المادة الثالثة من خريطة المرحلة التمهيدية باستمرار حكومة الوحدة الوطنية حتّى انعقاد الانتخابات، وليس التقيّد بالمدى الزمني البالغ 18 شهراً، وقد تلاقى قرار مجلس الأمن رقم (2647/ 3) مع السوابق القانونية عندما أقر بسلامة تصرّف حكومة الوحدة الوطنية في تغيير مجلس إدارة المؤسّسة الوطنية للنفط عندما تبنى تفسيراً يتبنى استمرار خريطة طريق المرحلة التمهيدية حتّى انتخاب حكومة أخرى[46].

خاتمة:

بعد انتهاء العمليات العسكرية، ظلت ليبيا تتمتّع بالسيادة من الناحية القانونية، فما تضمّنته وثائق المرحلة الانتقالية يمنح الحكومة الصلاحيات العادية للدولة المستقلة، إذ لم يضع الوضع القانوني للبعثة الدولية قيداً على ممارسة السلطة واستكمال البناء الدستوري للخروج من التزامات الفصل السابع لميثاق الأمم المتحدة. مع توسّع مفهوم الإشراف الدولي على مرحلة إعادة البناء، كان تمثيل الليبيين حاضراً في كلّ مشاورات صياغة الوثائق القانونية.

على أيّة حال، ساهم انتخاب المؤتمر الوطني في تثبيت الاعتراف الدولي بالدولة من دون حدوث تقدّم في البنية الدستورية، لذلك بقي دور البعثة الدولية ضمن جدول أعمال السياسة حول ليبيا، لتبدأ مرحلة تفاوضية حول بناء النظام القانوني جرت فيها مساومات كثيرة، رغم وجود عيوبٍ لتشكيل أطر الحوار السياسي، لكنّها مَثَّلت مستوى مُعتبراً من التمثيل السياسي، كان من الممكن تطويره لخفض النزاع حول السلطة.

بشكل عام، يرجع العطل الدستوري إلى مصدرين أساسيين: يرتبط الأول بإدارة مجلس الأمن لتداعيات التدخل، فبغضّ النظر عن غموض تصوّر الأمم المتحدة لمرحلة ما بعد إسقاط معمر القذافي، فقد تبنّى المجلس خيارات ساهمت في إظهار التناقض الدولي والتنافس للهيمنة على البعثة الدولية مع قِلة الاهتمام بمسار الحوار السياسي وزيادة القيود على انعقاده. أما المصدر الثاني، وهو الأكثر أهميّة، فيتمثّل في تطلّعات الليبيين للخروج من الفصل السابع بالاستفتاء على الدستور وتكوين حكومة منتخبة ودخولهم في مباريات صراعية على سلطة غير مُكتملة نتيجة غياب المركزية الدستورية والخلاف عليها.

في الحقيقة، يحتوي المصدران على تفاصيلَ سياسيةً أكثر منها قانونية، لكن تظلّ المشكلة في اختلاط الأولويات وتجاهل الليبيين لفرصة التوافق من أجل استكمال مرحلة إعادة البناء، في مقابل ظهور تطلّعات للحلول الخارجية، وهي مشكلة قليلة الارتباط بتوافر سمة السيادة من عدمها.

قائمة المراجع:

    1. المراجع العربية:

    1. الدوريات العلمية:

القحطاني، غفران بنت عايض، “تدويل السيادة الوطنية في ظل المعاهدات والاتفاقيات الدولية””، المجلة العربية للنشر العلمي، العدد 42 (عمان: 2 ابريل 2022).

ماسينغهام، إيف، “التدخل العسكري لأغراض إنسانية: هل تعزز عقيدة مسؤولية الحماية مشروعية استخدام القوة لأغراض إنسانية؟”، المجلة الدولية للصليب الأحمر، المجلد 91، العدد 876 (جنيف: ديسمبر/كانون الأول 2009).

    • الرسائل الجامعية:

لخضر، رابحي، “التدخل الدولي بين الشرعية الدولية ومفهوم سيادة الدولة”، رسالة دكتوراه، جامعة أبي بكر بلقايد، الجزائر، 2015.

سيف الدين، زيناي، “مبدأ سيادة الدول في ظل أحكام القانون الدولي العام”، مذكرة مكملة لنيل شهادة الماستر في الحقوق، جامعة محمد العربي بن مهيدي، الجزائر، 2019 / 2020.

عبد القادر، نجم الدين، “الاعتراف بالدولة في القانون الدولي”، رسالة تكملة لمتطلبات الحصول على درجة الماجستير في القانون، جامعة الخرطوم، السودان، 2006.

    • الوثائق:

الإعلان الدستوري، المجلس الوطني الانتقالي ـ المؤقت، بنغازي: 3 أغسطس 2011.

الاتفاق السياسي الليبي، لجنة الحوار السياسي وبعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، 17 ديسمبر 2015.

 القرار رقم 1970، مجلس الأمن ـ جلسة 6491، 26 / شباط فبراير 2011، رقم الوثيقة S/Res/1970(2011)

القرار رقم 1973، مجلس الأمن ـ جلسة 6498، 17 آذار / مارس 2011، وثيقة رقم S/Res/1973/2011.

القرار رقم 2009، مجلس الأمن ـ جلسة 6620، 16 أيلول /سبتمبر 2011، رقم الوثيقة S/2009/2011 .

القرار رقم 2016، مجلـــس الأمـــن ـ جلـــسة 6640، 27 تـــشرين الأول /أكتوبر 2011، وثيقة رقم S/Res/2016/2011.

 القرار رقم 2174، مجلس الأمن ـ جلسته 1427، 14 آب/أغسطس 2014، وثيقة رقم S/Res/ 2174/2014.

القرار رقم 2510، مجلس الأمن ـ جلسة 8722، 12 شباط/ فبراير 2020، وثيقة رقم S/Res/2510/2020.

القرار رقم 2647، مجلس الأمن ـ جبسة 9103، 28 تموز/ يولية 2022، رقم الوثيقة S/Res/2647/2022.

تقرير الأمين العام عن بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، الأمانة العامة للأمم المتحدة، 5 سبتمبر 2014، رقم الوثيقة S2014/653.

    • المصادر الإلكترونية:

ملتقى الحوار السياسي الليبي ـ بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، الباب الخاص بالسلطة التنفيذية (طرابلس: بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، 2021)، في:

lpdf_-_prerogatives_final_arabic_0.pdf (unmissions.org)

ملتقى الحوار السياسي ـ بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، خارطة الطريق للمرحلة التمهيدية للحل السياسي الشامل (طرابلس: بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، 2021)، في:

lpdf_-_roadmap_final_arabic_0.pdf (unmissions.org)

    1. المراجع الأجنبية:

    1. Books:

Skovgaard, jakob, French and German Security Policy: Close Allies with Differing Views on the Intervention in Libya, Lund: Lunds Universitet, Statsvetenskapliga institutionen, 2013).

    • Electronic Resources:

 Bhardwa, Maya, “Development of Conflict in Arab Spring Libya and Syria: From Revolution to Civil War”, Washington University International Review, 2012.

https://dokumen.tips/download/link/development-of-conflict-in-arab-spring-libya-and-syria-spring-libya-and-syria

 Libya: Examination of intervention and collapse and the UK’s future policy options, Third Report of Session 2016–17,by the House of Commons, September 6, 2016 (https://publications.parliament.uk/pa/cm201617/cmselect/cmfaff/119/119.pdf), accessed January 1, 2023.

    • Thesis:

Hasler. Stefan, “Explaining Humanitarian Intervention in Libya and Non-Intervention in Syria”, Master Thesis of Art (, Naval Postgraduate School, California, June 2012.


[1]– Stefan Hasler, “Explaining Humanitarian Intervention in Libya and Non-Intervention in Syria”, Master Thesis of Art (, Naval Postgraduate School, California, June 2012, 50.

[2] – Ibid, 47 – 48.

[3]– غفران بنت عايض القحطاني، “تدويل السيادة الوطنية في ظل المعاهدات والاتفاقيات الدولية””، المجلة العربية للنشر العلمي، العدد 42 (عمان: 2 ابريل 2022)، ص 352 – 354.

[4]– زيناي سيف الدين، “مبدأ سيادة الدول في ظل أحكام القانون الدولي العام”، مذكرة مكملة لنيل شهادة الماستر في الحقوق، جامعة محمد العربي بن مهيدي، الجزائر، 2019 / 2020، ص 53.

[5] – غفران القحطاني، مرجع سابق، ص 359 – 360.

[6]–   زيناي سيف الدين، مرجع سابق، ص 49.

[7] –  المرجع السابق، ص 364.

[8] – زيناي سيف الدين، مرجع سابق، ص 42 – 48.

[9]–  المرجع السابق، ص 57.

[10]–  المرجع السابق، ص 54 – 55.

[11]–  المرجع السابق، ص 42 – 48.

[12]–  المرجع السابق، ص 64.

[13]–  المرجع السابق، ص 67.

[14]–  المرجع السابق، ص 63.

[15]– إيف ماسينغهام، “التدخل العسكري لأغراض إنسانية: هل تعزز عقيدة مسؤولية الحماية مشروعية استخدام القوة لأغراض إنسانية؟”، المجلة الدولية للصليب الأحمر، المجلد 91، العدد 876 (جنيف: ديسمبر/كانون الأول 2009) ، ص 160.

[16]– المرجع السابق، ص 158.

[17]– غفران القحطاني، مرجع سابق، ص363.

[18]– إيف ماسينغهام، مرجع سابق، ص 158.

[19]– Maya Bhardwa, “Development of Conflict in Arab Spring Libya and Syria: From Revolution to Civil War”, Washington University International Review, 2012, 77 – 78.

https://dokumen.tips/download/link/development-of-conflict-in-arab-spring-libya-and-syria-spring-libya-and-syria

[20]– زيناي سيف الدين، مرجع سابق، ص 56.

[21]– القرار رقم 1973، مجلس الأمن ـ جلسة 6498، 17 آذار / مارس 2011، وثيقة رقم S/Res/1973/2011.

[22]– القرار رقم 2016، مجلـــس الأمـــن ـ جلـــسة 6640، 27 تـــشرين الأول /أكتوبر 2011، وثيقة رقم S/Res/2016/2011.

[23]– Stefan Hasler, 124.

[24]– رابحي لخضر، “التدخل الدولي بين الشرعية الدولية ومفهوم سيادة الدولة”، رسالة دكتوراه، جامعة أبي بكر بلقايد، الجزائر، 2015، ص 291 – 293.

[25]– Jakob Skovgaard, French and German Security Policy: Close Allies with Differing Views on the Intervention in Libya, Lund: Lunds Universitet, Statsvetenskapliga institutionen, 2013), 6.

Also, see: Stefan Hasler, 122.

[26] Libya: Examination of intervention and collapse and the UK’s future policy options, Third Report of Session 2016–17,by the House of Commons, September 6, 2016 , 10 – 11 (https://publications.parliament.uk/pa/cm201617/cmselect/cmfaff/119/119.pdf), accessed January 1, 2023.

[27]– القرار رقم 1973، مرجع سابق.

[28] – القرار رقم 1970، مجلس الأمن ـ جلسة 6491، 26 / شباط فبراير 2011، رقم الوثيقة S/Res/1970(2011).- القرار رقم 2009، مجلس الأمن ـ جلسة 6620، 16 أيلول /سبتمبر 2011، رقم الوثيقة S/2009/2011.

[29]–  المرجع السابق.

أنظر أيضا: رابحي لخضر، مرجع سابق، ص 169.

[30]– الإعلان الدستوري، المجلس الوطني الانتقالي ـ المؤقت، بنغازي: 3 أغسطس 2011.

[31]– المرجع السابق.

[32]– زيناي سيف الدين، مرجع سابق، ص ص 59 – 60.

[33]– نجم الدين عبد القادر، “الاعتراف بالدولة في القانون الدولي”، رسالة تكملة لمتطلبات الحصول على درجة الماجستير في القانون، جامعة الخرطوم، السودان، 2006، ص 29.

[34]– تقرير الأمين العام عن بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، الأمانة العامة للأمم المتحدة، 5 سبتمبر 2014، رقم الوثيقة S2014/653، ص 10 – 14.

[35]– القرار رقم 2174، مجلس الأمن ـ جلسته 1427، 14 آب/أغسطس 2014، وثيقة رقم S/Res/ 2174/2014.

[36]– الاتفاق السياسي الليبي، لجنة الحوار السياسي وبعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، 17 ديسمبر 2015.

[37]– القرار رقم 2510، مجلس الأمن ـ جلسة 8722، 12 شباط/ فبراير 2020، وثيقة رقم S/Res/2510/2020.

[38]– ملتقى الحوار السياسي ـ بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، خارطة الطريق للمرحلة التمهيدية للحل السياسي الشامل (طرابلس: بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، 2021)، في:

lpdf_-_roadmap_final_arabic_0.pdf (unmissions.org)

[39]– المرجع السابق.

[40]– المرجع السابق.

[41]– المرجع السابق.

[42]– ملتقى الحوار السياسي الليبي ـ بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، الباب الخاص بالسلطة التنفيذية (طرابلس: بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، 2021)، في:

lpdf_-_prerogatives_final_arabic_0.pdf (unmissions.org)

[43]–  المرجع السابق.

[44]– ملتقى الحوار السياسي، مرجع سابق.

[45]– المرجع السابق.

[46] – القرار رقم 2647، مجلس الأمن ـ جبسة 9103، 28 تموز/ يولية 2022، رقم الوثيقة S/Res/2647/2022.

 

د. خيري عمر

باحث في النظم السياسية، عمل أستاذاً مساعداً في جامعة صقريا-تركيا. حصل على دكتوراه الفلسفة في العلوم السياسية من جامعة القاهرة، وتَخصّص في قضايا الأحزاب والحركات الاجتماعية. صدر له كتاب “تجربة المعارضة السودانية في المنفى: التجمع الوطني الديمقراطي” (2021)، ونشر أوراقا بحثية منها؛ “القضية الفلسطينية بين التكيف والتحول الجيوسياسي الإقليمي من 2011″ (مجلة دراسات شرق أوسطية 2021) و”إثيوبيا بين الفيدرالية والتفكك” (رؤية تركية 2022).

صفحة الباحث في موقع دراسات نقدية – مركز دراسات الاسلام والشؤون العالمية CIGA:

 

https://cigacriticalvoices.com/index.php/dr-khairy-ar/ 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *