في هذا المقال يُرافع نيل فرغسون عن سياسة الانفراج باعتبارها أفضل مقاربة يمكن للولايات المتحدة أن تتبّعها في التعامل مع الصين، مستلهمًا ذلك من إرث هنري كيسنجر أثناء الحرب الباردة. يرتبط كيسنجر بشكلٍ وثيق بمفهوم الانفراج، الذّي اكتسب شهرةً في أواخر الستينيات والسبعينيات. بصفته مستشارًا للأمن القومي الأمريكي ولاحقًا وزيرًا للخارجية، دافع كيسنجر عن الانفراج كوسيلة لتخفيف حدّة التوتّرات بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي أثناء الحرب الباردة. كان الانفراج يهدف إلى منع الحرب الباردة من التصاعد والتحوّل إلى صراعٍ ساخن، بدلاً من تعزيز الصداقة بين القوتين العظميين، حيث آمن كيسنجر أنّه من الضروري الاعتراف بالصراع الأيديولوجي بين القوتين وهما يتحرّكان في العصر النووي. وازنت مقاربته بين الردع والتعايش، محاولًا عبرها جذب السوفيات للانخراط في قضايا مختلفة مثل مراقبة الأسلحة والتجارة، مع البقاء في حالة يقضةٍ وحذرٍ ضدّ طموحات توسّعهم، فمثلما كتب كيسنجر نفسه أنّ الانفراج يعني اعتناق «كلٍّ من الردع والتعايش، وكلّ من الاحتواء وجهد التخفيف من التوترات».
اليوم، يبدو أنّ صانعي السياسات في واشنطن يتبنّون مقاربةً مماثلة تجاه الصين، مُشدّدين على أهميّة منع التنافس من التصاعد إلى نزاعٍ، والاعتراف بالتحديات العالمية المشتركة. يشير هذا التحوّل نحو استراتيجياتٍ شبيهةٍ بالانفراج إلى اعترافٍ عمليٍ بضرورة العيش المشترك في ظلّ التنافس.
على الرغم من أهميّته التاريخية، تراجع تفضيل صناع القرار للانفراج مع مرور الوقت. اتّهم نُقّادٌ من اليسار واليمين كيسنجر بإعطاء الأولوية للسياسة الواقعية على حساب حقوق الإنسان وتمكين النزعة التوسّعية السوفياتية. أدان نُقّادٌ مثل الرئيس الأسبق رونالد ريغان الانفراج ونظر إليه باعتباره استرضاءً، معتبرين أنّه أعطى الكثير من الأراضي للسوفيات دون الحصول على تنازلاتٍ كافيةٍ في المقابل. بحلول فترة رئاسة ريغان، كان الصقور مصدومين من مقاربة كيسنجر، معتبرين الانفراج سياسةً فاشلةً تخدم الاتحاد السوفياتي. نتيجةً لذلك، أصبح الانفراج مفهومًا مشوّهًا حتّى قبل انتهاء ولاية كيسنجر.
بين الاحتواء والاسترضاء والانخراط يوجد الانفراج:
في القسم الأول من المقال، يُميّز الكاتب بين الانفراج وسياسة الاسترضاء التّي تبنّتها بريطانيا في ثلاثينيات القرن العشرين تجاه هتلر. كان الانفراج يهدف إلى احتواء النزعة التوسّعية السوفياتية في السبعينيات، على عكس سياسة الاسترضاء في الثلاثينيات. لقد نجح الانفراج في الحؤول دون اندلاع حربٍ عالمية، وتسبّب في المقابل في زيادة التعاون بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. مع مواجهة واشنطن لحربٍ باردةٍ جديدةٍ ضدّ الصين، هناك خطرٌ من قيام الصقور بعرقلة الجهود الشبيهة بالانفراج التّي تتبنّاها إدارة بايدن أو الإدارات القادمة من قِبل الصقور، مُردّدين صدى الانتقادات السابقة. غالبًا ما يتّهم الجمهوريون خصومهم بالليونة تجاه الأعداء، متشابهين في ذلك مع انتقادات ريغان للانفراج. ومع ذلك، فإنّ الدعوة إلى الاحتواء الصارم قد تُبالغ في تقدير قوة الولايات المتحدة، في حين يمكن أن يقلّل تجنّب التصعيد من أهمية الردع. لقد جمعت استراتيجية كيسنجر بين الانخراط والاحتواء بشكلٍ فعّال في السبعينيات، مُتكيّفةً مع المشهد الاقتصادي والرأي العام المسيطرين. اليوم، هناك حاجة إلى مقاربةٍ مماثلة، خاصةً بالنظر إلى موقع الصين المتميّز ذي الأفضلية مقارنةً بالاتحاد السوفياتي.
لماذا آثر كيسنجر سياسة الانفراج زمن الحرب الباردة؟
في القسم الثاني من المقال، يشير الكاتب إلى منتقدي هنري كيسنجر الذّين يُجادلون بأنّ عدسة الحرب الباردة الخاصّة به أدّت إلى مقاربةٍ ضيّقة النظر، حيث يرون كلّ قضية بوصفها حاسمةً في الصراع ضدّ الاتحاد السوفياتي. يرى النُقّاد أنّ كيسنجر أعطى الأولوية لاحتواء القوة السوفياتية قبل كلّ شيء في السياسة الخارجية الأمريكية. مع ذلك، يتجاهل ذلك التهديد الحقيقي الذّي كان يشكّله الاتحاد السوفياتي، خاصّةً في العالم الثالث. وعلى الرغم من وعيه بدوافع الاتحاد السوفياتي الخفيّة، إلاّ أنّ كيسنجر سعى لتبنّي سياسة الانفراج لتجنّب أخطار سياسة حافّة الهاوية التّي شهدها العالم في السابق وتجنّب تهديد الحرب النووية الذّي يلوح في الأفق. لقد أكّد كيسنجر على الواجب الأخلاقي للتعايش، مُظهرًا فهمًا عميقًا للإمكانية الكارثية للصراع النووي.
تثير موقف كيسنجر بشأن الأسلحة النووية الجدل، خاصّةً داخل الدوائر المحافظة، حيث حافظ كيسنجر على توازنٍ بين اهتمامه بسيناريوهات الحرب النووية المحدودة من جهة ورعبه من احتمال نشوب صراعٍ واسعِ النطاق من جهةٍ أخرى.
علاوةً على ذلك، فقد تعرّضت مقاربة كيسنجر المتعلّقة بالمحادثات حول مراقبة الأسلحة لانتقاداتٍ من البنتاغون، مع اتهاماتٍ بتجاهله للانتهاكات السوفياتية للاتفاقيات الناتجة. كان مسؤولو البنتاغون مستائين بشكلٍ خاصّ من كيفية تعامل كيسنجر مع محادثات تقييد الأسلحة الاستراتيجية (المعروفة اختصارًا بـ سالت)، التّي بدأت في نوفمبر 1969 وفتحت الطريق أمام أول اتفاقيةٍ كبرى لتقييد الأسلحة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. بحلول سبتمبر 1975، كانت تقارير المخابرات تزعم استخفاف الاتحاد السوفياتي بالتزاماته في معاهدة سالت وذلك من أجل تعزيز هيمنته النووية، كما أشارت التقارير إلى سعي موسكو لتحقيق التفوّق النووي، وهو ما يتعارض مع مبدأ التكافؤ في المحادثات. وقد دارت اتهامات بين المسؤولين الحكوميّين، مؤكّدةً أنّ كيسنجر كان على علمٍ بهذه التطوّرات لكنّه آثر تجاهلها. ومع ذلك، كانت وجهة نظر كيسنجر فيما يتعلّق بالتكافؤ النووي مختلفة، معتقدًا أنّ التفوّق الاقتصادي والتكنولوجي للولايات المتحدة سيُضعف في نهاية المطاف الهيمنة النووية السوفياتية.
في نهاية المطاف، كان تركيز كيسنجر على الدبلوماسية يهدف إلى الحدّ من خطر وقوع كارثةٍ نووية. وعلى الرغم من الانتقادات الموجّة إليه، كانت حساباته الاستراتيجية مدفوعةً بفهمٍ عميقٍ لتعقيدات ومخاطر الصراع النووي.
مكاسبٌ استراتيجية لسياسة الانفراج:
في القسم الثالث من المقال يُغطّي فرغيسون إنجازاتٍ أخرى للانفراج الذّي دعا له كيسنجر خلال الحرب الباردة على الرغم من الانتقادات الشديدة له. إضافةً إلى المخاوف بشأن التكافؤ النووي السوفياتي، انتقد الحافظون كيسنجر لما اعتبروه قبوله للطابع الظالم للنظام السوفياتي، حيث نبع هذا الانتقاد من تردّده في التعامل مع قضايا كالقيود السوفياتية على الهجرة اليهودية ومعاملة المعارضين السياسيّين مثل ألكسندر سولجينيتسين. كان قرار كيسنجر بعدم لقاء سولجينيتسين خلال زيارته إلى الولايات المتحدة في السبعينيات قد أشعل المعارضة المحافظة بشكلٍ كبير.
أدان سولجينيتسين، الذّي اعتُبر من بين أشدّ المعارضين لكيسنجر، الانفراج بتمكين الشيوعية السوفياتية من الاتّساع، حيث بدت أحداثٌ مثل سقوط سايغون (فيتنام) وصعود نُظمٍ شيوعيةٍ في كمبوديا وأنغولا وكأنّها تُثبت انتقادات المحافظين. مع ذلك، دافع كيسنجر عن الانفراج باعتباره سياسةً ضروريةً لتجنّب الصراع النووي، حتّى مع إقراره بتهديدات الاتحاد السوفياتي لمصالح الولايات المتحدة.
على الرغم من قلق كيسنجر بشأن النزعة التوسّعية السوفياتية، فإنّ إدارة الرئيس جيرارد فورد واجهت قيودًا في مواجهة التحرّكات العسكرية السوفياتية، خاصّةً في غياب دعم الكونغرس لها. لقد أكّد كيسنجر على ضرورة المرونة في حلّ النزاعات، ولكنّه اعترف بالقيود المحليّة على العمل الأمريكي.
سعت استراتيجية كيسنجر إلى تقليص نفوذ الاتحاد السوفياتي مع الحفاظ على الانخراط الدبلوماسي، حيث ساهم الانفراج، تحت قيادته، في بلوغ نتائج إيجابية، فمن خلال تخفيف التوتّرات في أوروبا وفي باقي أنحاء العالم، ساعد الانفراج على الأقل في تحسين حياة بعض الأشخاص القابعين تحت حكم الشيوعية. على سبيل المثال، زاد الانفراج في هجرة اليهود من الاتحاد السوفياتي، ومن خلال إقناع قادة الاتحاد السوفياتي بالتزامهم احترام بعض الحقوق المدنية الأساسية لمواطنيهم كجزءٍ من اتفاقية هلسنكي، أدّت هذه الصفقة في النهاية إلى تآكل شرعية الحكم السوفياتي في أوروبا الشرقية. على الرغم من انتهاء حياة الخدمة الحكومية لكيسنجر مع إدارة فورد، إلاّ أنّ مقاربته الاستراتيجية استمرت في التأثير على السياسة الخارجية الأمريكية تحت حكم الإدارات اللاحقة، بما في ذلك تلك الناقدة للانفراج كإدارات كارتر وريغان. حتّى مع اتّباع ريغان لسياسات تتجاوز الانفراج، فقد استمرّت عناصرٌ من مقاربة كيسنجر في التواجد، حيث اعتمد ريغان تقليصًا في الترسانة النووية شبيهًا بما اقترحه كيسنجر من قبل.
نحو نسخةٍ ثانيةٍ من الانفراج في عصر التنافس مع الصين:
في القسم الأخير من المقال، يُرافع فرغيسون لصالح تبنّي نسخةٍ جديدةٍ من الانفراج في خِضّم عصر التنافس بين الولايات المتحدة والصين، مستلهمًا إيّها من إرث كيسنجر. كان مفهوم كيسنجر للانفراج، الذّي تمّ تجسيده في السبعينيات وسط التحدّيات الداخلية والخارجية للولايات المتحدة، يهدف إلى الاعتراف بحدود القوة الأمريكية مع تقليل أخطار الصراع النووي من خلال اتّباع مزيجٍ من آليات الحوافز والردع. لم يعنِ الانفراج التقبّل أو الثقة أو التساهل مع السوفيات. كما لم يعنِ السماح لهم بتحقيق التفوّق النووي، أو السيطرة الدائمة على شرق أوروبا، أو بناءِ إمبراطوريةٍ في العالم الثالث.
أثبت الانفراج نجاحه على الرغم من الانتقادات المُوجّهة له، مُتيحًا للولايات المتحدة جعل استراتيجيتها أكثر استقرارًا في الحرب الباردة، كما نسج حباله حول الاتحاد السوفياتي بما يكفي لجعله يتعثّر في تدخّلاتٍ مُكلفةٍ كغزوه لأفغانستان. كان كيسنجر يعتقد أنّ هذه الدروس تنطبق على المنافسة الحالية بين الولايات المتحدة والصين، حيث حذّر من “حربٍ باردةٍ” قادمة، بسبب التقدّم التكنولوجي، كتقنيات الذكاء الاصطناعي، الذّي يهدّد بجعل الأسلحة لا سريعةً ودقيقةً فحسب، بل وذاتيةَ العملِ بالكامل. حثّ كيسنجر أيضًا على التعاون للتخفيف من التهديدات الوجودية القائمة، خاصّةً فيما يتعلّق بتايوان.
ومع ذلك، تعرف النقاشات المعاصرة حول سياسة الولايات المتحدة تجاه الصين اختلافًا. يدعو البعض، مثل إلبريدج كولبي، إلى “استراتيجية الانكار” لردع تحدّي الصين للحكم الذاتي لتايوان. في بعض الأحيان، طرحت إدارة بايدن شكوكًا حول سياسة الغموض الاستراتيجي طويلة الأمد تجاه تايوان، حيث تمتنع الولايات المتحدة عن الاعلان بشكلٍ صريحٍ ما إذا كانت ستلجأ إلى العمل العسكري لحماية الجزيرة أم لا. علاوةً على ذلك، يوجد تقريبًا اتفاقٌ واسعُ النطاق عبر خطوط الأحزاب السياسية على أنّ المقاربة السابقة للتعامل مع بجين كانت مَعيبةً. كانت هذه الاستراتيجية مبنيةً على افتراضٍ مُضلِّلٍ يدّعي بأنّ التعامل المتزايد في مجال التجارة مع الصين سيؤدّي تلقائيًا إلى حدوث تحريرٍ سياسيٍ داخل البلاد. مع ذلك تواجه هذه المقاربة انتقاداتٍ كسابقاتها، حيث يُقدّم أنصار الانفراج الجديد حُججًا ضدّ سياسة حافة الهاوية المُطوَّلة، داعين إلى المفاوضات عبر مختلف المجالات، بما في ذلك مراقبة الأسلحة والتجارة والتكنولوجيا.
إنّ تبنّي سياسةَ انفراجٍ جديدة سيكون أمرًا شبيهًا بالسابق، حيث لن يتضمّن ذلك التساهل مع الصين، بل سيتضمن بدلاً من ذلك المشاركة في مفاوضاتٍ معها لإدارة التوتّرات. على الرغم من أنّ الانفراج ليس علاجًا سحريًا، إلاّ أنّه يُوفّرُ إطارًا لمعالجة التحدّيات الحالية. لقد اعتمدت إدارة بايدن مصطلحًا جديدًا، “إزالة المخاطر”، لوصف مقاربتها، على نحوٍ يعكس تعقيدات المشهد الجيوبوليتيكي الحالي. على الرغم من الاختلافات القائمة بين الحاضر والماضي، ولا سيما مع وجود اعتمادٍ اقتصاديٍ متبادلٍ بين القوى الكبرى، قد تكون الاستراتيجية المُثلى التّي ينبغي تبنّيها استراتيجيةً تُشبه الانفراج. لذلك، يجب على النُقّاد تقييم هذه المقاربة بدقّة لتجنّب تكرار التشويهات التاريخية المشابهة لتلك التّي واجهها كيسنجر خلال فترة ولايته.
مؤرخ بريطاني-أمريكي وأحد أبرز الباحثين المعاصرين في العلاقات الدولية، وهو كبير الباحثين في مؤسّسة هوفر بجامعة ستانفورد، وزميل بارز في هيئة التدريس في مركز بلفر للعلوم والشؤون الدولية بجامعة هارفارد. يتميّز فرغيسون بغزارة انتاجه المعرفي، فهو مؤلف لستة عشر كتابًا، منها، “رثاء الحرب”، “آل روتشيلد”، “الإمبراطورية”، “الحضارة”، و”كيسنجر، 1923-1968: المثالي” الذّي فاز بجائزة آرثر روس من مجلس العلاقات الخارجية. كما أنّه صانع أفلام حائز على جوائز، حيث فاز بجائزة إيمي الدولية عن سلسلته “صعود المال”. كان كتابه لعام 2018، “الساحة والبرج”، من أكثر الكتب مبيعًا وفقًا لنيويورك تايمز. يكتب فرغيسون بانتظام لمنصة بلومبرغ أوبينيون منذ 2020. أحدث كتبه، “الهلاك: سياسة الكارثة” (2021).
باحث رئيسي بمركز دراسات الإسلام والشؤون العالمية (CIGA) التابع لجامعة إسطنبول صباح الدّين زعيم بتركيا. تهتّم أعماله البحثية بمجال الجيوبوليتيك، نظريات العلاقات الدولية، سياسات القوى العظمى والنظام الدولي، جيوبولتيك أوراسيا وبحر الصين الجنوبي وشمال إفريقيا، السياسة الخارجية التركية والسياسة الخارجية الجزائرية. له العديد من الكتب والدراسات والترجمات والملخصّات الأكاديمية المنشورة بالعربية والإنجليزية، من مؤلّفاته كتاب: “النظام الدولي الليبرالي: جون ميرشايمر في مواجهة جون آيكينبري-صعودٌ أم سقوط؟” (2021)، وكتاب: “أثر التحوّلات الطارئة في بنية النظام الدولي على التوجّهات الكبرى للسياسة الخارجية التركية” (2017)، وكتاب: “آفاق الانتقال الديمقراطي في روسيا” (2015).