تقود الصين وروسيا وأصدقاؤهما المستبدون صدامًا ملحميًا آخرَ حول الرقعة الأرضية الأكبر في العالم

 

بقلم: هال براندز

ترجمة وعرض: جلال خَشِّيبْ

ترجمات/ ديسمبر 2023

Hal Brands, The Battle for Eurasia, Foreign Policy, June 4, 2023/ US

محتويات المقال:

  1. العالم الحرّ في مواجهة أوراسيا المُحصّنة
  2. تحدّي الدول المتأرجحة
  3. تحصين العالم الحرّ

الكلمات المفتاحيّة:التقارب الصيني-الروسي، أوراسيا المُحصّنة، العالم الحرّ، الدول المُتأرجحة، عامل الجغرافيا، الاستراتيجية الأمريكية

يعرض المقال لمعالم الصراع الجيوبولتيكي الأبرز خلال القرن الحالي بين القوى العظمى، والذّي سيدور -مرةً أخرى- حول أوراسيا، طرفاه كتلتيْن متباينتيْن جيوبولتيكيًا وإيديولوجيًا، وهما كما يسميّهما الكاتب: «العالم الحرّ» بقيادة الولايات المتحدّة من جهة، وقوى «أوراسيا المُحصّنة»، القارّة المأهولة بـ “أعداء العالم الحرّ”، من جهةٍ أخرى، أبرزها الصين وروسيا وإيران وكوريا الشمالية. في حين تُناور بين الكتلتين «دولٌ متأرجحةٌ» حاسمةُ التأثير من أجل تحقيق مكاسب معيّنةٍ من كلا الطرفيْن، كما تُشكّل هذه الدول تحدّيًا للولايات المتحدّة وتلعب دورًا مهمًا في تحديد مصير الصراع المقبل.

يفتتح هال براندز مقاله بإظهار أبرز “الجوانب الإيجابية والسلبية” للحرب الروسية الجارية على أوكرانيا، فمن جهة، أظهرت هذه الحرب جوانبًا إيجابيةً عديدة بخصوص مركزية القوة والقيادة الأمريكية، لكنّها ستُسفر، من جهةٍ أخرى، عن نتيجةٍ مشؤومةٍ جدًّا تتمثّل أساسًا في: «صعود ائتلاف الأوتوقراطيات الأوراسية التّي يربط القرب الجغرافي بعضها البعض، وكذا عداؤها الجيوبولتيكي للغرب». كما أنّ حشْدَ الرئيس فلاديمير بوتين ضدّ الديموقراطيات المتقدّمة يُعجِّل من بناء «أوراسيا محصّنة»، المأهولة بأعداء «العالم الحرّ»، مثلما يُجادل الكاتب.

تقوم الأنظمة الاستبدادية، على رأسها الصين وروسيا وإيران وإلى حدٍّ ما كوريا الشمالية بالضغط لا من أجل بسط السلطة في أقاليمها المعنيّة فحسب، بل إنّها بصدد تشكيل شراكاتٍ إستراتيجيةٍ مغلقة عبر أكبر رقعةٍ جغرافيةٍ في العالم، أوراسيا. كما أنّها تُعزّز من شبكات التجارة والمواصلات هناك خارج نطاق الدولار الأمريكي والبحرية الأمريكية. يُمثّل هذا التقارب كتلةً من الخصوم الأكثر تماسكًا وخطورة من أيّ كتلة مشابهةٍ واجهتها الولايات المتحدة منذ عقود.

كلّ النزاعات الكبرى التّي وقعت خلال الحقبة الحديثة تنافست فيها القوى الكبرى حول أوراسيا، حيث تصادمت الائتلافات المتبارزة من أجل الظفر بالهيمنة على هذه القارّة الخارقة والمحيطات البحرية التّي تلّفها. في الحقيقة كان القرن الأمريكي هو القرن الأوراسي، فقد كانت ولا تزال المهمّة الحيوية لواشنطن كقوةٍ خارقةٍ هي الحفاظ على العالم في حالة توازن من خلال إبقاء أوراسيا منقسمة. حاليًا، تقود الولايات المتحدة مرّةً أخرى ائتلافًا من الحلفاء الديمقراطيّين المتواجدين على حواف أوراسيا ضدّ مجموعةٍ من المنافسين المتموقعين جغرافيًا في المركز، بينما تناور «دولٌ متأرجحةٌ» حاسمة (Swing States) من أجل تحقيق مكاسب معيّنة. يرى براندز بأنّ دولاً مثل تركيا والسعودية والهند تحظى بدورٍ حاسمٍ في حقبة التنافس هذه، وذلك بفضل الجغرافيا التّي تحتلّها، والثقل والنفوذ الذّي تمارسه في العديد من القضايا التّي عزمت فيها هذه الدول اللعب على الطرفين.

إنّ احتواء التحدّي الأوراسي سينطوي على تقوية الأواصر داخل وبين شبكات تحالفات الولايات المتحدة. إلاّ أنّ ما يجعل اللحظة الحالية صعبةً للغاية (بالنسبة لواشنطن) هي أنّ الدول المتأرجحة الانتهازية سوف ترسم أيضًا شكل الصراع بين أوراسيا المحصّنة والعالم الحرّ.

 

العالم الحرّ في مواجهة أوراسيا المُحصّنة:

يُشخّص القسم الأول معالم التنافس الجيوبولتيكي الأكبر في القرن الحالي بين «العالم الحرّ» و«أوراسيا المُحصّنة». لقد ظلّت أوراسيا لفترة طويلة تُعتبر أكثرَ منطقةٍ استراتيجية مغلقة ومفتاحية في العالم، نظرًا لكونها تضّم البلدان الأكثر ثراءً وقوة، باستثناء الولايات المتحدة. ومنذ مطلع القرن العشرين، ظلّت هذه القارّة الضخمة مترامية الأطراف تشهد شجاراتٍ شرسةٍ من أجل الصدارة الجيوبولتيكية.

بعد نصر الحرب الباردة، كانت واشنطن وأصدقاؤها متصدّرين في كلّ الأقاليم الفرعية المفتاحية لأوراسيا: أوروبا وشرق آسيا والشرق الأوسط. إلاّ أنّه ومنذ ذلك الوقت برزت التحدّيات من جديد يقودها منافسون تمحوروا وتظافروا بشكلٍ متنامي حول عدائهم المشترك للوضع القائم. ثمّ جاءت الحرب الروسية-الأوكرانية لتُسرّع من صعود كتلةٍ أوراسيةٍ جديدة.

عن تداعيات الحرب الروسية-الأوكرانية، يرى الكاتب بأنّ موسكو كانت تحظى بموقع تحكّمٍ في الأقاليم الممتدّة ما بين آسيا الوسطى وجبهة الناتو الشرقية في أوروبا. كانت الشراكة الاستراتيجية الصينية-الروسية تبدو في تصاعدٍ بينما تعاني الديمقراطيات من هزيمةٍ محبطة. إلاّ أنّ هذا السيناريو تعرّض للتآكل مع هجوم بوتين على أوكرانيا. مع ذلك، تظلّ للحرب آثارٌ استقطابيةٌ عميقة. لقد تسبّبت الحرب في إعادة تسلّح الناتو وتوسّعه، كما أيّدت الديمقراطيات الآسيوية أوكرانيا وشاركت في معاقبة روسيا خوفًا من أن تتشجّع قوى أخرى مجاورة لها على تقليد روسيا ضدّها. كما أنّ البلدان التّي تربطها القيم الليبرالية والداعمة للنظام الدولي الليبرالي بقيادة واشنطن في صدد تقوية دفاعاتها من شرق أوروبا إلى غرب الباسفيك. كما أنّها تعيد التفكير في الروابط الاقتصادية والتكنولوجية بالأنظمة الطغيانية في موسكو وبيجين، وهو ما عبّر عنه الرئيس الأمريكي جو بايدن بقوله أنّ: «العالم الحرّ يأخذ شكله مرّة أخرى».

 

يُحدّد الكاتب مجموعة مزايا تعزّز قوة «أوراسيا المُحصّنة». أولّها ميزة التقارب الجغرافي من بعضها البعض، بل المحاذاة الجغرافية أحيانًا، فقد مكّنها ذلك من تعزيز حمايةٍ ذاتيةٍ ومكاسب استراتيجية، مثلما أظهرت الحرب الروسية-الأوكرانية ذلك، خلافًا لما كان عليه وضع القوى التعديلية في السابق، حيث كان التباعد الجغرافي بين ألمانيا واليابان، مثلاً، عاملاً معرقلاً أثناء مساعدة بعضهما البعض خلال الحرب العالمية الثانية. على سبيل المثال، تكبّدت الغواصات اليابانية المُرسَلة لألمانيا عناء السفر لمسافةٍ طويلة ومُكلفة ليتّم إغراقها من طرف البحرية الأمريكية في خليج بيسكاي غرب فرنسا قبل وصولها لوجهتها. في حين يمنح التقارب الجغرافي بين الصين وروسيا لتعاونهما أفضليةً أكبر ويقويّه ويقلّص عدم التماثل في القوة مع الولايات المتحدة، كما يتيح لهما القتال ظهرًا لظهر متسانديْن ضدّ العالم الخارجي.

وفقًا للكاتب، تسعى كلٌّ من موسكو وبيجين وطهران وبيونغ يونغ للإطاحة بميزان القوى في أقاليمها وتنظر لواشنطن كعائقٍ أساسي، وكلّ هذه القوى تخشى من حساسيّتها تجاه العقوبات التّي يمكن أن تفرضها الولايات المتحدة عليها. كما أنّها جميعًا في حاجة لبقاء الآخرين، لأنّ تعرّض إحداها للتدمير من طرف الولايات المتحدة أو حلفائها سوف يجعل بقية القوى في حالة منعزلة جدًّا وحساسّة. ثانيًا، ميزة التماسك العسكري، فقد عزّزت الحرب من التداخل بين هذه القوى ورفعت سقف طموحات الروابط الدفاعية بينها. صارت العلاقات العسكرية بين هذه القوى تبادليةً تجري في الاتجاهين. على سبيل المثال، تبيع بيونغ يونغ لموسكو ذخيرة المدفعية، مثلما تدعم روسيا كوريا الشمالية عسكريًا. ينطبق ذات الأمر على العلاقات القائمة بين روسيا وإيران، اللتّين تبنيان «شراكةً دفاعيةً متكاملة الأركان». صحيح بأنّ الصين لم تدعم علنًا حرب بوتين في أوكرانيا بمساعداتٍ عسكريةٍ فتّاكة، خوفًا من العقوبات الأمريكية والأوروبية. إلاّ أنّها وفرّت له «مساعدةً غير فتّاكة» كالطائرات المُسيّرة عن بعد وشرائح الحاسوب المساعِدة على كسب الحرب. ومن المرجّح أنّها سوف تدعمه أكثر في حالة ما إذا صار يواجه الهزيمة.

قد يؤدّي تشكّل حلفٍ رسميٍ بين الصين وروسيا إلى قلب ميزان القوة العسكري. فإذا قدّمت روسيا للصين التكنولوجيا التّي تُهدّئ من ضجيج الغواصات الحسّاسة (بشكلٍ يحولُ دون تمكّن أجهزة الاستشعار المضادة للغواصات من رصدها) أو صواريخ أرض جو، فمن شأن ذلك أن يغيّر على نحوٍ عميقٍ وضع أيّ حربٍ صينية-أمريكية تنشب في غرب الباسفيك. ففي أوراسيا الحالية، تتشكّل قضيةٌ مشتركةٌ بين القوى التعديلية المسلّحة بشكلٍ جيّد، تدافع عنها بحماس.

ثالثًا، ميزة بناء شبكات التجارة والمواصلات الآمنة من اعتراض الديمقراطيات، حيث ظلّت الصين لسنواتٍ عديدةٍ تستثمر في خطوط الأنابيب والسكك الحديدية الممتدّة عبر الأرض الأوراسية بقصد تأمين الوصول إلى نفط الشرق الأوسط وموارد حاسمة أخرى. تسعى بيجين الآن إلى معاقبة اقتصادها من خلال تقليل الاعتماد على المدخلات الأجنبية، وهو مشروع اكتسب إلحاحًا بسبب الحرب الاقتصادية الغربية على موسكو. أمّا روسيا وإيران فهما يمنحان الطاقة لممّر النقل الدولي شمال-جنوب، الذّي يربط البلدين عبر بحر قزوين المغلق، كما أنّ إيران ترشد موسكو لطرق تمكّنها من تجنّب العقوبات. على نفس المنوال، تُعمّق روسيا والصين من التعاون لتطوير طريق البحر الشمالي، وهو الطريق البحري الأقل حساسية وانكشافًا بين الموانئ الصينية في الباسفيك وروسيا الأوراسية. هكذا فإنّ الاندماج الأوراسي صار جوهريًا، لاسيما مع تعرّض التجارة الدولية لأزمةٍ في الوقت الحالي.

يشير الكاتب إلى الارتفاع الحاصل في العلاقات التجارية الروسية-الإيرانية، والصينية-الروسية منذ فبراير 2022، تاريخ بداية الحرب في أوكرانيا. فكلّ قوةٍ صارت ترى الأخرى ملاذًا لتجارتها وتعاملاتها، كما أنّ عملة اليوان الصيني تجاوزت الدولار في شهر فبراير الماضي باعتبارها العملة الأكثر استخدامًا للتجارة في تعاملات موسكو. جرّبت الصين وإيران أيضًا استبعاد الدولار من تعاملاتهما التجارية الثنائية. يوافق الكاتب على ما ذهب إليه الباحث ألكسندر غابوف من أنّ: «الجيوبولتيك لن تؤدّي إلى الإطاحة العالمية بالدولار» في أيّ وقتٍ قريب، لكنّه يرى بأنّ الجيوبولتيك يمكن أن تروّج لكتلةٍ اقتصاديةٍ وتكنولوجيةٍ متمركزةٍ حول الصين في قلب العالم القديم.

أخيرًا، فإنّ هذه الكتلة الأوراسية تتميّز بتماسكٍ فكريٍ وإيديولوجي، فقواها الأساسية -روسيا والصين وإيران وكوريا الشمالية- تتشارك خطابَ مقاومةِ كتلةِ حلفاء الولايات المتحدة، المُماثلة لكتلة الحرب الباردة، وترى بأنّ التعاون الأوراسي يُعتبر الترياق المضاد “للنزعة الأحادية” الأمريكية، كما أنّ أوراسيا في نظر بوتين تُمثّل ملاذًا “للقيم التقليدية” المُحاطة بسياج “النخب الليبرالية الجديدة” الغربية. لقد تسبّبت الحرب الجارية في عزل بوتين عن الغرب وأحيت بالتالي الجدل التقليدي في روسيا حول الوجهة التّي ينبغي أن يسلكها البلد، إنّها الوجهةُ الأوراسية في الوقت الحالي. قد يجعل ذلك روسيا معتمدةً جدًّا على الصين، إلاّ أنّ أوراسيا المحصّنة من شأنها أن تجعل وضع واشنطن وأصدقائها أصعب.

سوف يجعل الاندماج الأوراسي خصوم الولايات المتحدة أقلّ حساسية للعقوبات، سوف يقويّهم عسكريًا ضدّ أعدائهم ويقود إلى تعاونٍ دبلوماسيٍ أوسع، على غرار الدعم الروسي القويّ لموقف الصين بخصوص تايوان، وربّما إلى مساعدةٍ ماديّةٍ لبعضهما البعض عند نشوب حربٍ ضدّ الولايات المتحدة. فلو وجدت روسيا فرصةً لمساعدة الصين على جعل الولايات المتحدة تنزف في شرق آسيا فلن تضيّعها، كما لن تحتاج إلى دوافع للقيام بذلك.

سوف تجعل أوراسيا المحصّنة العالم أكثر أمنًا لنشاط النزعة التعديلية العنيفة في النظام الدولي، كما ستُمكّن قواها من تصدير القوة نحو الأقاليم الهامشية في غرب الباسفيك وأوروبا والشرق الأوسط وما وراءهما.

 

تحدّي الدول المتأرجحة: 

ينتقل الكاتب بعدها لمناقشة الدور الذّي تلعبه ما يُسمّيه بـ «الدول المتأرجحة» في هذا التنافس المحموم بين «أوراسيا المُحصّنة» و«العالم الحرّ». تحظى الدول المتأرجحة بمزايا جغرافية واستراتيجية تسمح لها بالسعي لتحصيل مزايا من كلا الكتلتين والتأثير في ميزان القوة العالمي.

في الخليج الفارسي المهّم، توجد السعودية والإمارات اللتان حوّلتا وجهتهما الاقتصادية والتكنولوجية نحو الصين. كلاهما يُبقيان علاقاتٍ قويّةٍ مع روسيا، حتّى في خضّم الحرب الجارية في أوكرانيا، وكلاهما يحظى اليوم -خلافًا للماضي- بروابط مشتركةٍ سياسيًا مع خصوم الولايات المتحدة أكثر ممّا مع الولايات المتحدة نفسها.

يتحدّث الكاتب أيضًا عن تركيا التّي تحتّل موقعًا جغرافيًا مهّمًا عند مفترق الطرق، بين بحرين وقارتين. يلعب الرئيس إردوغان أيضًا لعبةً مزدوجة، فأنقرة تتمتّع بحماية الناتو، في حين تستورد دفاعاتٍ جويةٍ روسية. تدعم أوكرانيا، بينما تساعد موسكو على تجنّب العقوبات، كما أنّها صارت لاعبًا أساسيًا في النزاعات الممتّدة من القوقاز إلى القرن الإفريقي، حتّى أنّها تقف ضدّ المصالح الأمريكية في هذه النزاعات، فاردوغان يسعى «ليحافظ على قدمٍ له في كلّ معسكر».

أمّا في جنوب شرق آسيا، فيتحدّث الكاتب عن باكستان التّي كانت أحد شركاء الولايات المتحدة الحاسمين، هي الآن تميل نحو الصين وترى في الأخيرة مَمرًّا نحو المحيط الهندي. وعلى العكس، فإنّ الهند تميل نحو الولايات المتحدة بحثًا عن الحماية من الصين، لكنّها لا تزال تعتمد على روسيا من أجل الحصول على الأسلحة والطاقة، كما أنّ عامليْ الإيديولوجيا والمصلحة الذاتية يجعلان نيودلهي أكثر أريحية في المناورة بين القوى العظمى بدلاً من ربط نفسها بأيّ منهما. إنّه لمن الخطء الظنّ بأنّ الهند قد اتّخذت خيارها بشكلٍ لا رجعة فيه. كما يرى الكاتب بأنّ الاصطفاف يظلّ أكثر ميوعةً لدى البلدان الأخرى عبر حواف أوراسيا، من اندونيسيا وصولاً إلى مصر.

تختلف الدول المتأرجحة فيما بينها، لكنّها تُفضّل جميعًا المناورة بين الائتلافات المتنافسة، أملاً في المحافظة على خياراتٍ مفتوحةٍ والظفر بالصفقات الأفضل إمكانًا من كلّ طرف. كلّها كانت متناقضة، خاصّة في موضوع الاستجابة لغزو بوتين لأوكرانيا، نظرًا لأنّها تُقدّر قيمة علاقاتها مع موسكو وتخشى أن تَحُولَ الجيوبولتيك المستقطَبة دون المرونة الدبلوماسية. كلّها بإمكانها أن تؤثّر على إعدادات القوة المتعلّقة بالكتلة الأرضية الأكثر مركزية في العالم، أوراسيا. لقد عزّزت جميع هذه الدول المتأرجحة من حرب بوتين في أوكرانيا وذلك من خلال مساعدته على تقليص آثار العقوبات. قطعت السعودية مثلاً في أواخر سنة 2022 انتاج النفط، وهو ما جعل أسعاره ترتفع وترتفع معها مداخيل موسكو. أمّا بخصوص العلاقات مع الصين، فقد تتجّه الإمارات لاستضافة قاعدةٍ صينيةٍ على أراضيها، وهو ما يعني مساعدة بيجين على إدخال قوتّها العسكرية في منطقة حسّاسة. وقد أدخلت السعودية فعلاً الصين لشؤون المنطقة من خلال الترحيب بالقوة الدبلوماسية الصينية في تحقيق قليلٍ من الانفراج مع إيران. أمّا الرابطة الوثيقة لباكستان مع الصين فستُمكّن الأخيرة من الهروب من «معضلة مضيق ملقا»، المضيق الذّي لا تُسيطر عليه الصين ويمرّ عبره حجمٌ كبيرٌ من تجارتها المتوجّهة غربًا. ستؤثّر خيارات تركيا على مستوى الضغوط الاقتصادية التّي يواجهها بوتين، وعلى قوة وتضامن الناتو، وعلى المشهد الجيوبولتيكي من آسيا الوسطى إلى الشرق الأوسط.

 

تحصين العالم الحرّ:

في القسم الأخير من المقال يُقدّم هال براندز جملةً من التوصيات لواشنطن من أجل تحصين “العالم الحرّ” ضدّ التحدّيات التّي تفرضها أوراسيا المُحصّنة. يرى الكاتب بأنّ الولايات المتحدة لا يمكنها أن تقلب ببساطة مسار تشكّل أوراسيا المُحصّنة، لأنّ هذه العملية تُعتبر نتيجةً للمصالح القويّة المتقاسَمة والتوتّرات العالمية الحادّة الناتجة عن الحرب في أوكرانيا. وإذا أرادت واشنطن من الناحية العملية إحداث شقاقٍ في هذا الائتلاف بين قوى أوراسيا التسلّطية فسيكون عليها تقديم تنازلاتٍ كالتخلّي عن أوكرانيا وأجزاء من أوروبا الشرقية لموسكو، وهذا ما سيفاقم مشكلات واشنطن العالمية.

لذلك وكتوصيات منه، يدعو براندز واشنطن إلى تقوية العلاقة مع حلفائها في شرق آسيا وأوروبا من أجل تحصين أوراسيا وأوروبا ضدّ خصومها، فكتلة الولايات المتحدة أساسًا هي أكبر قوة من الناحيتيْن الاقتصادية والعسكرية مقارنةً بكتلة الخصوم. وبالفعل فالولايات المتحدة تتابع عناصرًا من هذه الاستراتيجية، من خلال تقوية التحالفات مع اليابان والفلبين، وتعزيز خاصرة الناتو الشرقية، وإحداث شَرَاكات مثل ائتلاف الأوكوس، والتّي تربط الديمقراطيات المتماثلة في التفكير عبر أقاليمٍ عديدة. لذا ستكون الخطوة الثانية هي إحداث مزيدٍ من الاندماج بين دفاعات دول العالم الحرّ في الأماكن التّي تكون فيها التهديدات أكثر جدّية، ربّما من خلال متابعة التزام ثلاثي بين الولايات المتحدة واليابان وأستراليا من أجل مقاومة الاعتداء الصيني أو من خلال تنظيم وإعداد خططٍ جدّيةٍ تُحدّد الكيفية التّي من الممكن أن تستجيب بها القوى الأوروبية عسكريًا واقتصاديًا للصراع في غرب الباسفيك.

يُنوّه الكاتب إلى إمكانية عودة “النزعة الترامبية الأحادية” «أمريكا أولاًّ» في حالة عودة دونالد ترامب للرئاسة مجدّدًا مع انتخابات سنة 2024، والتّي من شأنها أن تُقوّض جهود «العالم الحرّ» التّي تباشرها إدارة بايدن الحالية.

يتمثّل التحدّي الثاني في تعظيم التوافق الاستراتيجي مع الدول المتأرجحة وفي الوقت نفسه تقليص الاختلافات معها في الأماكن والقضايا التّي يقع فيها الضرر أكثر. قد تكون هذه مهمّةً شاقّة، لكنّها تتطلّب من واشنطن فصل ما هو جوهري عمّا هو مهمّ، وهو: تحديد تلك القضايا التّي ينبغي أن تستخدم فيها الولايات المتحدة نفوذها بشكلٍ عدواني من أجل تجنّب حدوث تغييرٍ ذي معنى في التوازن الأوراسي كالإبقاء على مسألة القواعد العسكرية الصينية خارج منطقة الخليج الفارسي. تتطلّب النتيجة الطبيعية لتحقيق ذلك من طرف واشنطن قبول المساومات الأخلاقية مع الدول المتأرجحة (أيْ أنّ الكاتب يدعو هنا بشكلٍ ضمني واشنطن لتغضّ الطرف عن بعض السلوكيات الداخلية “غير الديمقراطية” لهذه الدول). مثلاً، يمكن للولايات المتحدة أن تجعل من السعودية دولةً منبوذةً أو تتحدّى الهند مباشرةً في موضوعات الحَوّكَمة المحليّة، لكن لن يكون ذلك ممكنًا من دون تعريض التعاون مع هذه الدول للخطر في القضايا الأكثر أهمية لها من الناحية الاستراتيجية. يتطلّب ذلك من واشنطن أن تُكيّف رسائلها المُوجّهة للجمهور، فخارج العالم الغربي سيكون تركيز الخطاب على المعايير الديمقراطية أقلّ فعاليةً مقارنةً بالتركيز على مسائل كالسيادة وسلامة الأراضي، والمعايير التّي يتّم تهديدها بالسلوكيات، كمعارضة طبيعة النظام السياسي للقوى التعديلية الأربع المُشار إليها. ويرى بأنّه لو اتجّهت الولايات المتحدة لمعاقبة الدول المتأرجحة على خياراتها الدبلوماسية فإنّها تخاطر بتحويل تردّد وازدواجية هذه الدول إلى عداء. وإذا لم تفعل ذلك فإنّها تخاطر بفقدان كلّ نفوذها. لكن ونظرًا لأنّ ذلك يمثّل سلوكًا توازنيًا صعبًا، فإنّه من المهّم أن تقوم واشنطن بتحويل الحوافز الضمنية لهذه الدول مع الوقت.

 

أخيرًا، يرى الكاتب بأنّه ومع الاستنزاف الذّي تعرّضت له الصناعة الدفاعية الروسية خلال الحرب في أوكرانيا، فإنّ هذه الحرب خلقت فرصةً لمساعدة دولٍ كتركيا والهند وفيتنام وغيرها من الدول للتحرّك بعيدًا عن الصناعة العسكرية لموسكو، وبالتالي تغيير حساباتها بخصوص قضايا جيوبولتيكية متفرّقة. فتشجيع الروابط الاقتصادية الهندية مع الخليج الفارسي، يمكنه ببساطة تقليص الاعتماد على التجارة والمال الصينيين في منطقتين مهتمتّين.

إنّها المرّة الرابعة في قرنٍ أو أكثر قليلاً، يجري الآن صراعٌ ملحميٌ حول أوراسيا، سوف يقتضي الفوز به من واشنطن أن تحشد حلفاءها في العالم الحرّ، بينما تنافس من أجل التأثير على البلدان التّي لن تلتزم معها بطريقة ما.

هال براندز:

أستاذ فخري للشؤون العالمية في مدرسة جون هوبكنز للدراسات الدولية المتقدّمة، وباحث أول بمعهد المشروع الأمريكي، وبمركز التقييم الاستراتيجي وتقييم الميزانية. كما أنّه كاتب عمود في منصّة بلومبروغ. يُعتبر براندز أحد أبرز صقور النزعة الأممية الليبرالية، حيث اشتغل كمساعد خاصّ لوزير الدفاع للتخطيط الاستراتيجي ما بين 2015-2016، وهو زميل باحث في مجلس العلاقات الخارجية للشؤون الدولية، كما اشتغل كمستشار لدى العديد من المكاتب الحكومية ووكالات مجتمع الاستخبارات والأمن القومي. يتميّز براندز بغزارة انتاجه المعرفي فهو كاتب ومُحرّر للعديد من الكتب، منها: “الاستراتيجية الأمريكية الكبرى في حقبة ترامب” (2018)، “صُنع لحظة الأحادية القطبية: السياسة الخارجية الأمريكية وصعود نظام ما بعد الحرب الباردة” (2016)، “دروس المأساة: فنّ الحكم والنظام العالمي” (2019). آخر كتبه المنشورة كتاب “منطقة الخطر: الصراع القادم مع الصين”، بالاشتراك مع مايكل بيكلي (2022). 

جلال خَشِّيبْ:

باحث رئيسي بمركز دراسات الإسلام والشؤون العالمية (CIGA) التابع لجامعة إسطنبول صباح الدّين زعيم بتركيا. تهتّم أعماله البحثية بمجال الجيوبوليتيك، نظريات العلاقات الدولية، سياسات القوى العظمى، جيوبولتيك أوراسيا وبحر الصين الجنوبي وشمال إفريقيا، السياسة الخارجية التركية والسياسة الخارجية الجزائرية. له العديد من الكتب والدراسات والترجمات والملخصّات الأكاديمية المنشورة بالعربية والإنجليزية، من مؤلّفاته كتاب: “النظام الدولي الليبرالي: جون ميرشايمر في مواجهة جون آيكينبري-صعودٌ أم سقوط؟” (2021)، وكتاب: “أثر التحوّلات الطارئة في بنية النظام الدولي على التوجّهات الكبرى للسياسة الخارجية التركية” (2017)، وكتاب: “آفاق الانتقال الديمقراطي في روسيا” (2015).

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *