بقلم: مايكل بِيكْلِي

عرض وترجمة: جلال خَشِّيبْ

ترجمات/يناير 2024

Michael Beckley, Delusions of Détente: Why America and China Will Be Enduring Rivals, Foreign Affairs, September/October 2023, USA

Reviewed and translated by: Djallel Khechib

محتويات المقال:

 

  1. عداواتٌ متأصّلة
  2. رؤى صفريّة متباعدة
  3. الانخراط أم الاحتواء؟
  4. الاستعداد للأوضاع الصعبة

 

الكلمات المفتاحيّة: التنافس الأمريكي-الصيني، الانفراج، سياسة الاحتواء، سياسة إعادة الانخراط، الرؤى الصفرية المتضاربة 

مع بلوغ العلاقات الأمريكية-الصينية أسوء حالاتها منذ خمسين عامًا، برزت طروحات إستراتيجية ترى إمكانيةً لتعايش القوتين معًا في سلام إذا ما تبنّت الولايات المتحدة سياسة إعادة الانخراط مع الصين واتجهت إلى استيعاب (Accommodate) صعودها ومراعاته بدلاً من اعتناقها لسياسة الاحتواء كما فعلت مع الاتحاد السوفياتي. فمن خلال عقد مؤتمراتٍ ومحادثاتٍ واسعة يمكن للولايات المتحدة -وفقًا لهؤلاء- أن تعترف بالخطوط الحمراء التّي تضعها الصين وتُصلح الخطوط الساخنة للأزمات وتُقيم تبادلاتٍ ثقافية، كما يمكن للقوتين إبطال التوترات عبر وسائل الدبلوماسية النشطة وتقليص حواجز التجارة بينهما وتفعيل التبادلات بين أفراد الشعبين وإنشاء المؤسّسات التعاونية وغيرها. يطرح آخرون إمكانيةَ عقد القوتيْن لصفقةٍ كبرى تُرسي لمجالاتِ نفوذٍ مستقرّة بينهما وشيءٍ شبيه بـ G2 (أي مجموعة تضمّ القوتين العظمتين) من أجل حلّ مشكلاتٍ عالميةٍ كمشاكل التغيّر المناخي والجوائح. قد تفضي هذه السياسات بالقوتين للدخول في مرحلة انفراجٍ دولي يُجنّبهما أخطار الانزلاق نحو حربٍ مُدمّرة، فلطالما رأى هؤلاء بأنّ العلاقات السيّئة جدًّا بين الولايات المتحدة والصين ليست نتيجةً حتميةً لصدامٍ بين قوتيّن عظمتين متعارضتين أيديولوجيًا حول مصالحٍ حيويةٍ ما، بل هو التباسٌ بين شريكيْن، تضخّمَ بسبب ردّ فعل الولايات المتحدة المبالغ فيه عند مواجهة تجاوزات الصين.

 

يذهب التفكير طيلة العقدين الماضيين إلى أنّ الصين تقوم ببساطة بما تقوم به القوى الصاعدة عادةً، أيْ فَرْدُ عضلاتها والمطالبة بصوتٍ أكبر في الشؤون العالمية، وهو ما يثير قلق العديد من المراقبين، لاسيما المدافعين عن سياسة إعادة الانخراط (Reengagement). يشير الكاتب إلى أنّ التصوير المظلم للصين يصبّ في صالح العديد من الأطراف المستفيدة من حدوث صدامٍ بين الولايات المتحدة والصين، والمحفّزة على إذكاء التنافس بينهما (مثلما تفعل العناصر الجشعة المتعاقدة مع وزارة الدفاع، والمنتقدين الساعين للإثارة ونشطاء حقوق الانسان المتحمسين وغيرهم)، وقد تسبّبت سلوكياتهم هذه في خلق جوٍ سائدٍ معاديِ للصين داخل الولايات المتحدة وجَعَلَ «واشنطن ترضخ لجماعاتِ تفكيرٍ خطيرة حول الصين» على حدّ تعبير فريد زكريا. كما أنّ اعتناق أغلب الأمريكيين لرؤى متشدّدة حول الصين يُقدّمُ أدلّةً إضافيةً لما صارت إليه السياسة الأمريكية من مباشرة نزعةٍ عدوانيةٍ لا عقلانية. وقد جعل هذا الجو السائد «الأمريكيّين ضحيّةً لهستيريا الصين وطائفةِ المحذرّين منها، وهو ما قد يقود الولايات المتحدة إلى حربٍ نووية» مثلما يحذّر المؤرّخ ماكس بوت (Max Boot).

وفقًا لدعاة سياسة إعادة الانخراط مع الصين فإنّ حلّ مشكلة دائرةِ العداء هذه أمرٌ ممكن وواضحُ المسار. سيكون ذلك، أولاً، من خلال إبطال التوترات عبر وسائل الدبلوماسية النشطة والتجارة والتبادلات بين أفراد الشعبين، ثمّ إنشاء منتدى جديد يمكن فيه لمسؤولي البلدين اللقاء بشكلٍ منتظمٍ من أجل مناقشة الاتفاقيات. كما يرى بعضهم أنّ استيعاب الصين والتكيّف معها يتطلّب تقليص الحواجز التجارية معها. بعضهم دعا إلى تسوياتٍ حاسمةٍ جذرية، مثلما فعل غراهم أليسون الذّي حثّ الولايات المتحدة على قبول حصول الصين على مجالِ نفوذٍ تقليديٍ في آسيا، والذّي يعني تبعًا لذلك منح بيجين حريّةً أكبر في بحر الصين الجنوبي والتخلّي عن تايوان وعن القوة الأمريكية في المنطقة.

رؤيةٌ كهذه تُعتبر جذّابة، وفقًا للكاتب، ومن الجديد طبعًا أن تُسّوِي القوى العظمى خلافاتها عبر وسائل الدبلوماسية بدلاً من اللجوء إلى المنافسة الأمنية. إلاّ أنّه يرى بأنّ تاريخ المنافسة بين القوى العظمى، عمومًا، والعلاقات الأمريكية- الصينية على وجهٍ أخصّ، يوضّح بأنّ متابعة سياسة الانخراط الكبير ليس من المرجّح أن تُصلح العلاقات بين البلدين، وإذا تمّ تنفيذها بشكلٍ مستعجلٍ فقد يؤدّي ذلك إلى تحفيز نزاعٍ عنيف. فمِن بين أكثر من عشرين منافسةً بين القوى العظمى خلال الـ 200 سنة الماضية، لم تنته أيٌّ منها بجلوس الطرفين لمناقشة كيفية خروجهما من الورطة. بدلاً من ذلك، استدامت المنافسات بينها إلى الحدّ الذّي لم يصِر فيه أحد الأطراف قادرًا على القتال أكثر، أو إلى أن توحّد طرفَا المنافسة ضدّ عدوٍ مشترك. على سبيل المثال، أوقفت الولايات المتحدة والصين منافستهما وذلك من أجل التحالف ضدّ الاتحاد السوفياتي خلال النصف الأخير من الحرب الباردة، وهو التنافس الذّي انتهى فقط حينما آل الاتحاد السوفياتي إلى انحدارٍ نهائي. في كلّ حالةٍ كان حدوثُ تحوّلاتٍ في ميزان القوى شرطًا مسبقًا لحدوث تسوياتٍ مستدامة. قبل حدوث هذه التحوّلات كانت فتراتُ الانفراج عادةً مجرّد فرصٍ لإعادة تشكيل الصفوف والاستعداد لخوض الجولة المُقبلة من التنافس. في حالاتٍ عديدةٍ كان متابعة القوى العظمى لسياسة الانفراج مُمهّدًا للطريق نحو الحرب، مثلما حدث حينما سعت المملكة المتحدة لتحسين علاقاتها مع ألمانيا من سنة 1911 إلى سنة 1914، ثمّ بعد سنة 1938 أيضًا.

ليس من المرجّح أن تكون الولايات المتحدة والصين استثناءً عن هذا المسار، مثلما يُجادل مايكل بيكلي، ذلك أنّ مصالحهما الحيوية تُعتبر متصارعةً ومتجذّرةً بشكلٍ صارمٍ في نظامهما السياسي وجغرافيّتهما وتجاربهما القومية. وبعد عقودٍ من التعامل مع بعضهما، راكمت الحكومتان قائمةً مُطولّةً من التظلّمات ضدّ بعضهما البعض، كما يرى كلٌّ منهما الآخر بعين الارتياب العميق وعدم ثقة. لذلك يرى الكاتب بأنّ التنافس الأمريكي الصيني من غير المرجّح أن يهدأ من دون حدوث تحوّلٍ كبيرٍ في ميزان القوة. وحتّى يحدث هذا التحوّل يدعو بيكلي الولايات المتحدة وحلفاءها لتفضيل سياسة الاحتواء على سياسات إعادة الانخراط أو الاسترضاء أو الاستسلام. إنّ الولايات المتحدة بحاجة لوضع خياراتِ سياساتٍ مرتكزةٍ على هذه الحقيقة الواقعية وعدم الوقوع في فخّ الفنتازيا. لا يعني ذلك التخلّي عن الدبلوماسية أو إغلاق باب المحادثات كليًّا، ولكن يعني أن تكون لها للولايات المتحدة رؤيةٌ واضحةٌ بخصوص نمط الانخراط/المشاركة الذّي يمكن تحقيقه واقعيًا.

وفقًا لبيكلي، هناك أسبابٌ تدعو للأمل بحدوث انحسارٍ في القوة الصينية على المدى المتوسّط، قد يفتح هذا الانحسار المجال لحدوث اختراقٍ دبلوماسيٍ حقيقي. لكن لحصول ذلك يجب على الولايات المتحدة أو حلفائها ردعُ الاعتداء الصيني على المدى القريب وتجنّب تقديم تنازلاتٍ من شأنها أن تعطّل الاتجاهات المفضّلة على المدى البعيد.

 

 

عداواتٌ متأصّلة:

يُوضّح القسم الأول من المقال الأسباب العميقة التّي تجعل الولايات المتحدة والصين «منافسيْن مستداميْن» لن يكون بإمكان سياسة إعادة الانخراط والدبلوماسية تجاوزها، مؤكّدًا في المقابل بأنّ التسويات المُستدامة تتطلّب توازن قوى مستقر، والذّي يبرز عادةً لا من خلال الحديث الدبلوماسي السار، ولكن بعدما يُدرك أحد الأطراف بأنّه غير قادرٍ على مواصلة التنافس.

 

يرى الكاتب بأنّ الولايات المتحدة والصين صارتا «منافسيْن مستداميْن» على حدّ تعبير علماء السياسة، بمعنى بَلدان خَصّ كلّ منهما الآخر بمنافسةٍ أمنيةٍ مكثّفة. يقدّم الكاتب أمثلةً عن مثل هذه البُلدان المتنافسة بشكلٍ مستديم مُشيرًا إلى الصِدمات المتجدّدة بين الهند وباكستان، اليونان وتركيا، الصين واليابان، فرنسا والمملكة المتحدة. يتخاصم المتنافسون لا بسبب إساءتهم لفهم بعضهم البعض، ولكن لكونهم يعرفون بعضهم البعض بشكلٍ جيّد جدًّا، إذْ تدور بينهم نزاعاتٌ متأصّلة حول مصالحٍ حيوية وغير قابلةٍ للتجزئة، تتضمّن غالبًا نزاعاتٍ إقليمية/حول أراضي ما، وهي السبب الرئيسي للحرب. تتداخل مجالات نفوذهما وخطوطهما الحمراء ببعضها، ويحاول كلّ طرفٍ حماية نفسه من خلال تحديث جيشه مثلاً، وهو ما يتسبّب بطبيعته في تهديد الطرف الآخر. وإذا كان اقتصاد هذه الأطراف متداخلاً، كأغلب الحالات، يميل المتنافسون لاستخدام التجارة كسلاح، حيث يسعى كلّ طرفٍ لاحتكار السلع الاستراتيجية والسيطرة عليها على حساب الطرف الآخر. مثلاً، شنّت المملكة المتحدة وألمانيا ضدّ بعضهما منافسةً تجاريةً شرسة قبل الذهاب لتبادل الضربات في الحرب العالمية الأولى.

يعتنق المتنافسون في العادة أيضًا أيديولوجياتٍ متباعدة ويرون نجاح أو انتشار “أنظمة إيمان” الطرف الآخر كتهديدٍ تخريبي لنمط حياتهم الخاصّ. على سبيل المثال، حاولت فرنسا الثورية لا أن تغزو منافسيها الأوروبيّين فحسب، بل أيضًا هدّدت بقلب أنظمتهم الملكية عبر قوة نموذجها ومِثالها. تَوجّهًا نحو الحرب العالمية الثانية، وقفت القوى الفاشية ضدّ الديمقراطيات، وخلال الحرب الباردة قسّمت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي أغلب العالم إلى كتلتين، رأسمالية وشيوعية.

علاوةً على ذلك، يتقاسم المتنافسون تاريخًا سيّئًا من الدماء فعدواتهم المتبادلة متغذيّةٌ من سلوكياتٍ عدوانية سابقةٍ، وبالتالي الخوف من حدوث مزيد منها في المستقبل. فلنسأل الصينيّين اليوم عمّا يشعرون به تجاه اليابان.

يرى الكاتب أنّه من الصعب جدًّا إنهاء المنافسات. وفقًا للبيانات التّي جمعها علماء السياسة ميشال كولَرِسي وكارين راسلر وويليام طومسون (Michael Colaresi, Karen Rasler, and William Thompson) كان هناك 27 تنافسًا بين القوى العظمى منذ سنة 1816، دام كلٌّ صراعٍ من هذه الصراعات لأكثر من 50 سنة في المتوسّط، وانتهى بإحدى طرقٍ ثلاث. وفقًا لحسابات الكاتب، تراكمت 19 منافسة منها (أيْ الأغلبية الواسعة) لتنتهي إلى حرب، مع تمكّن طرفٍ من سحق الطرف الآخر وإخضاعه. انتهت 6 منافسات أخرى بتحالفِ الطرفين المتنافسين ضدّ عدوٍ مشترك. على سبيل المثال، في مطلع عقد 1900 وضعت المملكة المتحدة خلافاتها جانبًا مع فرنسا وروسيا والولايات المتحدة للتوّحد ضدّ ألمانيا، كانت النتيجة هي اندلاع الحرب العالمية الأولى. أخيرًا، كانت هناك الحرب الباردة، فحينما انهار الاتحاد السوفياتي انتهت منافسته مع الولايات المتحدة والصين بشكلٍ سلمي. اليوم، يخشى كثيرٌ من الناس حدوث حربٍ باردةٍ جديدةٍ بين الولايات المتحدة والصين. لكن تاريخيًا، يعتبر هذا النمط من المواجهة المتوتّرة أحسن نتيجةٍ ممكنةٍ نظرًا لكونه يتجنّب حدوث قتالٍ واسعِ النطاق.

قد يردّ دُعاة “ضرورة اتباع الولايات المتحدة لسياسة انخراطٍ أكبر مع الصين” على هذا السجّل التاريخي، ويقولون بأنّهم لا يسعون لبلوغ نهايةٍ وشيكة للتنافس الأمريكي-الصيني، بل لمجرّد بلوغ الانفراج، وهو فترةُ تهدئةٍ تسمح للطرفين بوضع حواجز حمايةٍ وأسوارٍ في علاقتهما. إلاّ أنّ الكاتب يرى بأنّ تاريخ الانفراج بين القوى العظمى لا يدعم هذه الحجّة كثيرًا، ذلك أنّ فتراتٍ كهذه نادرًا ما تدوم طويلاً، حتّى في ظلّ ظروفٍ ذات أفضلية. أنجحُ حالةٍ في هذا الصدد هي «الوفاق/المحفل الأوروبي» (The Concert of Europe)وهو تحالفٌ بين الملكيّات تأسّس سنة 1815 بعد الحروب النابوليونية لسحق الثورات الليبرالية- الذّي كان يتمتّع بكلّ العناصر اللازمة لبلوغ انفراجٍ متينٍ ومستدام، والمتمثّلة في: الأيديولوجيا المشتركة والعدو المشترك وشراكةٌ تمّ صياغتها أثناء الحرب. إلاّ أنّ قادته الكبار توقفّوا عن اللقاء ببعضهم البعض بعد سنة 1822، واكتفوا بإرسال مبعوثين ذوي مستوى دبلوماسي منخفض لحضور لقاءات المحفل بدلاً عنهم. بحلول العقد الأول من الثلاثينيات (s1830) تعرّض المحفل للتمزّق بسبب حربٍ باردةٍ بين أعضائه المحافظين والليبراليين، لينفجر الصراع بينهم لاحقًا إلى حربٍ ساخنة حول القرم سنة 1853.

يوضّح هذا الفشل فكرةً عامّةً جدًّا تتمثّل في أنّ حواجز وأسوار الأمن هي في العادة نتيجة للسلام، وليست وسيلةً فعّالةً للحفاظ عليه، حيث يتّم إنشاؤها عادةً في الأوقات الجيّدة، أو بعد الأزمات مباشرةً، لتتعرّض للتدمير في الأوقات السيّئة. تمّ تركيب أكثر حواجز الأمن تفصيلاً في التاريخ (من حيث بنودها) بعد الحرب العالمية الأولى، بما فيها اتفاق كيلوغ-براين الذّي يحظر الحرب، وعصبة الأمم، وهي منظمةُ أمنٍ جماعيٍ رسمية، وكلاهما فشل في منع حدوث حربٍ عالميةٍ ثانية.

يصف هؤلاء الداعين لانخراط واشنطن على نحوٍ أكثر عمقًا مع الصين متابعةَ سياسةِ الانفراج بأنّها سياسةٌ خاليةٌ من المخاطر: يمكن أن تتعرّض للفشل، لكن لا يمكنها أن تكون مُؤذية، وهي تستحق محاولةً. يعارض الكاتب هذا الادعاء ويرى بأنّ نزاعات المصالح بين المتنافسين حينما تشتّد يمكنها أن تُعرّض للزعزعة جهودًا متحمّسةً كهذه تحثّ على الانفراج. كأمثلةٍ عن ذلك يُقدّم الكاتب حالة الانفراج الانجلو-ألماني ما بين سنتيْ 1911-1914 الذّي ساهم في اندلاع الحرب العالمية الأولى من خلال تغذية ألمانيا بآمالٍ كاذبةٍ مفادها أنّ المملكة المتحدة سوف تحافظ على حيادها في حالة حدوث حربٍ قاريّة. أو اتفاقية ميونيخ لسنة 1930، التّي منحت ألمانيا الاذن لإلحاق جزءٍ من تشيكوسلوفاكيا بها، وهو ما مكّن النازّيين من اجتياح بولندا في السنة اللاحقة. في سنة 1972، أعلنت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي التزامهما «بالتعايش السلمي» موقّعتيْن على اتفاقياتِ الحدّ من التسلّح واتفاقيات تجارة. لكنّ الانفراج بدأ يتآكل خلال العام التالي، حيث وقفت القوتين العظمتين وجهًا لوجه في حربِ يومِ كيبور (حرب أكتوبر 1973)، ثمّ في نزاعٍ آخر بالوكالة في أنغولا سنة 1975، ثمّ تبع ذلك غزوٌ سوفياتيٌ لأفغانستان سنة 1979، والعديد من الأزمات النووية المرعبة مطلع الثمانينيات. كما يحدثُ عادةً أنْ يعني الانفراج شيئًا مختلفًا لدى الطرفين، حيث ظنّ الأمريكيون بأنّهم قاموا بتجميد الوضع القائم، بينما اعتقد السوفيات أنّه تمّ الاعتراف بهم كقوة عظمى خارقة بكلّ ما لها من مزايا، بما فيها حقّ تصدير الثورة للخارج. وبمجرّد ما كشفت الأحداث عن وجود تضاربٍ في التأويلات، عاد التنافس الأمريكي-السوفياتي من جديد.

خلاصةُ القول هي أنّ منافسات القوى العظمى لا يمكن إخفاؤها بمذكّراتِ تفاهم. صحيحٌ بأنّ الدبلوماسية ضرورية لكنّها ليست كافية لحلّ النزاعات دون عنف. كما أنّ التسويات المُستدامة تتطلّب توازن قوى مستقر، والذّي يبرز عادةً لا من خلال الحديث السار، ولكن بعدما يدرك أحد الأطراف بأنّه غير قادر على مواصلة التنافس.

 

 

رؤى صفريّة متباعدة:

يُظهر القسم الثاني وجود رؤى صفريّة متباعدة (رابح-خاسر) بين الولايات المتحدة والصين بخصوص قضايا حيوية عديدة، تجعل من التنافس بينهما مستديمًا، وسياسة إعادة الانخراط وما يترتّب عنها من أدوات الدبلوماسية سياسةً غير ناجعة. لذلك فليس أمام الولايات المتحدة من خيارٍ أنسب كالاحتواء.

لقد وقعت العلاقات الأمريكية-الصينين اليوم في فخاخ تنافسٍ مستدام. بدايةً، فإنّ القضايا الأساسية المتنازع حولها هي أساسًا قضايا “رابح-خاسر”. على سبيل المثال، يمكن أن تُحكم تايوان من طرف تايبيه أو بيجين، لا من كلاهما معًا. إمّا أن يكون بحر الصين الشرقي والجنوبي مياهًا دولية أو بحيرة خاضعة لسيطرة الصين. إمّا أن تكون روسيا منبوذة أو مدعومة. إمّا أن تعزّز الصين من الديمقراطية أو تسحقها. من الممكن أن تكون الانترنت مفتوحة أو خاضعة لرقابة الدولة. بالنسبة للولايات المتحدة، فإنّ سلسلة تحالفاتها في شرق آسيا تمثّل ضمانًا حيويًا وقوة من أجل الاستقرار. أمّا بالنسبة للصين فهي تبدو كتطويق عدائي ضدّها. وغيرها من القضايا التّي لا وجود فيها لخيار ثالث.

علاوةً على ذلك وبشكلٍ أكثر عمقًا، يحمل المتنافسان رؤى متباعدة عن النظام الدولي. يريد الحزب الصيني الشيوعي عالَمًا تكون فيه ما يعتبره حضاراتٍ استبداديةٍ قديمةٍ دولاً حرّةً في حكم مجالات نفوذها التقليدية. على العكس من ذلك، تريد الولايات المتحدة أن تُلقي مجالات النفوذ هذه في مزبلة التاريخ من خلال حماية سيادة البُلدان الأضعف وإدماجها ضمن نظامِ تجارةٍ مفتوح. إنّ التنافس الأمريكي-الصيني أكثر من كونه مجموعة من الخلافات الدبلوماسية، إنّه أيضًا صراعٌ من أجل تعزيز وترويج طرق حياةٍ مُختلفة. إنّ المسألة الأسوء في ذلك، وفقًا للكاتب، تتمثّل في عدم إمكانية أيّ طرفٍ تقديم تنازلات ما من دون أن تكون على حسابه، ومن دون تجاوز خطوطه الحمراء، ومن دون التمكين للطرف المنافس ليصير أكثر قوة وضغطًا. مثلاً، لو تراجعت الصين عن تايوان عسكريًا، فستنزلق الجزيرة للاستقلال، لكن لو أوقفت الولايات المتحدة تسليح تايوان فسوف يتحوّل توازن القوى بشكلٍ جذري لصالح الصين. كمثالٍ آخر، لو سمحت الصين لروسيا بخسارة الحرب في أوكرانيا فسوف يواجه الحزب الشيوعي قوةً نوويةً على مقربةٍ منه وستكون الولايات المتحدة المنتصرةُ متحرّرةً حينئذٍ لتركيز انتباهها على آسيا. لكن لو تركت الولايات المتحدة روسيا لتربح في أوكرانيا، فمن الممكن أن يتشجّع المحور الصيني-الروسي لأخذ مزيدٍ من الأقاليم، كتايوان ودول البلطيق. كما يقدّم الكاتب أمثلةً أخرى عن هذا التباعد العميق في الرؤى بين المتنافسيْن في مجالات الصناعة والتجارة والمعايير الديمقراطية.

يرى الكاتب بعدم إمكانية جعل هذه المصالح المتنازعة تتلاشى من خلال جلوس الدبلوماسيّين حول طاولة المفاوضات، ذلك لأنّها متجذّرة لا في النظام السياسي لكلّ بلد فحسب، بل في ذاكرتهما التاريخية وفي جغرافيّتهما أيضًا. إنّ الثقافة السياسية الصينية المعاصرة مترسّخةٌ في نكبتين، تمثّلت الأولى في “قرن الاذلال”، الذّي عاشته الصين ما بين سنتيْ 1839 و1949، حينما تمّ انتهاك البلد من طرف القوى الامبريالية، أمّا الثانية فتمثّلت في ثورات سنة 1989 التّي قلبت الاتحاد السوفياتي وبقيّت الأنظمة الشيوعية وكادت أن تفعل ذلك بالنظام الصيني. إنّ التوجيه الرئيسي لحزب الصين الشيوعي هو عدم السماح إطلاقًا بأن تتعرّض الصين مرّةً أخرى للمضايقة أو الانقسام، وهو هدفٌ يتطلّب -مثلما يؤمن قادة الصين- تكديس الثروة والقوة بلا هوادة، وتوسيع السيطرة الإقليمية، والحُكم بقبضة من حديد.

يرى الكاتب بأنّ الحربين العالميتين والحرب الباردة أظهرتا بأنّ الأنظمة الطغيانية القويّة يمكن أن يتّم احتواؤها، بل ينبغي القيام بذلك، وسيكون الأمر أفضل لو تمّ ذلك باكرًا قبل أن يكتسح بلدٌ عدوانيٌ ما جواره الإقليمي. يتّم ذلك من خلال تشكيل تحالفاتٍ قويّةٍ أثناء زمن السلم، فحينما يلاحظ صنّاع السياسات الأمريكيّين محاولة الصين إعادة رسم خريطة شرق آسيا ودعم الغزو الروسي لأوكرانيا، أو الاقفال على الأقليات الإثنية في معسكرات الاعتقال، فهم لا يرون فقط سلسلةً من السياسات المُخالفة، ولكن عدوانًا متعدّد الأوجه على النظام الذّي ظلّ يعزّز الأمن والازدهار الأمريكي لأجيال. لمثل هذه الأسباب يرى الكاتب بأنّ التنازل، ولو في مسألة واحدة، يُعتبر أمرًا صعبًا بالنسبة لقادة الطرفين. يشير المدافعون عن سياسة إعادة الانخراط الأمريكي مع الصين إلى أنّ الصين والولايات المتحدة مربوطتين ببعضهما البعض من خلال أشكالٍ متبادلةٍ من نقاط الضعف والحساسية. كما أنّ اقتصاديات البلدين في حالة تداخل، وكلاهما يمتلك ترسانةً نوويةً ويريد منع البلدان الأخرى من أن يتّم الحصول عليها. لذلك فمن المحتمل أن تكون تكاليف النزاع وخيمةً جدًّا، كما أنّ فوائد التعاون جدُّ متجليّة، لذلك ينبغي أن يكون الحفاظ على السلام أمرًا سهلاً، على الأقل من الناحية النظرية. لكن من الناحية العملية، يرى الكاتب بأنّ نقاط الضعف والحساسية المتبادلة يمكن لها أن تُفاقِم التنافس. على سبيل المثال، ينخرط البلدين في استفزازاتٍ عسكريةٍ تقليدية، ربّما بسبب افتراض كلّ منهما أنّ الطرف الآخر لن يخاطر أبدًا بخوض تبادلِ إطلاقٍ نووي. يسمي الباحثون هذه الحالة بـ «مفارقة الاستقرار-اللا إستقرار»، لذلك فإنّ الايمان المبالغ فيه بالردع النووي يجعل من الحرب التقليدية أكثر احتمالاً.

ذاتُ الأمر ينطبق على الاعتماد الاقتصادي المتبادل. فمثلما كتب الباحث دالي كوبيلاند (Dale Copeland) أنّه عندما يصبح الشركاء التجاريين منافسِين جيوبولتكيّين فإنّهم يبدؤون في الخوف من تعرّضهم للمنع (المقاطعة) من السلع الحيوية والأسواق والطرق التجارية. ومن أجل التخفيف من وطأة ضعفهم وحساسيّتهم، فإنّهم يشرعون في السعي لتحقيق الاعتماد الذاتي، مستخدمين أدواتٍ متنوعةٍ من قوة الدولة كالمساعدات والقروض والرشاوي وبيع الأسلحة ونقل التكنولوجيا والقوة العسكرية من أجل تأمين خطوط الحياة الاقتصادية الخاصّة بهم. النتيجة هي حدوث «دوامّة التجارة-الأمن» التّي أظهر كوبيلاند بأنّها ساعدت على تأجيج العديد من الحروب العظيمة في التاريخ.

يرى الكاتب بأنّ وضع الاقتصاد الصيني اليوم يشبه إلى حدٍّ أكبر اقتصاديات ألمانيا وإيطاليا واليابان في النصف الأول من القرن العشرين، حيث تستورد الصين أغلب موادها الخام عبر نقاطِ اختناقٍ لا يمكنها أن تسيطر عليها تمامًا، كما تعتمد بشكلٍ كبير على صادراتها نحو الولايات المتحدة وحلفائها من أجل الحصول على عائدات، لذلك فلها سببٌ قويٌّ لتقلق بخصوص إمكانية قيام هذه البلدان بقطع سُبل وصولها إلى الموارد والأسواق في حالة حدوث أزمةٍ ما. ومع مشاهدتها للغرب وهو يشلّ الاقتصاد الروسي بالعقوبات حاليًا، تُضاعِف الصين جهودها من أجل الانفصال عن الولايات المتحدة اقتصاديًا. تستخدم الصين الآن المعونات والحواجز التجارية من أجل إعادة توجيه اقتصادها ليدور حول أسواقها المحليّة، كما تقتطع مناطقًا متميّزة في الخارج من أجل تأمين المواد الخام والأسواق التّي تفتقر لها في الداخل. في المقابل، أثارت هذه التحركات استنفار الولايات المتحدة والتّي ردّت بتبنّي حملةٍ من أجل تحقيق الصدارة الاقتصادية. لذلك، فبدلاً من أن تُقرِّب التجارة البلدين لبعضهما البعض، فهي تقودهما أبعدَ عن بعضهما.

 

 

الانخراط أم الاحتواء؟

يرى الكاتب -ردًّا على دعاة سياسةِ انخراطٍ أمريكي أكثر مع الصين- بأنّ المساعدات الدبلوماسية لن يمكنها أن تطلق دائرة التعاون مع الصين، لقد تمّ اختبارُ ذلك مرارًا خلال العقود الأخيرة دون فائدة، حيث قدّمت الولايات المتحدة تنازلاتٍ خلال حقبة الانخراط السابقة، وهو ما ينبغي أن يكون أمرًا غير قابل للتفكير فيه اليوم، لكن تمّ تأويل هذه المبادرات من طرف القادة الصينيّين مرارًا بأنّها مبادراتٌ أمريكية غير صادقةٍ أو حتّي مُهدِّدَة. قدّم الكاتب أمثلةً عن ذلك وأوضح كيف أنّ قادة الصين كانوا يرون مبادرات «سياسة الانخراط» الأمريكية بأنّ لها ذاتُ الهدف الذّي سعت له «سياسة الاحتواء»، بمعنى كونها: «محاولة ذات دوافع مُبيّتة وخفيّة لتغيير النظام الاشتراكي لبلدنا» مثلما صرّح بذلك الزعيم الصيني الأسبق جيانغ زمين (Jiang Zemin). ذهب زمين أكثر من ذلك ليؤكّد بأنّ: «البعض في الولايات المتحدة أو بقيّة البلدان الغربية لن يتخلّوا عن مؤامراتهم السياسية من أجل جعل بلدنا غربيًا، ومن أجل وتقسيمه أيضًا»، وسوف: «يمارسون ضغطًا على بلدنا في محاولةٍ لسحقنا والاطاحة بنا». حاصلُ الكلام: «من الآن فصاعدًا ولفترة طويلةٍ نسبيًا، ستكون الولايات المتحدة خصمنا الدبلوماسي الرئيسي».

يُذكّر الكاتب بأنّ مبادراتٍ أمريكيةٍ للانخراط مع الصين لم تقد لأيّ شيء، مثل مبادرة «صاحب المصلحة المسؤول» في النظام الدولي التّي أطلقتها إدارة بوش الابن، أو سعي إدارة أوباما لتوسيع حلقات الحوار مع الصين لتشمل كلّ القضايا الكبرى في علاقتهما، والتصريح باحترام «المصالح المركزية» للصين، وكلّ ذلك من أجل تحقيق «اطمئنانٍ إستراتيجي». لكن مع ذلك لم يكن القادة الصينيون مطمئنون، «فالصينيون يعتقدون بأنّ الولايات المتحدة قوة تعديلية تسعى لتحجيم النفوذ السياسي للصين، وإلحاق الأذى بمصالحها». وبالرغم من ترحيب القادة الصينيّين بالتكنولوجيا الأمريكية وتسهيل الوصول إلى الأسواق، فإنّهم بقوا قلقين أكثر بخصوص التهديدات التّي فرضتها الولايات المتحدة على نظامهم، بما فيها التواجد العسكري الضخم في إقليمهم، وجهود واشنطن لتُفاوض بخصوص إنشاء كتلة تجارةٍ عابرة للباسفيك من شأنها أن تستثني بيجين، وقلقين أيضًا من تطفّل المنظمات غير الحكومية التابعة للجيش الأمريكي على شؤون الصين الداخلية، وغيرها. كما أنّ الذكريات السيّئة، على غرار قصف الولايات المتحدة لسفارة الصين في يوغسلافيا سنة 1999، لا تزال حاضرةً بقوة في أذهان قادة الحزب الشيوعي الصيني مقارنةً بالذكريات الجيّدة.

 

 

الاستعداد للأوضاع الصعبة:

وفقًا للكاتب، يتمثّل السيناريو الأكثر ترجيحًا خلال السنوات القادمة في نشوب حربٍ باردةٍ تستمر فيها الولايات المتحدة والصين في إحداث الفصل بين قطاعاتهما الاقتصادية الاستراتيجية، والإبقاء على مواجهةٍ عسكريةٍ في شرق آسيا، والترويج لرؤاهما التنافسية عن النظام العالمي، والتنافس من أجل إنتاج حلولٍ للمشكلات الانتقالية. تُعتبر الحرب الباردة شيئًا فضيعًا، لكنّها تبقى أحسن من الحرب الساخنة. إنّ العديد من الروابط التّي تجمع بين الولايات المتحدة والصين -خصوصًا روابطهما الاقتصادية المكثّفة- تُفاقمُ حالة عدم الأمن لكلاهما وتصير ساحاتٍ جديدة للنزاع. ربّما سيكون من المفضّل بالنسبة لصنّاع السياسات الأمريكية أن يجدوا طرقًا لخلق مناطقٍ عازلةٍ بين الجانبين بدلاً من محاولة جعلها أكثر اعتمادًا متبادلا.

كما يرى الكاتب بأنّ حربًا باردةً تتطلّب احتواءً أمريكيًا للصين، وهي استراتيجية تختلف عن إعادة الانخراط في ثلاثة أوجه تأسيسية:

أولاً، يمنح الاحتواء الأولوية للردع وسياسة الاِنكار على حساب التطمين (deterrence and denial over reassurance). ينبغي على الولايات المتحدة تهدئة الصين حينما تستطيع، لكن ليس على حساب إضعاف القدرات الأمريكية أو إرسال إشاراتٍ مختلطةٍ بخصوص التسوية الأمريكية في المسائل الحيوية. على سبيل المثال، يمكن للولايات المتحدة أن تُنكر دعم استقلال تايوان، لكن عليها في ذات الوقت أيضًا أن تُسرّع عملية بيع الأسلحة لتايبيه وتُنوّع وتُقوّي من بنية القواعد العسكرية الأمريكية في شرق آسيا وتُوصل رسالة للصين -عبر تقوية الوجود العسكري في جوارها- مفادها أنّ اعتداءً صينيًا على تايوان سوف يتّم مواجهته بردٍّ أمريكي قاسي.

ثانيًا، يقلب الاحتواء ترتيب الجزرة والعصا في المفاوضات الدبلوماسية. فبينما تركّز سياسة الانخراط على إغراء الخصم وسحبه لطاولة المفاوضات، يبدأ الاحتواء ببناء القدرات ثمّ يتابع ممارسة الدبلوماسية، لكن من موضع قوة.

ثالثًا، يقيس الاحتواء مسألة النجاح بمعيار ما إذا كانت الولايات المتحدة تدافع بشكلٍ فعّال عن مصالحها وقيمها، لا من خلال مدى وديّة العلاقات الأمريكية-الصينية.

يدّعي المروّجون لسياسة إعادة الانخراط بأنّ التنافس مع الصين يتسبّب في استنزاف السياسة الخارجية الأمريكية وبأنّ الولايات المتحدة تفتقر لرؤيةٍ عالمية تتعدّى التعامل بالقوة مع الصين. يرى الكاتب بأنّها ادعاءاتٌ واهية، ذلك أنّ الولايات المتحدة تبنّت سياسة الانخراط والتعاون لعقودٍ من الزمن من خلال دعوتها لنظامٍ دولي ليبرالي مكّن الصين من تحقيق مزايا عديدة في التجارة والاقتصاد والتكنولوجيا ووفّر لها ولجوارها بيئةً أكثر استقرارًا وأنسب للازدهار. إلاّ أنّ الحزب الشيوعي الصيني، وفقًا للكاتب، صار تهديدًا جدّيًا لهذا النظام من خلال ادّعاءاته الإقليمية العدوانية ونزعته الميركنتيلية الجامحة ودعمه لعدوانية روسيا في أوكرانيا. يرى الكاتب بأنّ سياسة الاحتواء سوف تلّح على الصين أن تقدّم تنازلاتٍ تتعلّق بأهدافها التعديلية، وتقبّل حقيقة كون النظام الدولي لن يتمحور حول شراكةٍ أمريكيةٍ صينيةٍ وثيقة في أيّ وقتٍ قريب. كما يرى بأنّ السياسة التّي تبدو على الأغلب مشحونةً على المدى القريب من شأنها أن توفّر فرصةً أفضل لسلامٍ دائم، في حين قد تكون السياسة التّي تبدو أكثر سلمًا وأمانًا في اللحظة الراهنة سياسةً كارثيةً على المدى البعيد. إنّ إعادة الانخراط، التّي تبدو حكيمةً كمسارٍ وسط بين سياسة الاسترضاء وسياسة الاحتواء، قد تكون الأكثر خطورةً على الاطلاق لأنّها لا تتمكّن من إرضاء المطالب الصينية ولا تتمكّن من ردع بيجين والحؤول دون أخذها ما تريد عبر القوة. لذلك يرى الكاتب بأنّ على الولايات المتحدة أن تتبنّى مسارَ احتواءٍ واضحٍ وحاسم، فهو على الأقل يحظى ببعض الأمل في ردع العدوان الصيني.

يوجد خيارٌ آخر وهو الاستسلام (capitulation / أيْ الاستجابة لمطالب الطرف الآخر والشروط المفروضة منه، وغالبًا ما يتّم في ظروفٍ محدّدة)، حيث يرى دعاته أنّ بإمكان الولايات المتحدة تجنّب النزاع مع الصين، على الأقل على المدى القريب، من خلال الاعتراف بالمطالب الإقليمية للصين وسحب القوات الأمريكية من شرق آسيا. إنّ أحد العناصر التّي تجعل من الدعوة للانخراط دعوةً مقنعةً وجذّابةً هو ذلك الافتراض الضمني بأنّه في حال فشل عملية التواصل مع الصين، فبإمكان الولايات المتحدة دومًا أن تضغط زرّ “إعادة التشغيل”، وأن تمنح للصين مجال نفوذٍ خاصٍّ بها، وتخرج من الوضع سالمةً نسبيًا. فهم يرون بأنّه من الأفضل استيعاب الصين (Accommodate) والمخاطرة بالاسترضاء (Appeasement)، بدلاً من احتواء الصين (Contain) والمخاطرة بالحرب.

يردّ الكاتب على هذه الحجّة بقوله أنّ المشكلة في خيار الاستسلام تكمن في أنّ المطالب الصينية لا يمكن اشباعها وارضاؤها من طرف الولايات المتحدة فحسب. فلإرضاء الحزب الصيني الشيوعي ينبغي أن تقبل تايوان بأن يتّم ابتلاعها من طرف دكتاتوريةٍ وحشية، كما ينبغي على البلدان المجاورة أن تتوسّل بيجين لأخذ الموافقة على الاستثمار في المناطق الواقعة ما وراء سواحلها. ليس مرجّحًا حدوث أيٍّ من ذلك. لذلك فإنّ النتيجة الأكثر احتمالاً للانكماش الأمريكي لن تكون حدوث انتقال نقيّ نحو هيمنة صينية سلمية، ولكن نحو فوضى عنيفة، قد تتجسّد في تسلّحٍ كامل لليابان، أو اختراقٍ نوويٍ من طرف سيول وتايبيه وطوكيو، وتجرؤٌ ما من طرف كوريا الشمالية. سلوكيات كهذه ستكون أكثرَ المخاطرِ وضوحًا. أمّا أقلّ المخاطر وضوحًا فقد تتمثّل في إمكانية حدوث تأثيراتٍ ضارّةٍ غير مباشرة، كانهيار سلاسل التوريد الآسيوية وتداعي تحالفات الولايات المتحدة في أوروبا، والتّي قد لا تنجو من صدمة رؤية الولايات المتحدة وهي تخلق فراغًا أمنيًا تملؤه الصين.

لذلك يدعو الكاتب على الأقلّ أن تُسلّح الولايات المتحدة نفسها جيّدًا من أجل التحوّط ضدّ احتمالية حدوث فوضى كهذه، وأيضًا التحوّط ضدّ إمكانية أن يضع العملاق الصيني نظره على الأراضي الأمريكية في غرب الباسفيك بعدما يجتاح شرق آسيا.

قد يكون الاستسلام خيارًا جديرًا بالاستحقاق إذا ما كانت البدائل محصورةً فقط في حدوث حربٍ ساخنةٍ كارثيّةٍ أو حربٍ باردةٍ تُسبّب شللاً ماليًا لا نهائيًا. إلاّ أنّ هناك أسبابًا تدعو للأمل بأن يكون الاحتواء الأمريكي للصين محطّةً مؤقتّةً في طريقٍ مستقبلي أكثر إشراقًا. خلال الحرب الباردة الأصلية صُمّم الاحتواء من أجل وقف تقدّم السوفيات، إلى أن تسبّب ضعف النظام الشيوعي في استنزاف قوة موسكو وأجبر السوفيات على خفض مستوى تطلّعاتهم بشكلٍ راديكالي. ينبغي أن يتّم تبنّي ذاتُ هذا الهدف تجاه الصين اليوم، وقد لا يستغرق ذلك بالضرورة أربعة عقودٍ لتحقيقه، مثلما حدث مع السوفيات. هناك أسبابٌ عديدة تدعو الكاتب لتبنّي هذه الحجّة، منها: أنّ دوافع صعود الصين تُعاني بالفعل حالة ركود. فالنمو البطيء والديون المرتفعة وعدم الكفاءة الاستبدادية وهروب رؤوس الأموال وبطالة الشباب والتقلّص السكاني هي عواملٌ تؤثّر سلبًا على القوة الوطنية الصينية الشاملة، كما أنّ الحزب الشيوعي الصيني صنع أعداءً مجاورين له وبعيدين. حيث يستثمر العديد من جيران الصين في تعزيز جيوشهم، كما أنّ الاقتصاديات الكبرى، على رأسها دول مجموعة السبع الكبار، صارت تفرض مئاتٍ من الحواجز الجديدة على التجارة والاستثمار مع الصين كلّ عام. ورغم محاولات الصين الحصول على أصدقاء في الجنوب العالمي، سيكون من الصعب عليها أن تُنافس قوةً عالميةً خارقةً (الولايات المتحدة) تحظى بحلفاءٍ أثرياء. يرى الكاتب بأنّ حلم الزعيم تشي جينبينغ بالهيمنة الصينية سيبدأ في الظهور كحلمٍ بعيد المنال، وقد يشعر خُلفاؤه بأنّهم مضطرين للتعامل مع الركود الاقتصادي والحصار الجيوبولتيكي الذّي تعرفه البلاد من خلال مقاربةِ الاعتدال الدبلوماسي والإصلاح الداخلي. لذلك لا ينبغي النظر إلى الاحتواء الأمريكي للصين وكأنّه سيدوم إلى الأبد.

في ذات الوقت، لا يجب أن يقود الاحتواء إلى نزاعٍ عنيف. قد يقود التنافس الولايات المتحدة والصين للانخراط في تنافسٍ تكنولوجيٍ من شأنه أن يدفع بحدود المعرفة البشرية في اتجاه آفاقٍ جديدةٍ عُليا ويخلق أوضاعًا مبتكرةً للمشكلات الانتقالية. قد يعني أيضًا أنّ المتنافسان يغرسان داخليًا على نحوٍ سلمي كتلتين من الدول المتشابهة في التفكير وذلك من خلال استخدام وسائل غير عنيفةٍ تتضمّن تقديم المساعدات ومحاولة كسب القلوب والعقول وتوسيع نفوذهما إلى المناطق الهامشية. قد لا يكون هذا النمط من التنافس سيّئًا جدًّا للعالم، سيكون بكلّ تأكيد أفضل من حروب القوى العظمى التّي ميّزت معظم التاريخ الحديث.

إنّ حلمَ «عالمٍ واحد» ذي نظامٍ دوليٍ واحدٍ ومتناغم قد يكون أمرًا مستحيلاً حاليًا، إلاّ أنّ ذلك لا يستبعد قيام علاقاتٍ سلمية، ولو متوتّرة، بين نظامين متنافسين. احتواءُ الصين في هذا التنافس سيستوجب مخاطرًا شديدةً وتكاليفا، إلاّ أنّه أفضلُ خيارٍ لتجنّب نزاعٍ أكثر دمارًا.

مايكل بِيكْلِي:

أستاذٌ مشاركٌ بكليّة علم السياسة في جامعة تافت الأمريكية. يشتغلُ كباحث أول غير مقيم بمعهد المشروع الأمريكي ومدير برنامج آسيا بمعهد بحوث السياسة الخارجية، وكان باحثًا أول متخصّصًا في الأمن الدولي بمدرسة كينيدي للحوكمة في جامعة هارفرد. يُعتبر بيكلي خبيرًا في العلاقات الأمريكية-الصينية وقد اشتغل لدى وزارة الدفاع الأمريكية ومؤسّستيْ راند وكارنيجي للسلام الدولي، كما يواصل تقديم المشورة لمكاتبٍ عديدة داخل مجتمع الاستخبارات الأمريكي ووزارة الدفاع الأمريكية. من مؤلّفاته كتاب «منقطعة النظير: لماذا ستبقى أمريكا القوة العظمى الوحيدة في العالم» (2018)، وكتاب «المنطقة الخطرة: النزاع القادم مع الصين» (بالاشتراك مع هال براندز، 2022).

جلال خَشِّيبْ:

باحث رئيسي بمركز دراسات الإسلام والشؤون العالمية (CIGA) التابع لجامعة إسطنبول صباح الدّين زعيم بتركيا. تهتّم أعماله البحثية بمجال الجيوبوليتيك، نظريات العلاقات الدولية، سياسات القوى العظمى، جيوبولتيك أوراسيا وبحر الصين الجنوبي وشمال افريقيا، السياسة الخارجية التركية والسياسة الخارجية الجزائرية. له العديد من الكتب والدراسات والترجمات والملخصّات الأكاديمية. تظهر أعماله بمجلاّت دولية مُحكّمة ومراكز أبحاث عديدة، باللغتين العربية والانجليزية، منها كتاب “النظام الدولي الليبرالي: جون ميرشايمر في مواجهة جون آيكينبري، صعودٌ أم سقوط؟” (ترجمة: 2021)، وكتاب “أثر التحوّلات الطارئة في بنية النظام الدولي على التوجّهات الكبرى للسياسة الخارجية التركية” (2017)، وكتاب “آفاق الانتقال الديمقراطي في روسيا” (2015).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *