الكلمات المفتاحيّة: الحرب العالمية، النزاعات الإقليمية، القوى التعديلية، حدود القدرات الأمريكية، دروس الحرب العالمية الثانية
يُحذّر هال براندز في هذا المقال من تصاعد مخاطر النزاع العالمي الحالي عبر استحضار التشابه القائم بين الصراعات الإقليمية الحالية والأحداث التّي أدّت إلى الحرب العالمية الثانية، داعيًا الولايات المتحدة إلى معالجة قدراتها العسكرية والاستعداد الاستراتيجي لمواجهة التحدّيات القادمة. يذكّرنا الكاتب هنا بأنّ الحرب العالمية الثانية بدأت كسلسلةٍ من المنافسات المرتبطة على نحوٍ فضفاض بالهيمنة في مناطق مفتاحية حول العالم، والتّي تصاعدت وتراكمت لتتحوّل إلى صاراعٍ عالميٍ أشمل. يُجادل براندز بأنّ أمرًا كهذا يمكن أن يحدث مع الصراعات الحالية: في أوروبا، مع الغزو الروسي لأوكرانيا. في الشرق الأوسط، مع الصراع الدائر بين “إسرائيل” وحماس والذّي يُسبّب عدم استقرارٍ عامٍ في المنطقة. وفي شرق آسيا مع “السلوكيات العدوانية للصين” هناك، خاصّةً عبر مضيق تايوان.
هكذا اندلعت آخرُ حرب:
يعود الكاتب في القسم الأول من المقال إلى السياق التاريخي للحرب العالمية الثانية ليُنبّهنا إلى الكيفية التّي بدأت بها الحرب العالمية الكبرى كتطورٍ تدريجي للصراعات التّي كانت دائرةً في ثلاثة أقاليم متفرّقة شملت: “الهجوم الياباني على الصين ومنطقة آسيا والمحيط الهادئ، ومحاولة إيطاليا إرساء إمبراطورية لها في إفريقيا وحوض البحر الأبيض المتوسط، وكذا الدفع الألماني نحو إرساء وضع الهيمنة في أوروبا وخارجها.” لم تكن هذه الأزمات تحظى في البداية بالكثير من القواسم المشتركة، غير تبنّي هذه القوى لنظام حكمٍ استبدادي، ورغبتها في تغيير الوضع القائم، وغالبًا ما كانت القوى الفاشية في ثلاثينيات القرن الماضي متنافسةً مثلما كان الحلفاء كذلك.
يحدّد الكاتب العوامل المساهمة في الاندماج التدريجي للأزمات الإقليمية وتشكّل التحالفات المتنافسة. أولًا، تتقاسم القوى الفاشية غاياتٍ مشتركةٍ أساسية، إذْ تسعى إلى تحقيق تحوّلٍ في النظام العالمي حيث ستُرسي القوى “التّي لا تحظ بمجالات نفوذٍ ومزايا” إمبراطورياتٍ واسعة من خلال اتبّاع تكتيكاتٍ وحشية، متجاوزةً القوى الديمقراطية. ثانيًا، ظهر شكل من أشكال الاعتماد المتبادل الضارّ، حيث يُفاقم عدم الاستقرار في إحدى المناطق من حالة عدم الاستقرار في مناطق أخرى. على سبيل المثال، أدّى إهانة إيطاليا لمبادئ عصبة الأمم، من خلال اعتدائها على إثيوبيا في العام 1935، إلى تعبيد طريق هتلر لإعادة تسليح منطقة الراينلاند في العام الموالي. أمّا العامل الثالث فيتمثّل في انقسام العالم إلى معسكراتٍ متنافسةٍ بسبب برامج العدوان الشديد التّي تابعتها القوى الفاشية. شكّلت ألمانيا وإيطاليا تحالفاتٍ ضدّ الديمقراطيات الغربية، وانضمّت اليابان إلى هذين القوتين في العام 1940 لردع التدخّل الأمريكي المتوسّع في آسيا. كانت القوى التعديلية الثلاث تهدف إلى خلق “نظام جديد للأمور” على مستوى عالمي. هذا التحالف القائم بينها دفع الرئيس الأمريكي روزفلت في العام 1941 إلى الاعتراف بأنّ: «جميع العمليات العدائية في أوروبا وإفريقيا وآسيا ما هي سوى أجزاء مترابطة من صراعٍ عالمي واحد». في نهاية المطاف، فَرَضَ تماسكُ قوى المحور وتصاعدُ العدوان تشكيل تحالفٍ واسعٍ ضمّ مجموعةً من الدول في مواجهتهم. يسلّط الكاتب الضوء على الطبيعة التحوليّة للحرب العالمية الثانية، إذْ تحوّلت الصدامات الإقليمية إلى صراعٍ عالميٍ مع مشاركة الولايات المتحدة في صراعاتٍ بعيدة في كلٍّ من أوروبا والمحيط الهادئ.
“دِيجَا فُو”: تاريخٌ يُعيد نفسه الآن:
في القسم الثاني من المقال، يقارن هال براندز بين المشهد الجيوبولتيكي العالمي الحالي وحقبة ثلاثينات القرن الماضي، مؤكّدًا على ثلاث تحدياتٍ إقليميةٍ رئيسية: عملية البناء العسكري السريعة للصين في المحيط الهادئ الغربي والهادفة لطرد الولايات المتحدة من المنطقة. حرب روسيا في أوكرانيا كجزء من جهودها لاستعادة الهيمنة في شرق أوروبا والفضاء السوفياتي السابق. وانخراط إيران في صراعٍ من أجل الهيمنة الإقليمية في الشرق الأوسط. تتقاسم هذه الدول التعديلية صفاتٍ مشتركة أبرزها الحكم الاستبدادي، والتظلّمات الجيوبولتيكية، والرغبة في تحدّي النظام القائم بقيادة الولايات المتحدة. اثنان من هذه التحدّيات تطوّرت لتتصاعد إلى نزاعاتٍ فعليّةٍ نشطة: الحرب في أوكرانيا كصراعٍ بالوكالة بين روسيا والغرب، والحرب في الشرق الأوسط، التّي أثارت نزاعًا مكثفًا أسفر انتشارًا للعنف عبر هذه المنطقة الحيوية.
يشير براندز إلى أنّ هذه الدول التعديلية (الصين وروسيا وإيران) لا تشترك دائمًا في أهدافٍ متطابقة، على غرار الدول التعديلية خلال ثلاثينات القرن الماضي. على الرغم من سعيها لتحقيق الهيمنة في بعض المناطق، قد ينتهي الأمر بينها بالصدام إذا نجحت في دفع العدو المشترك -أيْ الولايات المتحدة- خارج أوراسيا. على سبيل المثال، تسعى روسيا والصين على حدٍّ سواء إلى تحقيق الهيمنة في آسيا الوسطى. ومع ذلك، فإنّ الشراكة الاستراتيجية الحالية بين روسيا والصين قويّة، إنّها تشبه في طبيعتها اتفاق التحالف السوفياتي الألماني لعام 1939 الذّي سمح للقوتين بالتحرّك بهيجان عبر شرق أوروبا دون المخاطرة بالتنازع مع بعضهما البعض. قد مكّنت هذه الشراكة التركيز على تحدّياتهم مع الولايات المتحدة.
علاوةً على ذلك، تسبّبت الحرب في أوكرانيا في تقوية العلاقات بين روسيا وإيران، فضلاً عن تقوية العلاقات القائمة بين روسيا وكوريا الشمالية، ممّا زاد من التحدّيات التّي تفرضها القوى التعديلية. يُبرِز الكاتب مسألة تزايد الترابط في الصراعات الإقليمية الدائرة في أوراسيا، إذْ تُقدّم القوى التعديلية المساعدة لبعضها البعض. على الرغم من الاختلافات الموجودة بين الوضع الحالي ونظيره في ثلاثينات القرن الماضي، كاختلاف درجة النزعة التعديلية والسِلم النسبي في شرق آسيا، يعترف الكاتب بإمكانية حدوث صراع كارثي. يُعتبر احتمال حدوث نزاع في شرق آسيا، لاسيما إمكانية حدوث عدوان صيني ضدّ تايوان، أمرًا ضارًا للغاية، وقد يؤدّي بشكلٍ محتمل إلى حدوث حالةٍ تشهد حدوث عنفٍ واسع في جميع المناطق الرئيسية الثلاث في أوراسيا. وبالرغم من عدم كون هذا العنف الواسع بالضرورة حربًا عالمية شاملة، فقد يؤدي هذا السيناريو إلى عالمٍ يعاني من تشابك النزاعات عبر مناطق استراتيجية حيوية.
آفاقٌ مظلمة:
يسلّط القسم الثالث من المقال الضوء على وجود سيناريو كابوسي محتمل في الأفق لنزاعٍ أوراسي واسعِ الانتشار، وذلك بسبب قرب العالم من مثل هذا الوضع وعدم استعداد الولايات المتحدة لمواجهته. يشير الكاتب إلى تناقص القدرات العسكرية الأمريكية مقارنةً بالتحدّيات العديدة والمترابطة التّي تواجهها واشنطن، حيث تضطلع الولايات المتحدة حاليًا بدعم “إسرائيل” وأوكرانيا في وقتٍ واحد، وتتسبّب المتطلبات العسكرية والمالية التّي تحتاجها هذه النزاعات في إجهاد قدرات واشنطن العسكرية. ينبّه براندز إلى تحوّل استراتيجية وزارة الدفاع الأمريكية خلال عقد الـ 2010، حيث انتقلت من التركيز على إلحاق الهزيمة بدولتين مارقتين خصمين بشكلٍ متزامن، إلى استراتيجيةٍ تضع أولوية شنّ حربٍ واحدةٍ ضدّ قوة عظمى منافسة، وهي الصين. على الرغم من أنّ هذا التحوّل كان منطقيًا نظرًا لمتطلبات النزاع ذو الكثافة العالية، فإنّه ترك الولايات المتحدة عاجزةً عن التعامل مع التهديدات المتزامنة التّي تفرضها قوى تعديلية متعدّدة. يأتي ذلك في الوقت الذّي تعرف فيه قاعدة الصناعة الدفاعية -التّي كانت حاسمة في تحقيق الفوز خلال الحروب السابقة- تراجعًا بسبب استمرار نقص الاستثمار والتراجع العام في التصنيع في الولايات المتحدة. يشير المقال إلى أنّ الولايات المتحدة ستواجه صعوبة في الحشد لشنّ حربٍ على عدّة جبهات أو حتّى الاستمرار في صراعٍ طويل الأمد في منطقةٍ واحدةٍ مع توفير الدعم للحلفاء في مناطق أخرى في ذات الوقت. من ناحيةٍ أخرى، فإنّ وضع الصين كقوة صناعيةٍ عالمية، خاصّةً في مجالاتٍ مفتاحية مثل بناء السفن والإلكترونيات الدقيقة، يمكن أن يمنحها ميزةً حاسمةً في الحشد والتجنيد. نتيجةً لذلك، يحذّر براندز من أنّه في حالة اندلاع «حربٍ في عدةّ جبهات من أوراسيا، فمن الممكن ألاّ تُظَفّر واشنطن وحلفاؤها بالنصر». يعترف الكاتب بعدم وجود حلٍّ واضحٍ وقريب لهذه التحديات. وفي الوقت الذّي يقترح فيه البعض تركيز القوة العسكرية الأمريكية بشكلٍ ساحقٍ في آسيا، فإنّ مقاربةً كهذه قد يكون لها عواقب على القيادة العالمية. كما أنّ تزايد الانفاق العسكري بشكلٍ هائل -على الرغم من أهميّته استراتيجيًا- يَظهر كتحدّي من الناحية السياسية. أمّا المقاربة الحالية التّي تتبعها إدارة بايدن فتنطوي على التخبّط في الصراعات الدائرة في أوكرانيا والشرق الأوسط مع زيادات هامشية في الإنفاق العسكري، في ذات الوقت تأمل الإدارة ألاّ تصبح الصين أكثر عدوانية.
يختتم الكاتب مقاله بالتأكيد على وجود مشهدٍ دوليٍ مظلم، مؤكّدًا الحاجة إلى الاعتراف بالطبيعة التّي يمكن التفكير فيها بشكلٍ بارز للصراع العالمي حينما تتدهور البيئة الاستراتيجية. يذكّرنا براندز بقوله أنّه: «في العام 2021، كان بإمكان إدارة بايدن أن تتصوّر وجود علاقة “مستقرة قابلة للتنبؤ” مع روسيا – إلى أن غزت تلك الدولة أوكرانيا عام 2022. وفي العام 2023، اعتبر المسؤولون الأمريكيون أنّ الشرق الأوسط أكثر هدوءً من أيّ وقتٍ مضى كان عليه في هذا القرن» – قبل أن يندلع صراعٌ مدمّر ومزعزع للاستقرار الإقليمي. إنّ التوترات بين الولايات المتحدة والصين ليست محمومةً بشكلٍ خاصّ في الوقت الحالي، لكن التنافس المتفاقم والتوازن العسكري المتغيّر يصنعان مزيجًا خطيرًا. غالبًا ما تبدو الكوارث الكبرى غير واردة إلى أن تحدث بالفعل».
أستاذ فخري للشؤون العالمية في مدرسة جون هوبكنز للدراسات الدولية المتقدّمة، وباحث أول بمعهد المشروع الأمريكي، وبمركز التقييم الاستراتيجي وتقييم الميزانية. كما أنّه كاتب عمود في منصّة بلومبروغ. يُعتبر براندز أحد أبرز صقور النزعة الأممية الليبرالية، حيث اشتغل كمساعدٍ خاصّ لوزير الدفاع للتخطيط الاستراتيجي ما بين 2015-2016، وهو زميل باحث في مجلس العلاقات الخارجية للشؤون الدولية، كما اشتغل كمستشار لدى العديد من المكاتب الحكومية ووكالات مجتمع الاستخبارات والأمن القومي. يتميّز براندز بغزارة انتاجه المعرفي فهو كاتب ومُحرّر للعديد من الكتب، منها: “الاستراتيجية الأمريكية الكبرى في حقبة ترامب” (2018)، “صُنع لحظة الأحادية القطبية: السياسة الخارجية الأمريكية وصعود نظام ما بعد الحرب الباردة” (2016)، “دروس المأساة: فنّ الحكم والنظام العالمي” (2019). آخر كتبه المنشورة كتاب “منطقة الخطر: الصراع القادم مع الصين”، بالاشتراك مع مايكل بيكلي (2022).
باحث رئيسي بمركز دراسات الإسلام والشؤون العالمية (CIGA) التابع لجامعة إسطنبول صباح الدّين زعيم بتركيا. تهتّم أعماله البحثية بمجال الجيوبوليتيك، نظريات العلاقات الدولية، سياسات القوى العظمى، جيوبولتيك أوراسيا وبحر الصين الجنوبي وشمال إفريقيا، السياسة الخارجية التركية والسياسة الخارجية الجزائرية. له العديد من الكتب والدراسات والترجمات والملخصّات الأكاديمية المنشورة بالعربية والإنجليزية، من مؤلّفاته كتاب: “النظام الدولي الليبرالي: جون ميرشايمر في مواجهة جون آيكينبري-صعودٌ أم سقوط؟” (2021)، وكتاب: “أثر التحوّلات الطارئة في بنية النظام الدولي على التوجّهات الكبرى للسياسة الخارجية التركية” (2017)، وكتاب: “آفاق الانتقال الديمقراطي في روسيا” (2015).