شروق مستور

دراسات وأوراقُ سياسات/ أغسطس 2024

Emancipation from Western Dependency: The Importance of Building Independent and Resilient Political Identities

By: Chourouk Mestour

Studies and Policy Papers: August 2024

الملخّص:

يتناول المقال عملية التحرّر والمقاومة السياسية والفكرية كضرورة للتخلّص من بقايا الاستعمار، بهدف إنتاج نموذجٍ سياسيٍ وعلميٍ متحرّر من الهيمنة الغربية. يتّم مناقشة التبعية الغربية كأحد أبرز التحدّيات التّي تواجه دول الجنوب، والتّي تؤدّي إلى فقدان الهوية الوطنية والاعتماد المفرط على الغرب، وكذلك العلاقة غير المتكافئة بين الشمال والجنوب، وكيفية استغلال الشمال لموارد الجنوب ومحاولة التأثير على مفهومهم للذات، حيث لطالما سعت القوى الاستعمارية لطمس هويّة الشعوب. يحاول المقال إبراز الفكر التحرّري الذّي يشمل الجانب الممارساتي والأكاديمي، عن طريق الدعوة إلى بناء هويّةٍ سياسيةٍ مستقلةٍ ومُقاوِمة للتبعية من خلال وضع إطار نظري وفكري يمكن أن يتحوّل إلى خطّة عملية عبر خلق توازن بين القيم الثقافية الخاصّة بالذات والعلاقة المتكافئة مع الآخر.

الكلمات المفتاحية: التحرّر، الاستعمار، التبعية، الهيمنة الغربية، هويّة مُقاوِمة

 محتويات المقال:

مقدّمة

  1.  الإطار المفاهيمي
  2. التبعية السياسية وأزمة الهويّة في الجنوب العالمي
  3. نحو بناء هويّاتٍ سياسيةٍ مستقلة

خاتمة

مقدّمة:

تُعتبر التبعية الغربية أحد أبرز التحدّيات التّي تواجه مختلف الدول الواقعة في الجزء الجنوبي من العالم، تتضمن هذه التبعية الاعتماد المفرط على الغرب اقتصاديًا وسياسيًا وثقافيًا، ممّا يؤدّي إلى فقدان الهوية الوطنية والسعي لتقليد النموذج الغربي السياسي.

وتعتبر عملية التحرّر والمقاومة من بين السلوكيات التّي تهدف للتخلّص من بقايا الاستعمار الفكرية والسياسية التّي كرّست مفهوم التبعية، أمّا الفكر التحرّري فيمتّد إلى الجانب العلمي الأكاديمي وذلك عند الحديث عن إنتاجٍ علمي متحرّر من الهيمنة الغربية. بالتالي، تحرص كلّ الفواعل، بما فيها الدولة، على الحفاظ على بقائها المادي والمعنوي من خلال حماية الأرض والسلطة والسيادة، بالإضافة إلى الحفاظ على ما يميّزها عن بقية الدول، مثل الهوية والقيم التّي تشكّل أساسًا للتفرّد والاختلاف.

في هذا السياق، يأتي الخطاب التحرّري والسياسات التحرّرية من التبعية كجزء من هذه العملية. إذْ تؤثّر التبعية على العناصر المادية وتشكّل إحدى جوانب تراجع السيادة الدولية، كما أنّها تؤثّر على هوية الدولة وقدرتها على التميّز والاختلاف عن الأخر.

تناول العديد من المفكرين هذه القضية تحت مسميات مختلفة، وفي سياق العلوم السياسية بالتحديد، يمكننا الحديث عن مقاربة ما بعد الاستعمار أو مقاربة التبعية، التّي تتعامل مع أفكارٍ تتمحور حول العلاقة بين الشمال والجنوب وكيف نتجت تبعية الجنوب للشمال عن طريق استغلال هذا الأخير لموارد الدول الضعيفة سياسيًا.

هذا الاستغلال يؤثّر لا على الجانب الاقتصادي والسياسي فحسب، بل وعلى هوية الدولة أيضًا، وعند الربط بين التبعية والهوية يمكن أن يكون هذا الأمر معقدًا ويتطلّب دراسةً عميقةً للعديد من النواحي الاجتماعية والثقافية والسياسية. في السياق العام، يمكن أن تجعل التبعية المجتمع أو الدولة تعتمد في سياستها أو اقتصادها على فواعل أخرى بشكلٍ يُفقدها بعضًا من استقلاليتها أو هويّتها.

في هذا المقال سنبحث على أهمية وضع بناء نظري وفكري يتّم بلورته فيما بعد في شكل خطّةٍ عمليةٍ تطبيقية تساعدنا على بناء هويّة سياسية مستقلة عن التبعية للغرب، وبناء هويّة مُقاوِمة قادرة على التصدّي لكافة التحدّيات، سواءً كانت داخلية أو خارجية، ومُقاوِمة لكلّ الضغوطات التّي تحاول ترويج النموذج الغربي كنموذج أمثل.

لكن كيف يمكن تحقيق التحرّر من التبعية السياسية للغرب وبناء هويّات سياسية مستقلة ومُقاوِمة في ظلّ الانصهار القائم بين الذات والآخر؟

 

  1. الإطار المفاهيمي:

قبل التطرق لصلب الموضوع نحتاج أولاًّ أن نُقدّم تعريفًا لمصطلح التبعية:

باعتبارها أحد أبرز باحثي ما بعد الكولونيالية، تساءلت غايتري سبيفاك “هل بوسع التابع أن يتكلّم؟”، وكانت تعني بالتابع هنا «الذات المقهورة وأعضاء “الطبقات التابعة”»، أمّا عند أنطونيو غرامشي فتابعين هم من في “المنزلة الدنيا”. إنّ الدراسات في هذا المجال هي محاولات لتمكين «الناس» في نهاية المطاف من أن يقولوا كلمتهم في الصفحات المتحفظة للتأريخ النخبوي، وأن يعبّروا عن آراء المقهورين الحقيقيين، أو يجعلوا أصواتهم الخرساء تتكلّم.

ويشير قاموس بنغوين للعلاقات الدوليّة إلى أنّ «الدولة التابعة هي التّي تكون لها علاقة تبعيّة مع طرف أو أطراف فاعلة أخرى». وبيّن القاموس أنّ الدولة التابعة في السابق كانت مرادفًا للمحميّة، ولكن اليوم أضحى مفهومها مغايرًا.

يُعرّف عزّت السيد محمد التبعية بالمعنى الاصطلاحي كونها: «جملة الترابطات متباينة الأنواع والمستويات بين بلدين، تُقيّد أحدهما –التابع– بمجموعة من القيود تجعله تحت رحمة البلد المتبوع، وتعمل على تسخير إمكاناته وطاقاته لتعزيز مصالح البلد المتبوع، على أنّ هذه القيود قد تكون مفروضة بصورةٍ مباشرة عن طريق المعاهدات والاتفاقيات والامتيازات… أو بصورة غير مباشرة عن طريق آليّة الهيكليّة الاقتصاديّة المهمّشة في البلدان التّابعة التّي فرضتها البلدان المتبوعة لتحقيق أغراضٍ تشرئب إليها هذه البلدان ومن فيها».

أمّا التبعية السياسية فتتجلّى في خطابات وسلوكيات الأنظمة السياسيّة الموالية لجهات خارجيّة، تسيطر على قراراتها في دعم مرشحين محدّدين مثلاً، وكذلك اعتناق الأيديولوجيا التّي تعتنقها الدول الكبرى والولاء لها. فضلاً عن ذلك قد تتجلّى التبعيّة في السماح لدولة أجنبيّة بالتدخّل في الشؤون الداخليّة والنزاعات. باختصار إنّ التبعيّة السياسيّة تشير إلى أنّ القرار السياسي لدولة ما يكون مرهونًا بقرارات دولةٍ أجنبية تملي عليها توجيهاتها.

وأغلبيّة دول العالم الثالث عانت من الاستعمار الذّي خلق فيها تبعيّة سياسيّة. وهذا ما أكّد عليه ماجد آل غزاي حيث أشار إلى أنّ الدول الاستعماريّة اتّبعت: «سياسات مختلفة ومتباينة إلاّ أنّها تهدف للوصول إلى نقطة واحدة مشترك وهي استمرارية السيطرة على هذه الدول، هذه السياسات أسهمت في خلق أشكالٍ وأنماطٍ من النظم السياسيّة والاجتماعيّة تتلاءم مع واقع السيطرة الأجنبيّة وكذلك مع رغبات المحتّل في فرض التفوق الحضاري، لذلك عملت منذ البداية على اختراق وتدمير الأنظمة القائمة وإحلال أنظمة بديلة تابعة بديلاً عنها، ممّا خلق حالة من الازدواجيّة أو الفراغ المؤسّساتي الكبير، وقد انعكس هذا على طابع الحياة السياسيّة في دول العالم الثالث في تلك المرحلة أو المراحل اللاحقة». بالتالي فالتبعية برزت كظاهرة ميدانية قبل ظهورها كنظرية وكمدرسة، حيث كانت مـن إفـرازات المرحلـة الاستعمارية لدول إفريقيا، والعالم العربي، وجنوب شرق آسيا وأمريكا اللاتينية والتّي خرجت مـدمّرة البنى الاقتصادية ومتخلّفة ثقافيًا، ونتيجةً لهذا الوضع انطلقت الدراسات في هذا المجال.

 

  1. التبعية السياسية وأزمة الهويّة في الجنوب العالمي:

أزمة الهوية كإرث استعماري:

يُعتبر الاستعمار الأوروبي لإفريقيا من أبرز الأمثلة على الاستعمار الذّي كان له آثار سلبية وكبيرة على تطوّر القارة الإفريقية. تُعتبر الحُجّة الشائعة بأنّ الاستعمار جلب التعليم والحضارة الغربية إلى إفريقيا وساهم في تقدّمها حُجّةً سطحية وتحتاج إلى تحليلٍ نقدي. على الرغم من الادعاء بأنّ الاستعمار قدّم التعليم الغربي إلى إفريقيا، إلاّ أنّ هذا التعليم لم يكن متجذّرًا في الثقافة والبيئة الإفريقية. بدلاً من أن يسهم في تطوير المجتمعات الإفريقية، ساهم هذا النوع من التعليم في تخلّفها وعدم قدرتها على التقدّم بشكلٍ حقيقي.

أدّى الاستعمار أيضًا إلى ظهور وتأسيس الطبقات والصراع الطبقي في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للشعوب. ساهم في ظهور وتطوير واضح للطبقات في إفريقيا، بما في ذلك البرجوازية الشريكة، البرجوازية الصغيرة، البروليتاريا، والفلاحين. كانت البرجوازية الصغيرة الإفريقية تعمل كحلقة وصلٍ استخدمها الاستعماريون لاستغلال وسرقة اقتصاد الدول الإفريقية

خلقت كلّ هذه العوامل نقطة انطلاقٍ لأزمة هويّة، حيث يشعر الفرد الإفريقي بالاغتراب في وطنه ويواجه التمييز بينه وبين المستعمر، وأيضًا بينه وبين أفارقةٍ آخرين. أدّى هذا إلى تراجع الانتماء الوطني في ظلّ غياب مفهوم محدّد للوطن الذّي كان مستعمرًا. حيث تتجسّد أزمة الهوية عند الشعور بعدم الانتماء، فيتولّد الشعور بالإقصاء وحالة من الاغتراب. ويصعب على أفراد المجتمع التوحّد تحت بوتقة انتماءٍ واحدة تتجاوز الانتماءات التقليدية أو الضيقة. ربما ينتج هذا بسبب عدم حصول المواطنين على احتياجاتهم في الوطن الأم، أو انبهارهم وإعجابهم بالنماذج الغربية، وهي من بقايا الاستعمار. عبّر ابن خلدون عن هذه الفكرة في الفصل الثالث والعشرين من مقدّمته في مقولته الشهيرة التّي تُعبّر عن أزمة الهويّة إلى حدٍّ كبير، فقال أنّ: «…المغلوب مولع أبدًا بتقليد الغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده».

في مجال السياسة، توجد ظاهرة الغلب والتّي تقابلها ظاهرة التقليد في المجال الثقافي–الاجتماعي. من الجدير الإشارة إلى أنّ ابن خلدون نظر إلى هذه العلاقة من منظور المغلوب/المهزوم أو الطرف الأضعف في علاقة القوة. بناءً على ذلك، تحدّث في المجال الثقافي–الاجتماعي عن ظاهرة التقليد. ولو نظر ابن خلدون إلى الأمر من منظور الغالب/المنتصر أو الطرف الأقوى في علاقة القوة، لتحدّث عمّا نسميه اليوم بالهيمنة (Hegemony) في المجال الثقافي–الاجتماعي. هذا يفتح الباب أمام الباحثين لدراسة الخلفية الاجتماعية والسياسية التّي دفعت ابن خلدون للنظر إلى الأمور من هذه الزاوية بالذات.

تعتبر هذه الأزمة إرثًا استعماريًا لأنّ الدول المستعمرة عملت على قطع الصلة مع المجتمعات من خلال فرض ثقافتها ولغتها. كان الهدف من ذلك محو الهوية الأصلية لهذه المجتمعات، وبالإضافة إلى سياسة فرّق تسد، فقد أدّت القيم الغربية المفروضة إلى خلق نخبة مختارة متشبّعة بالقيم الاستعمارية. فبعد نهاية حقبة الاستعمار المُباشر وقع إنسان ما بعد الاستعمار -كما يسمّيه فرانتز فانون- في دوّامة من الأسئلة الوجودية والهويّاتية، كأنّما أراد أن يُعيد اكتشاف ذاته بعد تجربته التاريخية المريرة مع الاستعمار، وراح في تيهٍ ثقافي يبحث عن ملامحه قبل الاستعمار ليتعرّف على نفسه من جديد.

ومن أخطر ما تفرزه أزمة الهوية في الفكر العربي المعاصر هو ما يمكـن تسميتـه بـ “أزمـة الوعي”، وتبدو خطورة هذه الأزمة في أنّ الوعي شديد الارتباط بالهوية. والوعي هنا هو الصفة التّي يملكها الجميع، ولا يستطيع أن يعبر عنها سوى القلّة. نستطيع القول أنّ الوعي أو الإدراك الذاتي للفاعل الدولي أو الأفراد بتمثيل هويّتهم الشخصية أو الهويات الثقافية الأخرى هو نقطة حاسمة. ففي سياق استيعاب مدخلات البيئات الثقافية المختلفة، يجب على الفرد عدم نسيان هويّته الخاصّة التّي تميّزه عن الآخرين. يصف قستنطين زريق “الوضع الثقافي العربي بين الحربين” والذّي مازال سائدًا حتّى الآن بقوله: «إنّ الأمة العربية مقسّمة إلى عناصر متباينة، يُفكّر بعضها تفكيرًا لاتينيًا، والبعض الآخر يُفكّر تفكيرًا أنجلو سكسونيًا، يحيا فريقٌ منهما حياةً شرقيةً محافظة، والفريق الآخر حياةً غربية متهورة، ويسلك بعض جماعاتنا سلوكًا دينيًا، والجماعات الأخرى سلوكا علمانيا…».

إنّ الهوية في جزءٌ منها هي مشروع مستقبلي منفتحٌ دائمًا على القابلية للتجدّد وإعادة التشكيل واكتساب سماتٍ جديدة، فالخطر الذّي يمكن أن يترتّب على وجود أزمة هويّة على المدى البعيـد، هو أنّ وجود هذه الأزمة سوف يؤدّي مع التراكم التاريخي إلى تهديد المساس بالسيادة وتمزيق الوحدة الوطنية داخل الدولة، كما سيفتح الباب أمام التدخّل الخارجي، ممّا سيؤدّي إلى انتزاع السيادة ونقلها إلى كياناتٍ دوليةٍ وإقليميةٍ أكبر. حيث ينشأ التدخّل الأجنبي نتيجة التبعية السياسية وعدم القدرة على الاستقلال التام من تأثير القوى الأخرى. تلك القوى قد تختار النظام السياسي وتدّعي امتلاكها السلطة، ممّا يمنحها شرعية للتدخّل بهدف حفظ السلام الدولي. ومع ذلك، في الواقع، يختلف كلّ وضعٍ داخلي ويتطلّب حلولًا متفاوتة، وينبع هذا من تباين الهويات التعاضدية لكلّ فاعل. هذا يعني أنّ ما قد يكون مناسبًا كحلّ في دول أوروبا قد لا يكون كذلك بنسبةٍ كبيرة في دول الجنوب العالمي.

بالتالي، تبقى أزمة الهوية مستمرة نتيجةً للاستعمار التقليدي ومن ثمّ الاستعمار الجديد بمختلف أشكاله. تظلّ هذه المجتمعات محاصرة بالنماذج الفكرية والسياسية الغربية، سواءً بالقوة العسكرية أو بالتعوّد، ممّا يؤدّي إلى تشويه الإدراك وتثبيت التبعية، هذا ما يدفعنا إلى ضرورة البحث عن بناء هويّة سياسية مستقلة تحقّق مصالح هذه المجتمعات ما بعد الاستعمارية.

 

  1. نحو بناء هويّات سياسية مستقلة:

وَرَثَةُ الأثار الكولونيالية ملزمين بإرساء نموذج عالم جديد تماما بمعنى ما، إذْ لابّد وأن يحظى عالم ما بعد الاستعمار بنموذجٍ سياسيٍ متطابق مع الهويّة بل ويخدم هويّة الدولة المستقلة. وتُعتبر هذه الإلزامية مسؤولية تاريخية، وهنا يبرز لدينا نمطٌ جديد من المقاومة، ليست المقاومة من أجل التحرر من الاستعمار والاستيطان بل مقاومة من أجل التحرّر من النموذج الفكري والسياسي للمستعمر.

يبرز المأزق الحقيقي في مرحلة مابعد الإستعمار، حسب وصف ألبير ميمي، إذْ تكمن علّة التردّد مابعد الكولونيالي في الوقوف ما بين نقطة الوصول والإنطلاق، ومابين الاستقلال والتبعية، وتكمن في الآثار المتبقية وفي ذكريات الإخضاع.

لهذا في إطار الحديث عن بناء هويّات سياسية مستقلة، هناك استراتيجيتان للمقاومة تقود هذه المجتمعات:

  • المقاومة الفكرية، نحو بناء نظرية سياسية:

مرّت البشرية بتجارب سياسية متنوعة، حيث برزت حضارات ساهمت في تطوّر النظرية السياسية، وما قدّمته هذه الحضارات -من بينها الحضارة الإسلامية- في مجال السياسية هو القاعدة التّي ارتكزت عليها أوروبا في نهضتها في المجال السياسي، وإنّ المقاومة الفكرية تكون داخلية أو في الفكر لإعادة تعريف الأنا والهوية السياسة والذات. وعند الحديث عن الهوية الإسلامية في الواقع الدولي، فإنّها مستهدفة من أجل فرض أسس ثقافية وهوياتية غربية وغريبة عليها، تستغل مفاهيم مثل الديمقراطية والحرية، والمشاركة، ومسائل حقوق الإنسان، وإلى غير ذلك من العناصر التّي يعمل الغرب على توظيفها وترويج الادعاء بجمود الهوية الإسلامية ورجعيتها.

حديثنا عن بناء هوية سياسية مقاومة يقودنا أولا إلى التفريق بين الهوية الداخلية التّي أشرنا لها في تعريف الهوية الإسلامية ومكوناتها والتّي تحدّد هويّة المجتمع والأفراد داخليًا والتعاملات فيما بينهم، وأيضًا الهوية الخارجية التّي نُسَوِّق بها لسلوكنا المختلف في تفاعلاتنا مع الآخر. لكن هذا لا يعني وجود خطٍّ فاصل بين الهويتين، بل على العكس من ذلك، فالهوية الداخلية هي التّي تحدّد نقاط الاختلاف بين الأنا والآخر وتحدّد سلوكنا وإدراكنا للآخر. فحسب بول كوورت يجب التفريق بين الهوية الداخلية التّي تتعلّق بالتماسك والانسجام لأطراف دولةٍ أو أمّةٍ واحدة، والهوية الخارجية التّي ترجع إلى طبيعة الاختلاف أو التمايز بين دولةٍ ودولة أخرى، كما اقترح ألكسندر واندت تفريقًا مشابهًا بين الهويات التشاركية والهويات الاجتماعي، حيث تتعلّق الأولى بالصفات الجوهرية التّي تشكّل الفردانية لفاعلٍ معين، وأمّا الثانية فهي مجموع المدلولات التّي يتقمّصها فاعلٌ معيّن مع تبني وجهة نظر الآخرين.

وعند الحديث عن الرؤية الإسلامية للعالم أو للنظام الدولي، فهي مختلفة جدًّا عن المفاهيم المعاصرة في العلاقات الدولية، بحيث لا يمكن تضمينها في النظريات القائمة للسياسة والعلاقات الدولية. ويُجادل البعض بأنّ الإسلام يجب أن يُعامَل “كنموذج للنظرية الدولية بحدّ ذاته”.

وعند الحديث عن علاقة الحضارة الإسلامية بالآخر، على الرغم من وجود تنوع داخلي واضح في الحضارة الإسلامية إلاّ أنّ الإسلام كان يتبنّى فكرة انفتاحه على الأفكار والتأثيرات من حضارات أخرى، بما في ذلك حضارات الهند والصين والغرب، ويعتمد على الدمج بين هذه الأفكار والتقاليد لتطوير وتحسين الحضارة الإسلامية. بالإضافة إلى ذلك، كان حضارة الإسلام تُعتبر واحدة من أكثر الحضارات دينامية عبر التاريخ، حيث عملت على نقل التجارة والثقافة والمعرفة بين الشرق والغرب وبين مختلف الحضارات والشعوب.

لكن هذا الانفتاح لم يكن بسبب غياب هويّة ثابتة، بل هو رغبة في الترويج للهوية الإسلامية السياسية والثقافية، مع تمسّكٍ بالمقومات المحورية والمؤسِّسة للفكر السياسي الإسلامي والحياة ذات الطابع المميز والمختلف عن الطابع الغربي.  على عكس ما يتم الترويج له من الغرب، فإنّ الدّين الإسلامي يحثّ على استخدام العقل والتفكير، على سبيل المثال، كان فلاسفة عرب مثل الكندي والرازي والفارابي وغيرهم يعارضون الاعتقاد الكاثوليكي في سلطة الإله، وكانوا يؤكّدون على أهمية الفرد ودور العقل.

  • المقاومة العملية، نحو نظام سياسي جديد:

الحديث عن نظام سياسي جديد يندرج في إطار علاقة التبيعة مع الآخر، فهو ليس بالضرورة التغيير الجذري، بل هو القدرة على التخلّص من ضغط الآخر على القرار السياسي المستقل، والتمكّن من التسويق والترويج لأنظمتنا التّي يبرز فيها اختلافنا الفكري والهوياتي عن الآخر. يُعبّر جون بول سارتر عن هذه الفكرة فلسفيًا فيقول: «إنّني أطالب بهذه الكينونة التّي هي أنا، أعنى أنّني أود استعادتها، أو بتعبير أدقّ، أنا مشروع استعادة كينونتي».

التوجه نحو بناء نظام سياسي جديد يقودنا أولاًّ للحديث عن النموذج السابق، ولماذا توجّهت دول العالم الجنوبي، كالدول الإسلامية، نحو النموذج الغربي، في حين يتوفّر نموذجهم الخاصّ الذّي يتلاءم مع بيئتهم. فاذا كان الأمر يتعلّق بالعقلانية والبرغماتية، فالإسلام ليس معاديًا للعقلانية، بل لديه تركيزٌ شديدٌ على التجارة (حيث كان النبي محمّد عليه الصلاة والسلام تاجرًا) والنشاط الرأسمالي العقلاني. فقد خلق التجار المسلمون شبكةً تجاريةً وربطوا الحضارات من أوروبا وشمال إفريقيا إلى آسيا. وقد جلب التجار المسلمون الابتكارات مثل الشراع اللاتيني للتجارة على مسافات طويلة، والأسطُرلاب للتنقل، والمواد الكيميائية للتنقل، وإنتاج الحديد والصلب، وتكرير السكر، واستخراج الطاقة من خلال الطواحين الهوائية والمائية، وإقامة المؤسّسات الرأسمالية مثل الشراكات، وقوانين العقود، والبنوك، والائتمان. وقد تطوّرت التجارة على مسافات طويلة وسيطر عليها أولاً العرب، ثمّ مصر، ثمّ العثمانيون. واستفادت فينيسيا الايطالية من التجارة العالمية التّي كانت تسيطر عليها المسلمون في الشرق الأوسط، وخاصّة المصريون. Haut du formulaire بالتالي تحمل حضارة الإسلام والحضارات السابقة في طياتها نماذج اقتصادية وسياسية قابلة للتعديل لتصنع نموذجًا صالحًا لدول المنطقة وهويتهم.

والمأزق ليس في النموذج الديمقراطي الذّي تتبنّاه دول الجنوب، بل في عدم الاعتراف بحقهم في تبنّي النموذج المناسب والتخلّص من الإسلاموفوبيا. فالسبب الرئيسي وراء التعامل مع دول الجنوب، خاصّة الدول الإسلامية، بنظرةٍ استعلائية يعود إلى فكرة التبعية، واعتقاد الغرب بأنّ الاستعمار لا يزال مستمرًا بصورةٍ جديدة، وأنّ أيّ نموذجٍ غير غربي يُعتبر متخلفًا وعنيفًا.Haut du formulaire لقد قام العديد من المفكرين المسلمين بالربط بين الديمقراطية ومبادئ الإسلام، حيث يدعوا محمد الغزالي إلى الاقتداء بأنظمة الحكم الغربية وتجارب الأمم، مؤكّدًا أنّ ذلك يتماشى مع مبادئنا الإسلامية، حيث أشار إلى أنّ الناس يمكنهم تولي شؤونهم بشكلٍ أفضل من خلال الاقتداء بتجارب الأمم الناجحة واستيعاب النظم الحكومية الغربية، ممّا يعزّز التطوّر والتقدّم في مجتمعاتنا. كما أكّد على أهمية الديمقراطية في بناء مجتمعات قائمة على العدالة والمساواة. يتبين أنّ الغزالي كان يسعى إلى إقامة نظام حكم إسلامي مُركّب، يجمع بين مبادئ الشورى الإسلامية والديمقراطية الغربية، وذلك استنادًا إلى التقارب بينهما.

محمد عويضة أشار بودره إلى أنّ الديمقراطية تحمل مبدأً وشكلًا، حيث يكمن الهدف الأساسي للديمقراطية في حريّة الإنسان ومشاركته في صنع القرار الشعبي والتشاور به. وأشار إلى أنّ هذه المفاهيم تتجلّى بوضوح في القيم الإسلامية. ومع ذلك، أوضح أنّ الإسلام ليس متّفقًا مع الديمقراطية كما كانت عند الإغريق القدماء. فالمرجعية في الديمقراطية الإسلامية، حتّى لو اقتضت إرادة الشعب تحديد بعض المحظورات، تبقى الثوابت الدينية والشريعة الإلهية أساسًا للقرار الشعبي. Haut du formulaireوفكرة الأمة هامّة جدًّا في الإسلام بشكلٍ عام. حيث يأمر الله النبّي ويخاطب أعضاء المجتمع بالتشاور، ويُعتبر اتفاق المجتمع مصدرًا مؤكّدًا للحقيقة؛ فقد ورد في التقليد أنّ النبي أكّد أنّ “مجتمعي لن يتفّق على الخطأ”، ويجعل التوافق الشعبي الشعب ككيان الممثّل الرئيسي في النظام السياسي الذّي يعتبره العالم الإسلامي نموذجًا للديمقراطية.

والحديث عن الحوار هنا وعلاقته بالديمقراطية هو محاولة الإجابة على التقارب بين الديمقراطية كمفهوم غربي يحاول أن ينظّم الحياة السياسية والمجتمعية ومبادئ الإسلام، وضرورة اعتراف الآخر بأنّ النموذج الإسلامي يحمل في طيّاته مبادئ أنبل من الديمقراطية، بل تتطابق معه في نقاطٍ عديدة.

تكمن أهمية الحوارات بين الأديان والحضارات في أنّ الحضارات المختلفة تتمتّع بمنظوراتٍ عالمية متنوعة، وتتباين في بعض الأحيان في المواقف الفلسفية حول المسائل التّي تواجه الإنسانية. قد تعتمد الأديان والحضارات على طرقٍ متباينة لحلّ هذه المشاكل، ولكن مع الالتزام بمبدأ احترام النماذج السياسية لكلّ دولة، يمكن تجنّب التدخلات وضمان الإستقلالية. وتطبق العديد من الدول الإسلامية هذا النموذج السياسي (الديمقراطي)، مع الاعتماد على الأحكام الدينية في الشؤون الاجتماعية والأُسرية. لذلك، الأزمة هنا ليست في الدول الإسلامية أو في الجنوب العالمي، بل في الآخر الذّي لا يعترف بالنموذج المختلف، والذّي يسعى لفرض نموذج يتوافق مع الغرب، سواءً عن طريق الإغراء أو الضغط أو ترهيب هذه الدول. لكن على العكس تمامًا، الإسلام الذّي يعتمد على القرآن والحديث كأهم مصادر للمعرفة، يؤكّد بشكلٍ كبيرٍ على أهمية الحوار بين الأديان، والثقافات، والحضارات، في هذه المصادر.Haut du formulaire

فالتوجه نحو نموذج سياسي مختلف لا يعني القطيعة مع الآخر أو العداوة معه، بل هو تحديث النماذج التّي توجد في دول الجنوب العالمي، التّي يمكن أن تستلهم أفكارًا من الغرب دون تقليدها ودون التأثير على الهوية الإسلامية أو هوية الدول الأخرى الإفريقية أو الآسيوية. وهذه التحديثات ليست بالضرورة بدائل جذرية واستئصالية للماضي، بل هي محاولة للتلاحم والتوجّه نحو حوار الحضارات بدلاً من صراع الحضارات، وخلق عالم ونظام دولي أكثر تعدّدية.Haut du formulaire

 

خاتمة:

إنّ هذا النقاش يسلّط الضوء على التحدّيات التّي تفرضها التبعية السياسية في عالم ما بعد الاستعمار، ويشدّد على ضرورة بناء هويّة سياسية مستقلة تستند إلى القيم التّي تمّ تجاهلها وتهميشها. يتطلّب ذلك خلق توازن دقيق بين المبادئ والقيم الثقافية الخاصّة بالفواعل الدولية والعلاقة مع الآخر لإنتاج نظام مشترك، مع الحفاظ على استقلالية النظام الداخلي لدول العالم الجنوبي.

الهوية المُقاوِمة التّي نحتاج إلى إنتاجها يجب أن تكون ذاتية، تجمع بين قيم الأنا والقيم الإيجابية المفيدة من الآخر. يجب أن تمتلك هذه الهوية القدرة على التسويق والانتشار، وأن تشمل جميع أطياف المجتمع، لتكون بديلاً فعّالاً للنموذج الغربي التقليدي، وقادرة على مواجهة التحدّيات بفعالية.

التاريخ يكون مفيدًا كـ “ـقوة دافعة” نحو التقدم. في هذا السياق، تصبح دراسة هويتنا التاريخية وإعادة بنائها وتسويقها أمرًا ضروريًا. ومع ذلك، يجب أن نتجنّب أن يصبح التاريخ “قوة جاذبة” تدفعنا للعودة إلى الماضي. ينبغي أن نستخدم التاريخ كنقطة انطلاقٍ تساعدنا على التقدّم نحو المستقبل، ليكون التاريخ قوةً محفّزة تدفعنا إلى الأمام.

 

المراجع:

  • ليلا غاندي، تر لحسن أحمامة، نظرية ما بعد الكولونيالية: مدخل نقدي. الرياض: صفحة سبعة للنشر والتوزيع، 2021، ص: 17-23
  • الهام ناصر، “التبعيّة – Dependency”، نُشر في الموسوعة السياسيّة، 3 فيفري 2017
  • عموري نسيمة و تراكة جمال، “أزمة الهوية و إشكالية بناء وحدة وطنية في دول عالم الجنوب”، مجلة متون المجلد 13، العدد 3، (2020)، ص: 168
  • عمر صفار، “في أنّ المغلوب مولع أبدًا بتقليد الغالب!” نشر في إضاءات، 27 ماي 2018
  • ياسين أعمران، “أسئلة الهوية ما بعد الاستعمارية”، نشر في منصة عمران، 3 سبتمبر 2018
  • محمد أرزقي بركان، “التحول هل هو بناء للهوية أم تشويه لها؟”، مجلة فكر ونقد، مجلد 4، العدد 35، 2001
  • عماد الدين حلمي، “أزمة الهوية وتداعياتها على الاستقرار السياسِي في الوطن العربي”. مجلة شؤون عربية، 2 سبتمبر 2020
  • دحمان عبد الحق، “الهوية الإسلامية في العلاقات الدولية بين التحصين والتأثير”، مركز المجدد للبحوث والدراسات، 08 جانفي 2024
  • عبد السلام العيسى، “جدل الديمقراطية في الفكر السياسي الإسلامي المعاصر”. مجلة العلوم السياسية، العدد 59، (2020)، ص: 474-475
  • Amitav Acharya, Before the Nation-State: Civilizations, World Orders, and the Origins of Global International Relations, The Chinese Journal of International Politics, Volume 16, Issue 3, Autumn 2023, p: 279-281
  • Azizan Baharuddin, dialogue of civilisation: an Islamic perspective, Journal of Dharma 34, 3 (July-September 2009), p: 306
  • Stephen Ocheni, Basil C. Nwankwo, 3Analysis of Colonialism and Its Impact in Africa”. Cross-Cultural Communication, 8 (3), (2012), p: 51-52
  • D’IRIBARNE Philippe, “Islam and democracy”, Études, 2015/4 (April), p:2

طالبة دكتوراه وباحثة في مجال العلاقات الدولية في الجزائر. تتركّز اهتماماتها البحثية بشكلٍ أساسي على دراسات الأمن والاستراتيجية، مع اهتمامٍ خاصٍّ بالشؤون الافريقية لاسيما منطقة شمال إفريقيا ونظريات العلاقات الدولية والدراسات ما بعد الكولونيالية. تشمل مساهماتها البحثية مجموعةً متنوعةً من الأعمال، منها مقالاتٌ باللغة العربية ومراجعاتٌ للكتب واستعراضٌ لأوراقٍ البحث وأعمالُ ترجمةٍ بين اللغتين العربية والإنجليزية. تظهر مساهماتها في مجموعة متنوعة من المجلات والمعاهد البحثية والمنصات الإلكترونية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *