John J. Mearsheimer, The Gathering Storm: China’s Challenge to US Power in Asia, The Chinese Journal of International Politics, Vol. 3, 2010, P: 381–396.
محتويات المقال:
- مسألة الصعود السلمي للصين
- الولايات المتحدة ليست قوّةً حميدةً على النحو المُتَصَوَّر
- الغاية من الهيمنة الإقليمية
- مُحاكاة العمّ سام
- صعود الصين وأستراليا
الكلمات المفتاحيّة: الصعود الصيني، الريادة الأمريكية العالمية، آسيا-الباسفيك، بحر الصين الجنوبي، أستراليا، الهيمنة الإقليمية، المنافسة الأمنية الشديدة
ظلّت الولايات المتحدة أكثرَ الدولِ قوةً على وجه الأرض لعدّة عقودٍ من الزمن، ولقد طوّرت قوّاتٍ عسكريةٍ متينةٍ في إقليم آسيا-الباسيفيك منذ السنوات الأولى للحرب العالمية الثانية. كان للحضور الأمريكي نتائجٌ مهمّةٌ بالنسبة لأستراليا ولكلّ الإقليم الواسع. هكذا ترى الحكومة الأسترالية هذه المسألة، على الأقل بناءً على تقرير ورقة الدفاع البيضاء (Defence White Paper) المنشورة سنة 2009 والتّي جاء فيها: «لقد كانت أستراليا دولةً آمنةً جدًّا لعقودٍ عديدةٍ إلى حدٍّ كبير، لأنّ الإقليم الأوسع لآسيا-الباسيفيك كان يتمتّع بحِقبةٍ غير مسبوقةٍ من السلام والاستقرار تحت غطاء الصدارة الاسترايجية للولايات المتحدة»، بعبارةٍ أخرى، فقد كانت الولايات المتحدة بمثابة اللاعب المُهدِّئ في هذا الجزء من العالم.
لكن، بناءً على عبارةٍ أخرى جاءت بعدها على نحوٍ قريب في ورقة الدفاع فإنّ: «هذا النظام في طور التحوّل مع حدوث تغيّراتٍ اقتصاديةٍ بدأت تُحدِث تغيّراتٍ في توزيع القوة الاستراتيجية». إنّ الحجّة هنا بالطبع تتمثّل في أنّ صعود الصين له تأثيرٌ كبيرٌ على توازن القوة العالمي. بالأخصّ، فإنّ فجوة القوة بين الصين والولايات المتحدة في طور التقلّص، إذْ تميل كلّ الترجيحات إلى أنّ “الصدارة الاستراتيجية للولايات المتحدة” في هذه المنطقة سوف لن تستمر أكثر. لا يعني ذلك قولنا اختفاء الولايات المتحدة مستقبلا. في الحقيقة فإنّ الحضور الأمريكي مرجّحٌ ليتنامى كردّ فعلٍ على الصعود الصيني. لكن لن تكون الولايات المتحدة القوة المتفوّقة الغالبة في منطقة آسيا-الباسيفيك لأمدٍ بعيد، مثلما كانت كذلك منذ سنة 1945.
تتمثّل المسألة الأهمّ التّي تنبثق من هذا النقاش في ما إذا سيكون الصعود الصيني صعودًا سلميًا أم لا؟ بناءً على ورقة الدفاع البيضاء –والمُكلَّفة بتقييم الوضع الاستراتيجي الأسترالي إلى غاية سنة 2030- فإنّه من الواضح شعور صنّاع القرار في كانبيرا بالقلق بشأن التغيّرات الطارئة في ميزان القوة بمنطقة آسيا-الباسيفيك. بالنظر إلى هذه التعليقات المأخوذة من هذه الوثيقة فإنّه: «كلّما تصاعدت قوى أخرى، فإنّ صدارة التفوّق الأمريكية تتعرّض للاختبار بشكلٍ متزايدٍ وسوف تتعرّض علاقات القوة لا محالة إلى التغيّر. حينما يحدث ذلك هناك، فسيكون هناك احتمال لحدوث سوءٍ في التقدير والحسابات بالمنطقة. هناك احتمالٌ صغيرٌ لكنّه يبقى احتمالاً قائمًا لتنامي المواجهة بين بعض هذه القوى هناك.» في نقطةٍ أخرى من التقرير نقرأ هذه العبارة: «من شأن المخاطر الناجمة عن تصعيد المنافسة الاستراتيجية أن تتصاعد بشكلٍ لا يمكن التنبؤ به تمامًا، وهي عاملٌ يجب أن يُؤخذ بعين الاعتبار في خطّتنا الدفاعية». باختصار، يبدو أنّ الحكومة الأسترالية تشعر بأنّ تحوّل ميزان القوة بين الصين والولايات المتحدة قد لا يكون أمرًا جيّدًا للسلام في الجوار.
ينبغي على الأستراليين أن يشعروا بالقلق من الصعود الصيني، فمن المرجّح أن يقود ذلك إلى تنافسٍ أمنيٍ شديدٍ بين الصين والولايات المتحدة، مع إمكانيةٍ كبيرةٍ لحدوث الحرب. علاوةً على ذلك، فإنّ أغلب جيران الصين، بما فيهم الهند واليابان وسنغافورة وكوريا الجنوبية وروسيا والفيتنام –وأستراليا- سوف ينضمّون إلى الولايات المتحدة لأجل احتواء قوة الصين. فلنقلها بصراحة: لا يمكن للصعود السلمي أن يكون سلميًّا.
لكن من المهّم التأكيد أنّي لا أحاجج بكونِ سلوك الصينيين لوحدهم سوف يقود التنافس الأمني الذّي ينتظرنا، فمن المرجح أن تتصرّف الولايات المتحدة بطريقةٍ عدوانية أيضًا. هكذا تتزايد آفاق الاضطراب أكثر في منطقة آسيا-الباسيفيك.
بطبيعة الحال لن يتفّق معي الجميع بخصوص تقييمي للوضع هناك، يؤمن الكثيرون بامكانية صعود الصين على نحوٍ سلمي، وأنّه ليس من الحتمية أن تحظى كلٌّ من الولايات المتحدة والصين القويّة مستقبلاً بعلاقاتِ مواجهةٍ خصوميّة. بالطبع، هم يفترضون أن يكون للصين نيّاتٌ سلمية، وأنّ هذا الأمر مَوضِعُ ترحيبٍ من شأنه أن يُسهّل الاستقرار في المنطقة، حتّى وإن كان من المتوقع أن يُحدث توازن القوة الكامن تغييرًا دراماتيكيًا هائلا.
- مسألة الصعود السلمي للصين:
أقوم هنا بفحص ثلاثِ حججٍ أساسيةٍ تُستخدَم عادةً لتأييد هذا التكهّن المتفائل. أولاًّ، يدّعي بعضهم أنّ بإمكان الصين أن تُهدّئ أيّة مخاوفٍ متعلقةٍ بصعودها عبر توضيح ذلك لجيرانها وللولايات المتحدة بأنّ لها نيّاتٌ سلمية، وأنّها سوف لن تلجأ إلى القوة لتُغيّر ميزان القوة. يمكن أن نجد وجهة النظر هذه في ورقة الدفاع البيضاء سالفة الذكر، والتّي ترى بأنّ: «وتيرة، نطاق وبنية التحديث العسكري الصيني من المحتمل بأن تمنح لجيرانها ذريعةً للقلق إذا لم يتّم شرحها وتفسيرها بشكلٍ حذر، وإذا لم تقم الصين بمدّ جسور التواصل مع الآخرين لبناء الثقة فيما يتعلّق بخُططها العسكرية. الحاصل، فإنّ الاعتقاد هنا يتعلّق بمدى قدرة بيجين على تقديم حضورها ونيّاتها المستقبلية لكلّ من أستراليا وبقيّة الدول بطرقٍ مقنعة.»
للأسف لا يمكن للدول أن تكون متأكدّةً من نيّات الدول الأخرى على الإطلاق. لا يمكن لها أن تعرف بدرجةٍ عاليةٍ من اليقين ما إذا كانت تتعامل مع دولةٍ تعديليةٍ أم مع قوة وضعٍ قائم. على سبيل المثال، لا وجود لإجماعٍ بين الخبراء إلى الآن بخصوص ما إذا كان الاتحاد السوفياتي عازمًا من قبل على الهيمنة على أوراسيا أثناء الحرب الباردة أم لا. كما لم يكن هناك إجماعٌ بخصوص ما إذا كانت ألمانيا الامبريالية دولةً عدوانيةً بدرجةٍ عاليةٍ ومسؤولةً مبدئيًا عن التسبّب في الحرب العالمية الأولى أم لا. جِذرُ المشكلة يتعلّق بكونِ القدرات العسكرية المختلفة قابلةٌ للمعرفة والحساب، خلافًا للنيّات فإنّها ليست متاحةً من الناحية التجريبية للتحقّق والمعرفة. تُوجد النيّات في عقول صنّاع القرار ومن الصعوبة تبيُّنها إذا ما تعلّق الأمر بهم خصوصا. يمكن أن يعتقد المرؤ بامكانية استخدام القادة الصينيّين للكلمات حتّى يشرحوا نواياهم. لكن الكلام يُعتبر مجانيًا، كما يعرف القادة مسبقًا كيف يكذبون على الجماهير الأجنبية. هكذا، فإنّه من الصعوبة بمكان معرفة نيّات القادة الصينيين الحاليّين، وهم ليسوا مضطرين أساسًا للقول بأنّنا قادةٌ تعديليون بالضرورة.
لكن حتّى وإن استطاع أحدهم أن يُحدّد بشكلٍ حاسمٍ نيّات الصين اليوم، فليس هناك سبيلٌ لمعرفة الكيفية التّي ستكون عليها هذه النيّات في المستقبل. قبل كلّ ذلك من المستحيل تحديد هويّة من سيقود السياسة الخارجية لأيّ بلدٍ بعد خمسة أو عشرة سنواتٍ من الآن، فضلاً عن إمكانية معرفة هل سيكون لهم نوايا عدوانيةً مستقبلا. لا يمكن التأكّد بشكلٍ كافي أنّنا نواجه لا يقينًا جذريًا حينما يتعلّق الأمر بتحديد النوايا المستقبلية لأيّ بلدٍ بما في ذلك الصين.
الخطّ الثاني من الحجة يتعلق بقدرة الصين الحميدة على تجنّب المواجهة من خلال بناء قدراتٍ عسكريةٍ دفاعيةٍ بدلاً من بنائها لقدراتٍ عسكريةٍ هجومية. بعبارة أخرى، يمكن أن تُنبِّه بيجين الآخرين على أنّها قوةُ وضعٍ قائمٍ عبر حرمان نفسها من القدرة على استخدام القوة لقلب ميزان القوة. قبل كلّ ذلك، نوضّح بأنّه لا يمكن لدولةٍ بالكاد تحظى بأيّ قدرةٍ هجوميةٍ أن تكون دولةً تعديلية، فليس لها الوسائل التّي تجعلها تتصرّف بعدوانية. ليس من الصدفة إدّعاء القادة الصينيّين في العادة بأنّه قد تمّ إعداد جيشهم لغاياتٍ دفاعيةٍ فحسب. على سبيل المثال، أوردت النيويورك تايمز مؤخرًا في مقالٍ مهمٍّ عن البحرية الصينية أنّ قادتها يحافظون على ادعائهم بأنّ أسطولهم البحري ذو” قوةِ دفاعٍ ذاتيةٍ محضة”.
هناك مشكلةٌ واحدةٌ مع هذه المقاربة، إنّه لمن الصعب التمييز بين القدرات العسكرية الدفاعية والهجومية على نحوٍ جيّد. في مؤتمر نزع السلاح لسنة 1932 حاول المفاوضون أن يُقيّموا هذا التمييز فوجدوا أنفسهم مُكبّلين في عُقَدٍ محاولين تحديد ما إذا كانت أسلحةٌ بعينها، كالدبابات وحاملات الطائرات، أسلحةً هجوميةً أم دفاعية في طبيعتها. تتمثّل المشكلة الأساسية في أنّ القدرات التّي تطوّرها الدول من أجل الدفاع عن نفسها تحظى بامكانياتٍ هجوميةٍ كبيرةٍ في العادة.
بالنظر إلى ما تفعله الصين اليوم فإنّها تبني قدراتٍ عسكريةٍ لها قوةٌ كبيرةٌ دافعة، ومثلما أخبرنا تقرير ورقة الدفاع البيضاء سابق الذكر «فإنّ التحديث العسكري الصيني سوف يتحدّد بشكلٍ متزايدٍ من خلال تطوّر قدرات القوة الدافعة.» على سبيل المثال، يبني الصينيون قوّاتٍ بحريةٍ من شأنها أن تدفع بالقوة الصينية خارجًا إلى ما اصطلح على تسميته “بسلسلة الجزيرة الثانية” في غرب الباسيفيك، لقد قالوا أيضًا أنّهم يخطّطون لبناء ما سمّوه “بأسطول المياه الزرقاء” الذّي يمكن أن يقوم بعمليّاته في البحر العربي والمحيط الهندي. لأسبابٍ مفهومة، يريدون أن تكون لهم المقدرة على حماية ممرّاتهم وخطوطهم البحرية ولا يريدون الاعتماد على البحرية الأمريكية للقيام بهذه المهمّة لصالحهم. على الرغم من عدم امتلاكهم لهذه الامكانيات في الوقت الحالي مثلما أشار إلى ذلك روبرت كابلان في مقالٍ حديثٍ بمجلة السياسة الخارجية (يقصد ميرشايمر هنا مقال كابلان المنشور سابقًا في منصّة أصوات نقدية). لقد أظهر قادة البحرية الصينيّين فلسفةً عدوانيةً في نهاية القرن العشرين مثلما أشار إلى ذلك الاستراتيجي البحري الأمريكي ألفرد ماهان، والذّي جادل لأجل أهمية السيطرة البحرية والمعركة الحاسمة.
يظنّ أغلب القادة الصينيين طبعًا بأنّ أسطولهم البحري ذو توجّهٍ دفاعي، حتّى وإن كان له قدراتٌ هجوميةٌ معتبرة وسوف يكون له قدراتٌ أكبر في المستقبل. في الواقع فإنّهم يشيرون إلى استراتيجيتهم البحرية على أنّها استراتيجية “الدفاع عن المياه البعيدة.” مثلما تشير تعليقات كابلان، يبدو شبه مؤكدٍ أنّه كلّما تنامى الأسطول البحري الصيني من حيث الحجم والامكانيات، فلن يعتبره أيّ من جيران الصين، بما فيهم أستراليا، أسطولاً بحريًا دفاعيَّ التوجّه. سوف ينظرون إليه بدلاً من ذلك على أنّه قوةٌ هجوميةٌ هائلة. هكذا، فإنّ أيّ شخصٍ يستشرّف نوايا الصين المستقبلية الحاسمة عبر مراقبة جيشها فمن المرجح أن يستنتج عزم الصين على الاعتداء.
في النهاية يدّعي البعض بأنّ سلوك الصين مؤخّرًا تجاه جيرانها لم يكن سلوكًا عدوانيًا على أيّ نحو، يُعتبر السلوك مؤشّرًا موثوقًا عن الكيفية التّي ستتصرّف بها الصين في العقود المقبلة. الاشكالية المركزية المتعلّقة بهذه الحُجّة تتمثّل في كونِ السلوك المُمارَس في الماضي لا يُعتبر مُؤشرًا موثوقًا في العادة يمكن الاعتماد عليه لمعرفة السلوك المستقبلي، فالقادة يأتون ويرحلون وبعضهم أكثر تشدّدًا من الآخر. أيضًا، يمكن للظروف في الداخل والخارج أن تتغيّر بأشكالٍ تجعل من مسألة استخدام القوة العسكرية أمرًا جذّابًا بشكلٍ أكبر أو أقلّ.
تتضّح الحالة الصينية في هذا الصدد. لا تتمتّع بيجين اليوم بقوّةٍ عسكريةٍ هائلةٍ ومن المؤكّد أنّها ليست في موضعٍ يُتيح لها بأن تُشعل قتالاً مع الولايات المتحدة. لا يعني هذا بأنّ الصين نمرٌ ورقيّ، لكنّه يعني بأنّها لا تمتلك القدرة على التسبّب في مشاكل أكبر، حتّى في منطقة آسيا-الباسيفيك. لكن من المتوقع أن يتغيّر هذا الوضع على نحوٍ ملحوظٍ مع مرور الزمن إلى الوضع الذّي سوف تمتلك فيه الصين قدرةً هجوميةً كبيرة. بعدها، سوف نرى مدى التزامها بالمحافظة على الوضع القائم التّي هي عليه. لكن إلى غاية اللحظة لا يمكننا أن نقول أشياءً كثيرةً بخصوص سلوك الصين المستقبلي، لأنّ لديها شيئًا من القدرات المحدودة للتصرّف بشكلٍ عدواني.
يبيّن لنا كلّ ذلك عدم وجود طريقةٍ جيّدةٍ تمكنّنا من معرفة ماهية النوايا الصينية المُقبلة أو تمكنّنا من التنبؤ بسلوكها المستقبلي بناءً على سياساتها الخارجية في الآونة الأخيرة. لكن سيكون للصين في نهاية المطاف جيشًا ذا إمكانياتٍ هجوميةٍ كبيرةٍ كما يبدو واضحًا.
- الولايات المتحدة ليست قوّةً حميدةً على النحو المُتَصَوَّر:
إلى غاية اللحظة لا أزال أشعر بالقلق بخصوص الطريقة التّي يمكن للأمريكيّين والأستراليين أن يقيّموا من خلالها مستقبل السلوك الصيني ويُحدّدوه. لكن لم نفهم تمامًا كيف سيؤثّر صعود الصين على الاستقرار في منطقة آسيا-الباسيفيك، يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أيضًا كيف يمكن للقادة الصينيّين أن يشرحوا السلوك المستقبلي للأمريكيّين من خلال استطلاع نواياهم وقدراتهم وسلوكاتهم في الوقت الحاضر. ليس هناك على نحوٍ جليّ أيُّ طريقةٍ تُمكّنُ القادة الصينيّين معرفة من سيتولّى حقيبة السياسة الخارجية الأمريكية في السنوات القادمة، فضلاً عن معرفة كيف ستكون نيّاتهم تجاه الصين في المستقبل. لكنّهم يعلمون بأنّ كلّ رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية بعد الحرب الباردة بمن فيهم الرئيس باراك أوباما يُقرّون بالتزامهم لأجل المحافظة على الصدارة والتفوّق الأمريكيّين، يعني ذلك أنّه من المرجّح أنّ تذهب واشنطن إلى أبعد الحدود في منع الصين من أن تصير أكثر قوةً في المستقبل.
فيما يتعلق بالامكانيات، تُنفق الولايات المتحدة تقريبًا أمولاً أكثر من كلّ بقيّة دول العالم مجتمعة. فضلاً عن ذلك فإنّ الجيش الأمريكي مُصَمَّمٌ ليقاتل في كلّ أنحاء العالم، إنّه يمتلك عتادًا وفيرًا من القوة الاستعراضية. تتواجد كثيرٌ من هذه الامكانيات إمّا بمنطقة آسيا-الباسيفيك أو يمكن أن تُحرَّك إلى هناك بشكلٍ سريعٍ إذا ما دعت الحاجة إلى ذلك. لا قدرةَ للصين على المساعدة، لكنّها تلاحظ أنّ للولايات المتحدة قدراتٍ عسكريةٍ هائلةٍ في جوارها تمّ إعدادها في جزءٍ جيّدٍ لأجل غاياتٍ هجومية. حينما تُحرّك واشنطن حاملات طائراتها الحربية إلى مضائق تايوان –مثلما فعلت سنة 1996- أو حينما تعيد نشر غوّاصاتها البحرية في غرب الباسيفيك، فمن المؤكّد أن تنظر الصين إلى هذا العتاد البحري كونه عتادًا هجوميًا، لا دفاعيًا في طبيعته.
لا يُنكِر ذلك حقيقةَ أنّ أغلب الأمريكيّين، كأغلب الصينيّين، يعتقدون بكونِ جيشهم أداةً دفاعية بالفعل، لكنّها ليست طريقة للنظر حينما تكون عند النهاية الأخرى لفوّهة البندقية. هكذا، فإنّ سعي أيّ شخصٍ في الصين لقياس النوايا الأمريكية من خلال تقييم قدرات الولايات المتحدة العسكرية تجعله من المحتمل أن يظنّ بأنّها دولة تعديليةٌ، لا قوّةً محافظةً على الوضع القائم.
أخيرًا فإنّ هناك مسألةٌ تتعلّق بسلوك أمريكا مؤخّرًا وما الذّي يمكن أن يخبرنا به عن مستقبل السلوكات الأمريكية. مثلما ذكرتُ سابقًا، لا تُعدُّ السلوكات السابقة في العادة مؤشّرًا موثوقًا في تحديد السلوك المستقبلي لأنّ الظروف تتغيّر، كما أنّ القادة الجدد يفكرّون في بعض الأحيان بشكلٍ مختلفٍ عن أسلافهم فيما يتعلّق بالسياسة الخارجية. لكن، إذا حاول القادة الصينيين قياس الكيفية التّي من المرجّح أن تتصرّف وفقها الولايات المتحدة في الأعوام القادمة من خلال النظر إلى سياستها الخارجية في الآونة الأخيرة، فمن المؤكّد أنّهم سيخلصون إلى أنّها بلدٌ حربيٌّ وخطير. قبل كلّ شيئ، فقد كانت أمريكا في حالة حربٍ لــ 14 مرّة طيلة 21 سنة منذ نهاية الحرب الباردة، أيْ بمعدّل حربيْن كلّ ثلاث سنوات. ولنتذكّر بأنّ إدارة أوباما (كانت) تُفكّر على ما يبدو في حربٍ جديدةٍ ضدّ إيران.
يُمكن أن يُحاجج أحدهم بصدقيّة كلّ ذلك، لكن لم تُهدّد الولايات المتحدة بمهاجمة الصين. المشكلة المتعلّقة بهذه الحجّة تتمثّل في أنّ القادة الأمريكيّين من الحزبين الديمقراطي والجمهوري يجعلون الأمر واضحًا حينما يعتقدون بأنّ الولايات المتحدة “أمّة لا يمكن الاستغناء عنها” على حدّ تعبير مادلين أولبرايت، لذلك فإنّ لها كلاًّ من الأحقيّة والمسؤولية لسياسة العالم بأكمله. الأكثر من ذلك، يُدرك أغلب الصينيّين بشكلٍ جيّدٍ كيف استفادت الولايات المتحدة من ضُعف الصين عبر الدفع للأمام بسياسة “الباب المفتوح” سيّئة السمعة في أوائل القرن العشرين. يعرف الصينيون الرسميّون أيضًا بأنّ الولايات المتحدة والصين خاضتا من قبلُ حربًا دمويّةً في كوريا بين عاميْ 1950 و 1953. ليس من المصادفة أن تذكّر مجلة الإيكونومست مؤخّرًا بأنّ: «الأميرال الصيني يُشبِّه الأسطول البحري الأمريكي بالرجل ذي السجّل الإجرامي، الذّي يتجوّل في الخارج فقط عند باب منزل العائلة». يبدو أنّ هذه حالةٌ ينبغي أن نكون فيها شاكرين بأنّ الدول عادةً ما لا تُولي انتباهًا كبيرًا للسلوك السابق في الماضي للمنافسين المحتملين حينما تحاول تحديد نواياهم المستقبلية.
كلّ ذلك يُخبرنا بأنّ المناخ الأمني المستقبلي لمنطقة آسيا-الباسيفيك سوف يتمحور حول الصين والولايات المتحدة، سوف يكون لكلا القوتين العظمتين جيشًا ذا قدراتٍ هجوميةٍ كبيرةٍ ونوايا غير معروفةٍ أيضا.
هناك عاملٌ آخر مهمّ بشكلٍ كبيرٍ بالنسبة للعلاقات الصينية-الأمريكية. لا توجد سلطةٌ مركزيةٌ من الممكن أن تلجأ إليها الدول لاستجداء المساعدة في حالة ما إذا قام بتهديدها معتدٍ خطير. لا وجود “لحارسٍ ليلي” في النظام الدولي، ما يعني أنّ على الدول أن تعتمد أساسًا على ذواتها لأجل ضمان البقاء. هكذا، فإنّ السؤال المركزي الذّي يجب أن يطرحه أيُّ قائدٍ على غيره أو على نفسه أيضًا يتمثّل في: «ما هو السبيل الأمثل لمضاعفة أمن بلدي في عالمٍ يمكن أن تكون فيه لدولةٍ أخرى قدرات عسكرية هجومية كبيرة مثلما لها نوايا هجومية أيضًا، في عالمٍ لا وجود فيه لمؤسّسةٍ عُليا يمكن اللجوء إليها طلبًا للمساعدة إذا ما هدّدت دولةٌ أخرى بلدي؟» سوف يُحفّز هذا السؤال –أكثر من غيره- القادة الأمريكيّين مثلما سيُحفّزُ أيضًا القادة الصينيّين في السنوات المقبلة، كما فعل في السابق تمامًا.
- الغاية من الهيمنة الإقليمية:
أعتقد بأنّ هناك جوابًا صريحًا لهذا السؤال وأنّ كلّ القوى العظمى تُدركه وتتحرّك وفقًا له. وهو أنّ السبيل الأمثل الذّي تُؤَمِّن من خلاله أيّ دولةٍ بقاءها هو أن تكون أكثر قوةً من بقيّة الدول جميعًا في النظام، فليس من المرجّح أن تتعرّض هذه الدولة للمهاجمة من الدول الأضعف خوفًا من تعرّض الأخيرة للهزيمة. على سبيل المثال، لم يتجرأ أيّ بلدٍ في القسم الغربي من العالم على مهاجمة الولايات المتحدّة لأنّها الدولة الأكثر قوّة نسبيًا مقارنةً ببقيّة جيرانها جميعا.
لنكون أكثر تحديدًا ودقة نقول بأنّ الوضع الأمثل لأيّ قوةٍ عظمى هو أن تكون القوة المهيمنة في النظام، فبعد تحقيق هدف بقائها تصير كلّ الأهداف تقريبًا شبه مضمونةِ التحقّق. المهمينُ هو البلد الأكثر قوة الذّي يتحكّم في بقيّة الدول جميعا. بعبارةٍ أخرى لا تمتلك أيّ دولةٍ أخرى الامكانيات العسكرية اللازمة لتطرح إمكانية القتال الجدّي ضدّها. جوهر الكلام فإنّ المُهيمن هو القوة العظمى الوحيدة في النظام.
حينما يتحدّث الناس عن الهيمنة هذه الأيام، فإنّهم يشيرون عادةً إلى الولايات المتحدة الأمريكية، واصفين إيّاها بالمهيمن العالمي. لكنّي لا أحبّذُ هذا الاصطلاح، لأنّه من المستحيل افتراضيًا لأيّ دولةٍ –بما فيها الولايات المتحدة- أن تُحقّق الهمينة العالمية. يتمثّل العائق الأساسي الذّي يحول دون الهيمنة العالمية في صعوبة دفع القوة نحو الخارج عبر المسافات الضخمة، خصوصًا عبر الكتل الهائلة للمياه كالمحيطيْن الأطلسي والهادئ.
لذلك، كانت المُحصّلة الأمثل التّي يمكن أن تصل إليها القوى العظمى هي تحقيق الهيمنة الإقليمية، أو ربّما القدرة على التحكّم في منطقةٍ قريبةٍ يمكن الوصول إليها عبر البرّ الأرضي. إنّ الولايات المتحدة المهيمِنة على القسم الغربي للعالم هي المُهيمن الاقليمي الوحيد في التاريخ الحديث. لقد حاولت خمس قوى كبرى من قبل أن تهيمن على إقليمها (وهي: فرنسا النابوليونية، ألمانيا الامبريالية، اليابان الامبريالية، ألمانيا النازية والاتحاد السوفياتي) لكن لم تنجح أيّ منها في ذلك.
ينبغي التأكيد بأنّ الولايات المتحدة لم تصبح طرفًا مهيمنًا في القسم الغربي للعالم بالصدفة، فحينما فازت باستقلالها سنة 1783، كانت دولةً ضعيفةً متكوّنةً من 13 ولايةٍ ناشطةٍ أعلى الساحل الأطلسي وأسفه، وعبر مسيرة 115 سنة عمل صنّاع القرار الأمريكيّين دون هوادةٍ للسعي إلى تحقيق الهيمنة الاقليمية. لقد قاموا بتوسيع الحدود الأمريكية من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادئ كجزءٍ من سياسةٍ مشتركةٍ عُرفت بـ “قدرنا الجَلِّي”. في الواقع تُعتبر الولايات المتحدة قوةً توسعيّةً من الدرجة الأولى، لقد وضّح هينري كابوت لودج هذا الأمر بشكلٍ جليٍّ حينما سجّل بأنّ الولايات المتحدة لها «سجّلٌ من الغزو والاستعمار والتوسّع الإقليمي أكثر من أيّ شعبٍ آخر في القرن التاسع عشر»، وربّما يمكنني أن أضيف بدوري القرن العشرين أيضا.
إلاّ أنّ القادة الأمريكيّين في القرن التاسع عشر لم يكونو مهتمّين بتحويل الولايات المتحدة إلى دولةٍ إقليميةٍ قويّةٍ فحسب، لقد كانوا أيضًا عازمين على دفع القوى الأوروبية خارج النصف الغربي للعالم، والتوضيح لهم أنّهم غير مرحبٍ بهم للعودة إلى نفوذهم الذّي كانوا عليه هناك. عُرفت هذه السياسة سائرة المفعول إلى يومنا هذا “بعقيدة مونرو“. بحلول سنة 1898 انهارت آخرُ الامبراطوريات الأوروبية في الأمريكيتيْن وصارت بذلك الولايات المتحدة الأمريكية القوة الاقليمية المهيمنة.
للدول التّي تسعى إلى تحقيق الهيمنة الاقليمية هدف آخر: إنّها تسعى لمنع القوى الكبرى في الأقاليم الجغرافية الأخرى من استنساخ ما أنجزوه في أماكن أخرى. بعبارة أخرى، فإنّ المهيمن الاقليمي لا يريد منافسين أنداد. على سبيل المثال، لعبت الولايات المتحدة دورًا مفتاحيًا للحيلولة دون فوز كلّ من اليابان الامبريالية وألمانيا الامبريالية وألمانيا النازية والاتحاد السوفياتي بمكانة التفوّق الاقليمي. يحاول المهيمنون الاقليميون اختبار الطامحين للهيمنة في الأقاليم الأخرى، لأنّهم يشعرون بالخوف من أن تتمكّن القوة العظمى المنافِسة من الهيمنة على إقليمها الخاصّ سوف تكون بمثابة العدو القويّ الخاصّ الذّي يكون حُرّا بالأساس ليتجوّل في أنحاء المعمورة ويتسبّب في مشاكلٍ ما في حديقته الخلفية. تُفضّل القوى الإقليمية المهيمنة أن يكون هناك على الأقل قوتّين عظمتين تتواجدان معًا في أقاليم أخرى، لأنّ قربهما من بعضهما البعض سوف يدفعهما لتركيز انتباههما على بعضهما البعض بدلاً من تركيز الانتباه على المهيمن البعيد. الأكثر من ذلك، في حالة ما إذا برز طرفٌ مهيمنٌ بينهما، فمن الممكن أن تصير بقيّة القوى الكبرى في هذا الاقليم قادرةً على احتوائه من خلالها، مانحةً للمهيمن البعيد الفرصة بأن يبقى سالمًا في أمان على الهامش.
خلاصة القول أنّه ولأسبابٍ استراتيجيةٍ سليمةٍ عملت الولايات المتحدة جاهدةً لأكثر من قرنٍ على الفوز بالهيمنة الإقليمية، وبعدما حقّقت هذا الهدف حرصت على ضمان ألاّ تُهيمن أيّة قوةٍ كبرى أخرى على آسيا أو أوروبا على حدٍّ سواء على النحو الذّي هيمنت به هي على مجال النصف الغربي للعالم.
- مُحاكاة العمّ سام:
ما الذّي يمكن للسلوك الأمريكي الماضي أن يُخبرنا بخصوص الصعود الصيني؟ على وجهٍ خاصّ، كيف يمكن أن نتوقّع الطريقة التّي ستتعامل بها الصين مع ذاتها حينما تنمو بشكلٍ أكثر قوة؟ وكيف يمكن لنا أن نتوقّع الطريقة التّي سيستجيب بها جيران الولايات المتحدة والصين تجاه صينٍ قويّة؟
أتوقّع شخصيًا أن تتصرّف الصين بنفس الطريقة التّي تصرّفت بها الولايات المتحدة عبر تاريخها الطويل، أعتقد بالأخصّ أنّ الصين سوف تحاول الهيمنة على إقليم آسيا-الباسيفيك أكثر من الطريقة التّي هيمنت بها الولايات المتحدة على المجال الغربي للعالم. لأسبابٍ استراتيجيةٍ سليمة، سوف تسعى الصين لتعظيم هوّة القوة بينها وبين جيرانها الخَطِرين المحتملين كالهند واليابان وروسيا، سوف تعمل الصين على ضمان أن تكون الدولة الأكثر قوةً من أيّ دولةٍ أخرى في آسيا تمتلك الوسائل اللازمة لتُشكّل تهديدًا لها. ليس من المرجّح أن تسعى الصين لبلوغ قوةٍ عسكريةٍ متفوّقةٍ يمكن أن تقودها إلى الحرب وغزو الدول الأخرى في الإقليم، على الرغم من أنّ هذا الأمر يبقى دومًا محتملا. بدلاً من ذلك، فمن المرجح أكثر أنّ بيجين ستريد إملاء حدودٍ مقبولةٍ لسلوكات الجيران أكثر من الطريقة التّي جعلت بها الولايات المتحدة الأمر واضحًا للدول الأخرى في الأمريكيّتيْن بأنّها الزعيم هناك. يمكن أن أضيف أيضًا أنّ الفوز بمكانة الهيمنة الاقليمية هي الطريقة الوحيدة المحتملة التّي تُمكّن الصين من استرجاع تايوان.
من المتوقّع أيضًا أن تحاول الصين الأكثر قوّة بأن تدفع الولايات المتحدة خارج منطقة آسيا-الباسيفيك أكثر من الطريقة التّي دفعت بها الولايات المتحدة القوى الأوروبية الكبرى خارج نفوذ المجال الغربي للعالم في القرن التاسع عشر. ينبغي أن نتوقّع أن تُنتج الصين رؤيتها الخاصّة لمبدأ مونرو مثلما فعلت اليابان الامبريالية في ثلاثينات القرن العشرين. في الحقيقة، نحن نرى من الآن تلميحاتٍ لهذه السياسة، فلنعتبر أنّ الأمر في تقدّم، فقد أخبر مسؤولونَ صينيّون رسميّون شخصيْن أمريكييْن من صانعي السياسات ذوي رُتبةٍ عاليةٍ أنّ الولايات المتحدة لم يعد مسموحٌ لها بأن تتدخّل في بحر الصين الجنوبي، والذّي تنظر إليه الصين باعتباره “مصلحةً جوهريةً” كتايوان والتيبت، كما يبدو بأنّ الصين تشعر بنفس الشيئ حيال البحر الأصفر. في شهر يوليو سنة 2010، أجرى الأسطولين البحريّين العسكريّين لكلٍّ من الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية مناوراتٍ مشتركةٍ ردًّا على إغراق كوريا الشمالية المزعوم لسفينةٍ كوريةٍ جنوبية، كانت هذه المناورات البحرية مخطّطةً أصلاً لأخذ مكان ما في البحر الأصفر المُتاخم للخطّ الساحلي الصيني، إلاّ أنّ احتجاجاتٍ قويّةٍ من الصين أرغمت إدارة أوباما على تحريك المناورات شرقًا إلى بحر اليابان.
تُشكّل هذه الأهداف الطموحة حِسًّا استراتيجيًا جيّدًا بالنسبة للصين. ينبغي أن ترغب بيجين في وجود جيشٍ ضعيفٍ لليابان وروسيا على غرار جيرانها، تمامًا مثلما تُفضّل الولايات المتحدة وجود كندا والمكسيك كدولتين ضعيفين على حدودها. لا توجد أيّة دولةٍ ذات عقلٍ راجحٍ ترغب في وجود دولٍ قويّةٍ أخرى متموقعةً في إقليمها. من المؤكّد أنّ الصينيّين جميعًا يتذكّرون ماذا حدث في القرن الماضي حينما كانت اليابان قويّةً والصين ضعيفة. الأكثر من ذلك، لماذا قد تقبل صينٌ قويّةٌ بوجود قوّاتٍ عسكريةٍ أمريكيةٍ تنشط في حديقتها الخلفية؟ قبل كلّ شيئ، يُعبّر صنّاع السياسة الأمريكيّين عن سخطهم كلّما أرسلت قوةٌ كبرى بعيدة قواتّها العسكرية إلى المجال الغربي للعالم، إذ يُنظَر إلى هذه القوات الأجنبية حتمًا على أنّها تهديدٌ محتملٌ للأمن الأمريكي. ينبغي أن يُطبَّق المنطق ذاته بالنسبة للصين. لماذا ستشعر الصين بالأمان مع وجود قواتٍ أمريكيةٍ تنتشر على أعتابها؟ اتّباعًا لمنطق عقيدة مونرو، ألن يكون الأمن الصيني أفضل بكثيرٍ عبر دفع الجيش الأمريكي خارجًا بعيدًا عن منطقة آسيا-الباسيفيك؟
لماذا ينبغي أن نتوقّع أيَّ تصرّفٍ مختلفٍ للصين عن الولايات المتحدة عبر مسارها التاريخي؟ هل هم أكثر تمسّكًا بالمبادئ من الأمريكيين؟ هل هم أكثرُ أخلاقية؟ هل هم أقلّ قوميةً/وطنيةً من الأمريكيّين؟ أو أقلّ اهتمامًا وقلقًا على بقائهم؟ لا يوجد في الحقيقة أيُّ أمرٍ من هذه الأشياء، بالطبع من المرجح أن تُحاكي الصين الولايات المتحدة وتحاول أن تكون مهيمنًا إقليميا.
كيف من المرجّح أن يكون ردُّ فعلِ الأمريكيّين في حالة ما إذا حاولت الصين أن تُهيمن على آسيا؟ يُوضّح لنا السجّل التاريخي بشكلٍ جليٍّ جدًّا أنّ الولايات المتحدة ليست متسامحةً مع المنافسين الأنداد، فمثلما هو مُثبتٌ على مدار القرن العشرين، هناك عزمٌ على المحافظة على مكانة المهيمن الاقليمي الوحيد في العالم. من ثمّة من المتوقّع أن تذهب الولايات المتحدة إلى أبعد مدى في احتواء الصين وإضعافها في النهاية إلى الحدّ الذّي لن تُشكّل فيه تهديدًا يهيمن على مقاليد الأمور في آسيا. جوهر الكلام، من المرجّح أن تتصرّف الولايات المتحدة تجاه الصين بنفس الطريقة المشابهة التّي تصرّفت بها تجاه الاتحاد السوفييتي أثناء الحرب الباردة.
من المؤكد أيضًا أن يخاف جيران الصين في منطقة آسيا-الباسيفيك من صعودها، سوف يقومون بما يمكن لهم القيام به لمنعها من تحقيق الهيمنة الإقليمية. هناك في الواقع أدلةٌ قويّةٌ تُثبت أنّ بُلدانًا كالهند واليابان وروسيا، مثلما هو الحال بالنسبة للبلدان الأقل قوّة كسنغافورة وكوريا الجنوبية والفيتنام ينتابها خوفٌ من السطوة الصينية وهي تبحث عن طرقٍ لاحتوائها. وقّعت كلٌّ من الهند واليابان على سبيل المثال “إعلان الأمن المشترك” في أكتوبر 2008، يرجع ذلك في قسمٍ منه إلى خوفهما المشترك من نمو القوة الصينية. أمّا الهند والولايات المتحدة الذان كانا يتقاسمان علاقاتٍ متوتّرةٍ أثناء الحرب الباردة فقد صارا صديقين حميمين على مرّ العقود الماضية، يرجع ذلك في قسمٍ كبيرٍ إلى خوفهما المشترك من الصين. في شهر يونيو 2010 كانت إدارة أوباما، المتخَّمة بالأشخاص الذّين يُبشرّون العالم بأهميّة حقوق الإنسان، قد أعلنت عن استئناف العلاقات مع نخبة القوّات الخاصّة الأندونيسية بالرغم من تاريخها الحافل بانتهاكات حقوق الإنسان.
أمّا السبب الذّي يقف وراء هذا التحوّل فكان رغبة واشنطن في أن تكون أندونيسيا إلى جانبها حينما تنمو الصين بقوةٍ أكبر، ومثلما أشارت صحيفة نيويورك تايمز فإنّ تصريحات المسؤولين الأندونيسيّين «تخلو من التلميحات التّي تشير إلى إمكانية التطلّع لبناء علاقاتٍ مع الجيش الصيني إذا بقي الحظر قائما.»
سانغافورة التّي تُدرك أهميّة مضائق ملقا وتتخوّف من نمو القوّة الصينية، تريد على نحو مُلِحٍّ أن ترفع من مستوى روابطها القائمة أصلاً مع الولايات المتحدة. تَوَجُّهًا صوب هذا الهدف، فقد بنت رصيفًا بحريًا عميقًا في قاعدتها البحرية الجديدة “شانغي”، والتّي يمكن للبحرية الأمريكية أن تقوم منها بالإدارة العملياتية لحاملات طائراتها خارج سانغافورة إذا دعت الحاجة إلى ذلك. أمّا قرار اليابان الأخير الذّي يسمح لمُشاة البحرية الأمريكية بالبقاء في أوكيناوا، فقد كان مُنقادًا في جزءٍ منه بمخاوف طوكيو المتعلّقة بالنمو الصيني المتزايد في المنطقة والمرتبط بحاجةِ الابقاء على المظلّة الأمنية الأمريكية على نحوٍ راسخٍ في المنطقة عبر اليابان. سوف يَنظَّمُ معظم جيران الصين في النهاية إلى ائتلافٍ توازنيٍ بقيادة أمريكا، يُصَمَّم لأجل مراقبة الصعود الصيني أكثر من الطريقة التّي تشاركت بها بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وحتّى الصين في قواتّها مع الولايات المتحدة لاحتواء الاتحاد السوفياتي أثناء حقبة الحرب الباردة.
إلاّ أنّ هناك اختلافاتٌ مهمّةٌ بين تنافس القوى العظمى أثناء الحرب الباردة والتنافس المستقبلي الدائر بين الصين والولايات المتحدة. بدايةً، فإنّ الاتحاد السوفياتي كان مُتموقعًا جغرافيًا في كلّ من آسيا وأوروبا، وكان يهدّد بالهيمنة على كلا الإقليمين. ولذلك، فقد اضطرت الولايات المتحدة أن تُقيم ائتلافًا توازنيًا مشتركًا في آسيا وأوروبا على حدٍّ سواء. في الجهة المقابلة، من الجديّة بمكان القول بأنّ قوةً آسيويةً ليس من المرجّح أن تهدّد أوروبا بأيّ طريقةٍ مُجدية، كنتيجةٍ لذلك فليس من المرجح أن تلعب الدول الأوروبية الكبرى دورًا فاعلاً في احتوء الصين، لكنّها على الأرجح ستكون ممتنةً بالبقاء على الهوامش.
لقد نافست الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي بعضهما البعض أيضًا للظفر بالثراء النفطي للشرق الأوسط. كان لكلٍّ من القوتين العظمتين حلفاء في المنطقة والذّين كانوا يخوضون حروبًا ضدّ بعضهم البعض في بعض الأحيان، كانت الولايات المتحدة حينها قلقةً بشكلٍ جدّيٍ بخصوص الغزو السوفياتي لأفغانستان متبوعًا بالاطاحة بالشاه الإيراني سنة 1979. ونظرًا لاعتماد الصين على النفط القادم من الخليج الفارسي، فمن المحتمل أن تتنافس مع الولايات المتحدة لأجل بسط النفوذ في منطقةٍ استراتيجيةٍ مهمّةٍ كتلك المنطقة أكثر ممّا فعل الاتحاد السوفياتي. إلاّ أنّ الغزو الصيني للشرق الأوسط لا يُعتبر أمرًا محتملاً لأنّ المنطقة بعيدةٌ جدًّا عنها كأحد الأسباب، ولأنّ الولايات المتحدة أيضًا ستحاول إحباط أيّ هجومٍ (صيني على المنطقة) بشكلٍ مؤكّد. من المحتمل أن تضع الصين قوّاتٍ هناك في المنطقة في حالة ما إذا طَلب منها حليفٌ قريبٌ يدَ المساعدة. على سبيل المثال، يمكن أن يتصوّر المرء إقامة كلٍّ من الصين وإيران روابط مقرّبة تطلب بعدها طهران من بيجين أن تُمَوْضِعَ قوّاتٍ صينيةٍ في إقليمٍ ما بأراضيها. باختصار، كما تَنافسَ الأمريكيّون والسوفيات بشكلٍ نشطٍ في أوروبا وآسيا والشرق الأوسط، فمن المرجّح أن تتنافس الصين والولايات المتحدة في المنطقتين المذكورتين في الأخير (أيْ آسيا والشرق الأوسط).
رغم أنّ التنافس السوفياتي-الأمريكي عرف انتشارًا في معظم العالم، فإنّ المعركة الأساسية بينهما كانت في وسط أوروبا، أين ساد خطرُ نشوب حربٍ تقليديةٍ واسعةِ النطاق لأجل التحكّم في القارّة الأوروبية. لقد كان السيناريو مُهمًّا بالأخصّ لكلّ من الجهتين، ليس فقط لوجود إمكانيةٍ كبيرةٍ لتصعيدٍ نوويٍ في حالة ما إذا وقعت حربٌ ما، ولكن أيضًا لأنّ النصر السوفياتي الحاسم كان من شأنه أن يغيّر بشكلٍ جذريٍ توزان القوة العالمي. إنّه لمن الصعب تخيّل حدوث ظروفٍ مشابهةٍ تتورّط فيها كلٌّ من الصين والولايات المتحدة نظرًا للاختلاف الكبير للجغرافيا الآسيوية عن نظريتها الأوروبية. من المحتمل أن تكون كوريا المكان الوحيد الذّي يمكن أن ينجّر فيه البلدين إلى حربٍ تقليدية، هذا ما حدث بالضبط بين سنتيْ 1950 و1953 في حقيقة الأمر، ويمكن أن يحدث مرةً أخرى إذا ما اندلع النزاع بين الكوريتين الشمالية والجنوبية. إلاّ أنّ مخاطر هذا النزاع وضخامته لن يكون في أيّ جانبٍ منه قريبًا في عِظمه مثلما كان الأمر ليكون لو اندلعت في السابق حربٌ بين حلفيْ الناتو ووارسو لأجل التحكّم في أوروبا.
بالإضافة إلى كوريا، يمكن أن يتخيّل المرؤ قتال الصين والولايات المتحدة حول تايوان، وحول الجزر المتنازع عليها أو الجُزيرات الواقعة على الساحل الصيني أو قتالاً بهدف التحكّم في الممرّات البحرية الواقعة بين الصين والشرق الأوسط. مثلما هو الحال مع كوريا فإنّ محصّلة كلّ هذه السيناريوهات ستكون بعيدةً كلّ البعد عن تداعيات نشوب حربٍ بين القوى العظمى في قلب أوروبا أثناء الحرب الباردة. لأنّ المخاطر ستكون أصغر كما أنّ عددًا محتملاً من سيناريوهات النزاع ستشتمل على قتالٍ في البحر –أين تكون مخاطر التصعيد أكثر سهولةً للاحتواء حينما يكون القتال في البحر- فمن الأسهل أن نتصوّر حربًا تندلع بين الصين والولايات المتحدة من تصوّر نشوب حربٍ مماثلةٍ بين الناتو وحلف وارسو. من الجدير بالذكر أيضًا أنّه لم يكن هناك أيّ نزاع حول الأراضي الاقليمية بين القوى العظمى –بما فيها برلين- مُحمّلاً بمشاعرٍ قوميةٍ شديدةٍ مثلما هو الحال اليوم فيما يتعلّق بمشاعر تايوان تجاه الصين. هكذا، فإنّه ليس من الصعب تصوّر اندلاع حربٍ حول تايوان كما لا يعني ذلك أنّ احتمالات نشوب مثل هذه الحرب تُعتبر احتمالاتٍ مرتفعة.
يتعلّق الاختلاف الآخر المهّم بين الحرب الباردة والتنافس الصيني-الأمريكي المستقبلي بالايديولوجيا. لقد كان التنافس بين القوى العظمى شديدًا لأنّه كان مُنقادًا على نحوٍ خاصٍّ باختلافاتٍ ايديولوجيةٍ حادةٍ بين الجانبين مثلما هو الأمر أيضًا بالنسبة للاعتبارات الجيوبوليتيكية. كانت كلّ من الشيوعية والرأسمالية اللبيرالية أعداءَ خصومةٍ ايديولويجية، لا بسبب تقديم كلّ منهما لرؤى إيديولوجية متباينة بشأن الكيفية التّي ينبغي أن يُنظّم بها المجتمع فحسب، ولكن لأنّ كلّ من القادة الأمريكيّين والسوفيات يعتقدون بأنّ الشيوعية تُعتبر نموذجًا سياسيًا قابلاً للتصدير والذّي يمكن أن يتجذّر في نهاية المطاف في كل أنحاء العالم. لقد ساعد هذا المبدأ في تأجيج السمعة السيّئة “لنظرية الدومينو”، والتّي ساعدت في إقناع القادة الأمريكيّين بأنّ عليهم محاربة الشيوعية في كلّ مكانٍ من المعمورة. لقد كان للقادة السوفيات مخاوف حقيقية، كتلك القائلة بأنّ انتشار الرأسمالية الليبرالية طرحَ تهديدًا جدّيًا لشرعية الحكم الماركسي، هكذا فإنّ عدم التوافق بين هذه الرؤى الايديولوجية المتنافسة عزّز من الطبيعة الصفرية للتنافس، كما شجّع القادة في كلتا الجهتين على خوضها بحدّةٍ غير معتادة.
من المؤكّد وجود تبايناتٍ ايديولوجية بين الصين والولايات المتحدة، لكنّها لا تُؤثّر على العلاقة بين البلديْن بشكلٍ عميق، ولا يوجد سببٌ وجيهٌ يجعلنا نعتقد بأنّها ستكون مؤثّرةً في المستقبل المنظور، خصوصًا وأنّ الصين تحتضن قاعدةَ سوقٍ اقتصادية، ولا ترى في نسختها الراهنة للدولة الرأسمالية نموذجًا قابلاً للتصدير لبقية العالم. إذا كان الأمر متعلّقًا بفكرة التصدير، فإنّ الولايات المتحدة تُبدي ميلاً كبيرًا ورغبةً في تصدير نظامها للبقيّة، إلاّ أنّه من المرجح تعرّضُ هذا الطموح إلى شيئٍ من التلطيف واللُيونة بعد النكسات التّي تعرّضت لها في أفغانستان والعراق، فضلاً عن آثار ركود سنة 2008 عليها. ينبغي أن يجعل هذا الوضع مستقبل التنافس بين بيجين وواشنطن أقلّ حدّةٍ من التنافس المُثقّل بالايديولوجيا بين القوى العظمى.
أخيرًا، فقد كان الاتحاد السوفياتي وحلفاؤه المقرّبين يحظون بترابطٍ اقتصاديٍ ضئيلٍ بشكلٍ ملحوظ مع الغرب أثناء الحرب الباردة. في الواقع كان هناك تواصلٌ مباشرٌ ضئيلٌ بين النخب، ناهيك عن الجماهير الواسعة في كلتا الجهتين. الأمر معاكسٌ بالنسبة للصين، فهي ليست مندمجةً بشكلٍ عميقٍ فقط في عالم الاقتصاد ولكنّها منخرطةٌ أيضًا بنشاطٍ مع النخب الغربية بكلّ الأوجه والصفات. هذه أخبارٌ جيّدة لأولئك الذّين يعتقدون بأنّ الاعتماد الاقتصادي المتبادل من شأنه أن ينتج السلام. إلاّ أنّها أخبارٌ سيّئة لأولئك الذّين يعتقدون بأنّ هذه الراوبط عادةً ما تكون المصدر الأساسي للاحتكاك بين القوى الكبرى.
في نظري ليس للاعتماد الاقتصادي المتبادل أيّ أثرٍ كبيرٍ على الجيوبولتيك بهذا الشكل أو ذاك. قبل كلّ شيئ، ألفت الانتباه إلى أنّ القوى الأوروبية الكبرى كانت على مستوى عالٍ من الاستقلال والازدهار سنة 1914 في الوقت الذّي اندلعت فيه الحرب العالمية الأولى.
- صعود الصين وأستراليا:
أوّد بشكلٍ أكثر تفصيلاً أن أناقش كيف أعتقدُ بأنّ صعود الصين سوف يؤثّر على أستراليا على وجه الخصوص. لا يوجد شكّ بأنّ الجغرافيا تخدم أفضلية أستراليا، إنّها تتموقع بعيدًا عن الصين، كما أنّ هناك كتلٌ واسعةٌ من البحار تفصل بين البلدين. بالطبع تواجه أستراليا وضعًا مشابهًا فيما يتعلّق باليابان الامبريالية سابقًا، وهذا ما يفسر سبب عدم احتلال الجيش الياباني لأستراليا حينما انطلقت في هيجانها عبر منطقة آسيا-الباسيفيك في ديسمبر 1941.
قد يميل المرؤ للاعتقاد بأنّ موقع أستراليا الجغرافي يعني أنّها أقلّ الدول خوفًا من الصين ولذلك من الممكن أن تبقى على الهوامش كحليفٍ موازنٍ إلى جانب الولايات المتحدّة لاحتواء الصين معًا. في الحقيقة، لقد أثارت الوثيقة البيضاء لسنة 2009 إحتمالية أن «تتبنّى الحكومة الأسترالية وجهة النظر القائلة بأنّ الحياد المسلّح يُمثّل المقاربة الأفضل فيما يتعلّق بحماية وتأمين أراضيها وشعبها.» لكن هذا الأمر لن يصير إلى الحدوث لأنّ الصين –التّي ينبغي أن تواصل صعودها السريع- سوف تُبدي في نهاية المطاف تهديدًا جدّيًا كافيًا لأستراليا والتّي لن يكون أمامها أيُّ خيارٍ إلاّ الانضمام إلى التحالف الذّي تقوده أمريكا لاحتواء الصين. أوّد أن أشير هنا إلى ثلاث نقاط لدعم هذا الادّعاء.
أولا، فلنتذكّر أنّنا لسنا بصدد الحديث عن التهديد الذّي يطرحه الجيش الصيني اليوم، والذّي لا يمتلك قدرةً قويّة، كما أنّه لا يشكّلُ خطرًا كبيرًا مُحدقًا بالجيران. نحن بصدد الحديث عن الكيفية التّي سيفكر بها الأستراليّين تجاه الصين بعد أن شهدت عقديْن آخريْن من النمو الاقتصادي المُبهر واستخدمت ثروتها الوفيرة في بناء جيشٍ تمّ تعبئته بأسلحةٍ عاليةِ التطوّر للغاية. نحن بصدد الحديث عن جيشٍ صينيٍ يصير أقرب قدرةٍ على منافسة الجيش الأمريكي من حيث نوعية عتاده العسكري. إلاّ أنّ الجيش الصيني ينبغي أن يكون له ميزتين أفضليتيْن على حساب نظيره الأمريكي، ينبغي أن يكون أوسع، ربّما أكثر عددًا، في الوقت الذّي سيصير فيه عدد سكان الصين يُعادل على الأقل ثلاث أضعاف عدد السكان الأمريكيّين مع منتصف هذا القرن. الأكثر من ذلك، سوف تكون الولايات المتحدة في حالة عدم أفضليةٍ كبيرةٍ فيما يتعلّق بتنافسها مع الصين، ذلك لأنّ الجيش الأمريكي سوف يدفع بقوتّه عبر 6 آلاف ميل في المحيط، في الوقت الذّي سيتولّى الجيش الصيني مهامه العمليّاتية في ساحة حديقته الخلفية. باختصار، من المحتمل أن تمتلك الصين قوّةً عسكريةً هجوميةً أكثر سنة 2030 ممّا هي عليه سنة 2010.
ثانيًا، رغم أنّ اليابان لم تُطلق هجومًا برمائيًا ضدّ أستراليا سنة 1942، فقد كان هناك تبصّرٌ جدّيٌ في هذا الخيار، كما أنّ اتّخاذ القرار في مواجهتها لم يكن بسبب صعوبة العملية فحسب، ولكن ذلك راجعٌ أيضًا لاعتقاد اليابان بأنّ لها بديلاً استراتيجيًا آخر للتعامل مع أستراليا. على وجه التحديد، فقد رأت أنّ بامكانها استخدام تحكّمها في غرب الباسيفيك لحصار أستراليا بشكلٍ فعّال وتحييدها. رغم فشل هذه الاستراتيجية، لا ينبغي أن نُغفل حقيقة أنّ اليابان الامبريالية قد كانت تهديدًا جسيمًا بالنسبة لأستراليا، لهذا السبب قاتلت أستراليا بحماسٍ إلى جانب الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية.
ثالثًا، سوف يُقدِمُ الاستراتيجيون الصينيّون على اللعب بحذرٍ شديدٍ مع أستراليا خلال الأعوام المقبلة بسبب عامل النفط أساسًا. إنّ الاعتماد الصيني على النفط المستورد، الذّي يُعتبر جوهريًا بالأساس، في صدد التزايد بشكلٍ ملحوظٍ خلال العقود القليلة القادمة. سوف تأتي كميةّ كبيرةٌ من هذا النفط المستورد من الشرق الأوسط ومعظمه سوف يتّم نقله إلى الصين عبر البواخر. نقول لكلّ الذّين يتحدّثون عن مسألة نقل النفط عبر أنابيبٍ أو عبر سككٍ حديدية، عبر بورما وباكستان، أنّ الحقيقة تقول بأنّ النقل البحري يُعتبر أسهل الخيارات وأرخصها ثمنًا. يُدرك الصينيون ذلك وهذه أحد الأسباب التّي تقف وراء تخطيطهم لبناء مشروع أسطول المياه الزرقاء. إنّهم يريدون أن يكونوا قادرين على حماية ممرّاتهم البحرية الخاصّة التّي تعمل من الشرق الأوسط وإليه.
لكن، تُواجه الصين مشاكلاً جغرافيةً أساسيةً في تأمينها لممرّاتها البحرية، والتّي لها آثارٌ هامّةٌ على أستراليا. تحديدًا، هناك ثلاث ممرّاتٍ بحريةٍ رئيسيّة تربط بحر الصين الجنوبي والمحيط الهندي. من ناحيةٍ أخرى، فإنّ عددًا من بلدان جنوب شرق آسيا تفصل هذيْن الكتلتيْن البحريتيْن الواسعتيْن، ممّا يعني أنّه يجب على الصين أن تحظى بالوصول إلى أحد هذه المعابر على الأقل في كلّ وقتٍ إذا كانت تأمل بالتحكّم بممرّاتها البحرية من وإلى الشرق الأوسط الغنيّ بالنفط.
يمكن للسفن الصينية أن تأخذ مسارها عبر مضائق ملقا، والتّي تُحيط بها كلٌّ من أندونيسيا وماليزيا وسنغافورة، أو بامكانها أن تتّجه جنوبًا وتقطع إمّا مضيق لومبوك أو مضيق صوندا، وكلاهما يقطع أندونيسيا ويقودك أيضًا نحو الخارج إلى المياه المفتوحة للمحيط الهندي تمامًا وإلى الشمال الغربي لأستراليا. إلاّ أنّه من غير المرجّح بالنسبة للصين أن تكون قادرةً على عبور مضائق ملقا في حالة وجود نزاعٍ مع الولايات المتحدة، ذلك لأنّ سانغفورة التّي تُعتبر حليفًا مقرّبًا لواشنطن، تتربّع على هذا الممّر، هذا ما يُطلق عليه الاستراتيجيون الصينيّون تسمية “معضلة ملقا”. وبالتالي، فإنّ للصين محفّزًا قويًّا يدفعها للعمل على ضمان مرور سفنها عبر الفتحتيْن الرئيستيْن اللتّين يتّم إدارتهما من قِبل أندونيسيا.
يكاد يكون مؤكّدًا أنّ هذا الوضع يعني محافظة الصين في المستقبل على حضورٍ عسكريٍ مهمٍّ في المياه قُبالة الساحل الشمالي لأستراليا وربّما حتّى على الأراضي الإقليمية لأندونيسيا. من المؤكّد أنّ الصين سوف تصير قلقةً ومهتّمةً بشكلٍ عميقٍ بخصوص قدرات القوة الأسترالية، وسوف تعمل لضمان عدم استطاعة كامبيرا استخدام هذه القوة لأجل إغلاق أيٍّ من مضيق لومبوك أو صوندا أو لتهديد الملاحة البحرية الصينية في المحيط الهندي. الخطوات التّي اتخّذتها الصين بغرض تحييد التهديد الذّي يمكن أن تطرحه أستراليا على ممرّاتها البحرية –ولنتذكر أنّنا نتحدث عن صينٍ أكثر قوّة ممّا هي عليه اليوم- سوف يدفع حتمًا كانبيرا إلى العمل بقرب مع واشنطن لاحتواء الصين. باختصار، هناك حدودٌ جدّيةٌ تُوَضِّح المدى التّي تستطيع من خلاله الجغرافيا أن تحمي أستراليا من صينٍ ممتّدة ومتوسّعة.
الصورة التّي رسمتها للتو لِما هو مُرجّحٌ أن يحدث إذا ما استمرت الصين في نمّوها الاقتصادي المبهر ليست صورةً طيّبة. في الحقيقة هي صورة مُحبِطةٍ ومُحزنةٍ في آن. آملُ أن أكون قادرًا على سرد حكايةٍ أخرى أكثر تفاؤلاً عن آفاق السلام في منطقة آسيا-الباسيفيك، إلاّ أنّ الحقيقة تقول بأنّ السياسة الدولية لهي عملٌ مقرفٌ وخطير، ولا قدرةَ لشيئٍ من حسن النيّة أن يُحسّن المنافسة الأمنية الشديدة القائمة حينما يظهر مُهيمنٌ طموحٌ في أوراسيا، ولا يوجد شكٌّ بأنّ هناك واحدًا يظهر في الأفق.
أستاذ علم السياسة بجامعة شيكاغو، حيث درّس هناك منذ سنة 1982. يُعتبر ميرشايمر أكثر المنظرّين المعاصرين في حقل الدراسات الدولية شهرةً وتأثيرًا على الإطلاق، كما يُعتبر بمثابة الجسر المتين المعاصر للتقليد الواقعي في الحقل منذ ثيوسيديدس وميكيافيلي ومورغانثو وكينيث والتز. يقود ميرشايمر تيار الواقعية الكلاسيكية الجديدة في شقّها الهجومي، وترتكز كتاباته على القضايا الأمنية الدولية وسياسات القوى الكبرى، كما يولي أهميّةً خاصّةً لمسألة الصعود الصيني والاستراتيجية الأمريكية الكبرى. تحظى كتابات ميرشايمر بانتشار واسع وتُترجم إلى أكثر من 20 لغة، من أبرز كتبه “مأساة سياسة القوى الكبرى” (2001)، “اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجية الأمريكية” بالاشتراك مع زميله ستيفن وولت (2007)، و”الوهم الأعظم: الأحلام الليبرالية والحقائق الدولية” (2018). صدر له مؤخّرًا في شهر سبتمبر 2023 كتابٌ جديد بالاشتراك مع سيباستيان روساتو حمل عنوان: “كيف تُفكّر الدول: عقلانيةُ السياسة الخارجية”.
باحث رئيسي بمركز دراسات الإسلام والشؤون العالمية (CIGA) التابع لجامعة إسطنبول صباح الدّين زعيم بتركيا. تهتّم أعماله البحثية بمجال الجيوبوليتيك، نظريات العلاقات الدولية، سياسات القوى العظمى، جيوبولتيك أوراسيا وبحر الصين الجنوبي وشمال افريقيا، السياسة الخارجية التركية والسياسة الخارجية الجزائرية. له العديد من الكتب والدراسات والترجمات والملخصّات الأكاديمية المنشورة باللغتين العربية والانجليزية، منها كتاب “النظام الدولي الليبرالي: جون ميرشايمر في مواجهة جون آيكينبري، صعودٌ أم سقوط؟” (2021)، وكتاب “أثر التحوّلات الطارئة في بنية النظام الدولي على التوجّهات الكبرى للسياسة الخارجية التركية” (2017)، وكتاب “آفاق الانتقال الديمقراطي في روسيا” (2015).