بقلم: إيما أشفورد، إيفان كوبر، جو إينغي بكِيفولد

عرض وترجمة: جلال خَشِّيبْ

ترجمات/ يناير 2024

Debate: Is the World Multipolar? Emma Ashford & Evan Cooper Vs Jo Inge Bekkevold, Foreign Policy, September-October 2023/ USA

Reviewed and translated by: Djallel Khechib

مع التراجع النسبي للقوة الأمريكية العالمية مقارنةً بما كانت عليه بعد نهاية الحرب الباردة، إضافةً للتغيّرات الجيوبولتيكية العالمية المستمرة منذ سنوات، يتجدّد النقاش المتعلّق بنمط النظام الدولي الراهن/المتشكّل، بمعنى طبيعة توزيع القوة الماديّة وتمركزها بين الفواعل الرئيسية الكبرى على المسرح الدولي. يعرض هذا المقال لتصوّرين مختلفين، حيث يُجادل جو إينغي بِكيفولد بأنّ العالم الذّي نعيشه عالمٌ ثنائي القطبية، فلا يوجد اليوم سوى قوتان تمتلكان اقتصادًا ذا حجمٍ كبير وقدرةً عسكريةً ضخمة ونفوذًا عالميًا لتُشكّل كلٌّ منهما قطبًا، وهما الولايات المتحدة والصين. في حين تجادل إيما أشفورد وزميلها إيفان كوبر بأنّنا نعيش اليوم ما يُسمّيه باحثو العلاقات الدولية بـ «التعدّدية القطبية غير المتوازنة»، فهناك قوى أخرى -إلى جانب الولايات المتحدة والصين- تحظى بقوةٍ ونفوذٍ معتبرين وتساهم بفعالية في صناعة جيوبولتيك القرن الحادي والعشرين.

 

الكلمات المفتاحيّة: التعدّدية القطبية، الثنائية القطبية، حدود القوة الأمريكية، القوة الصينية، القوى المتوسطة الصاعدة

 

 

أسطورة التعدّدية القطبية:

يبدأ جو إينغي بِكيفولد مقاله بالتنويه لتصريحات بعض المسؤولين السياسيّين والاقتصاديّين رفيعي المستوى (أمثال أولاف تشولز، بوتين، ماكرون، جوزيف بوريل، أنطونيو غوتيراس وغيرهم) التّي يذكرون فيها أنّ العالم صار متعدّد الأقطاب أو سيصير قريبًا. إنّها مجرّد أسطورة، وفقًا للكاتب، حيث يرى أنّ فكرة ظهور مراكز قوة تُعتبر فكرةً شائعةً خاطئةً بإمكانها أن تؤدّي إلى ارتكاب أخطاءٍ جسيمةٍ في السياسات إذا تمّ تبنّيها.

بدايةً تشير القطبية إلى عدد القوى العظمى المتواجدة في النظام الدولي. وحتّى يكون العالم متعدّد الأقطاب يجب أن تتواجد ثلاث قوى عظمى أو أكثر. أمّا اليوم فلا يوجد سوى بلدان يمتلكان قوةً اقتصاديةً عسكريةً كبيرة ونفوذًا عالميًا ليشكّل كلٌّ منهما قطبًا، وهما الولايات المتحدة والصين. تُمثّل هذين القوتين العظمتين نصف إجمالي الانفاق الدفاعي للعالم، وناتجهما المحلي الإجمالي يعادل تقريبًا اقتصاد الدول الـ 33 الكبيرة التالية في الترتيب مجتمعةً. لذلك تبدو القوى الأخرى بعيدةً عن هذا المستوى، ولن تكون قريبةً منهما في أيّ زمنٍ قريب. كما أنّ مجرّد وجود قوى متوسّطة صاعدة وبلدانٍ غير متحيّزةٍ تحظى بعدد سكانٍ كبير واقتصادياتٍ صاعدة أمرٌ لا يجعل العالم متعدّد الأقطاب.

يستعرض الكاتب بعدها القوى التّي يتّم ترشيحها عادةً من طرف المجادلين بالتعدّدية القطبية ليبُيّن بأنّ مميّزاتها لا تُؤهّل أيًّا منها ليكون قطبًا، فيتحدّث عن الهند واليابان والاتحاد الأوروبي وروسيا، ثمّ القوى المتوسّطة الصاعدة في الجنوب العالمي. تحظى الهند مثلاً باقتصادٍ سريع النمو، وهي ثالث أكبر مُنفقٍ على الدفاع في العالم. مع ذلك، لا تتجاوز ميزانيّتها العسكرية رُبع ميزانية الصين، كما أنّ بحريّتها صغيرة مقارنةً بنظيرتها الصينية. قد تصير الهند يومًا ما قطبًا في النظام الدولي، لكن سيكون ذلك في المستقبل البعيد. أمّا اليابان فتحظى بثالث أكبر اقتصادٍ في العالم، إلاّ أنّ ناتجها المحلي الإجمالي أقلّ من ربع نظيره الصيني. أمّا الاتحاد الأوروبي، الذّي يدّعي بعضهم أنّه قطبٌ ثالث، فمشكلته أنّه يضّم دولاً مختلفةَ المصالحِ القومية، واتحادها عرضةٌ للتمزّق. لقد بدا ذلك واضحًا من خلال مواقف وسياسات دوله منذ اندلاع الحرب الأوكرانية. روسيا لا تُعتبر قطبًا ثالثًا أيضًا رغم ما لها من جغرافيا شاسعة وموارد طبيعيةٍ شاملةٍ وترسانةٍ نوويةٍ ضخمة ونفوذٍ ملموس ما وراء حدودها، ذلك أنّ لها اقتصادًا صغيرَ الحجم، وهو أصغرُ حتّى من نظيره الإيطالي، كما تُعادل ميزانيتها الدفاعية ربع نظيرتها الصينية. مع ذلك يمكن لها أن تلعب دورًا مساندًا للصين. أمّا القوى المتوسّطة الصاعدة في الجنوب العالمي (الهند، البرازيل، تركيا، جنوب إفريقيا، السعودية) فلا يجعل وجودها النظامَ الدولي متعدّد الأقطاب، طالما لا تحظى أيٌّ منها بالقوة الاقتصادية والقدرة العسكرية أو أشكال النفوذ الأخرى لتكون قطبًا بذاتها، فهذه الدول ليس لها الإمكانية لتكون منافسًا للولايات المتحدة أو الصين، حيث يُوضّح الكاتب بأنّ هذين القوتين العظمتين تُمثّلان نصف إجمالي الانفاق الدفاعي للعالم، وناتجهما المحلي الإجمالي يعادل تقريبًا اقتصاد الدول الـ 33 الكبيرة التالية في الترتيب مجتمعةً.  كما يرى الكاتب بأنّ تجمّع البريكس -الذّي رآه البعض قطبًا عالميًا جديدًا- يُعتبر مجرّد كتلةٍ غير متجانسة من الدول مُعرّضة للانهيار بشكلٍ سهل، وهو ليس قريبًا ليصير كتلةً متجانسة سواءً في رؤية دوله للنظام الاقتصادي الدولي أو في السياسات الأمنية لها، فالصين والهند مثلاً خصمان، وصعود الصين يدفع الهند للانحياز إلى الولايات المتحدة بشكلٍ مقرّب.

بعدها يُوضّح الكاتب وجهة نظره بخصوص سبب شيوع حجّة التعدّدية القطبية، إذْ يرجع ذلك في نظره لثلاث تفسيرات واضحة. أولاً، ينطلق المجادلون بالتعدّدية القطبية من تصوّرات معيارية، فهي طريقة أخرى منهم للقول (أو الأمل) بأنّ عصر الهيمنة الغربية قد انتهى. وبالنسبة للعديد من القادة الأوروبيّين فإنّ التعدّدية القطبية هي البديل المفضّل عن الثنائية القطبية، فالتعدّدية القطبية بالنسبة لهم تُمكّن بشكلٍ أفضل لعالمٍ يُدار من خلال القواعد، وتسمح بتكوّن الشرَاكات العالمية مع فواعل متنوعة، وتحول دون ظهور كتل جديدة. أمّا ثاني سبب فيُرجعه الكاتب إلى حالة التردّد والقلق التّي تجتاح ثلّة من صنّاع السياسات والباحثين بخصوص حقيقة تقبلّهم لدخول العالم مرحلة جديدة من التنافس الثنائي القطب بين الولايات المتحدة والصين شبيه بالحرب الباردة بعد أكثر من ثلاث عقود من العولمة والسلام النسبي، لهذا تأتي حججهم مؤيّدة لتشكّل عالم متعدّد الأقطاب. ثالثًا، فإنّ الحديث عن التعدّدية القطبية هو جزء من لعبة القوى، فالصين وروسيا تريان بأنّ التعدّدية القطبية هي السبيل لتقليص القوة الأمريكية ودعم موقعهما، كما تستخدمان خطاب التعدّدية القطبية لتملّق الجنوب العالمي واستقطاب دوله نحوهما، وذلك لأنّهما يريان الولايات المتحدة التحدّي المركزي لهما.

بعدها يُنبّه بِكيفولد إلى أنّ مسألة تحديد نمط القطبية وعدد الأقطاب المتواجدة في النظام العالمي مسألةٌ مهمّة جدًّا، ذلك أنّ المفاهيم الخاطئة تحجبُ التفكير الاستراتيجي وتؤدّي إلى تبنّي سياساتٍ خاطئة. إنّها مسألة مهمّة لسببين:

أولاً، تواجه الدول مستويات مختلفة من القيود على سلوكياتها في النظام الأحادي والثنائي والمتعدّد الأقطاب، وهو ما يتطلّب اتّباع إستراتيجياتٍ وسياساتٍ متباينة. على سبيل المثال، فإنّ استراتيجية الأمن القومي الألمانية الصادرة شهر يونيو الماضي، ذكرت بأنّ: «البيئة الدولية والأمنية تصير أكثر تعدّدية قطبية وأقلّ استقرارا». هكذا يتّم النظر للتعدّدية القطبية هنا كونها «أقلّ استقرارًا» من النظاميْن الأحادي والثنائي القطب. في الأنظمة متعدّدة الأقطاب تبني القوى العظمى تحالفاتٍ وائتلافاتٍ من أجل تجنّب هيمنة دولةٍ واحدةٍ على البقية، وهو ما يمكن أن يؤدّي إلى إعادة اصطفافٍ مستمرّةٍ وتحولاتٍ مفاجئة في حال ما إذا قامت قوة كبرى بتغيير ولائها. أمّا في الثنائية القطبية فتقوم القوتين العظمتين أساسًا بموازنة بعضهما البعض ولا يكون لديهما أدنى شكّ بخصوص هويّة المنافس الأساسي.

ثانيًا، إنّ الدعوة لعالمٍ متعدّد الأقطاب، في الوقت الذّي هو في الحقيقة عالمٌ ثنائي القطبية بشكلٍ واضح، قد يبعث بإشاراتٍ خاطئةٍ للأصدقاء والخصوم معًا. على سبيل المثال، أكّد إمانويل ماكرون مرارًا على أهميّة أن تصير أوروبا قوة عظمى ثالثة خلال حوارٍ أُجرِيَ معه في الطائرة حينما كان عائدًا من زيارته للصين. قد يُفهم تصريح ماكرون بشكلٍ سلبيٍ في واشنطن، كما قد يفهم الصينيون منه استعداد فرنسا وأوروبا لتأييد بيجين في التنافس الأمريكي-الصيني، وهو ما لم يكن مقصودًا منه طبعًا.

 

ختامًا، يرى بِكيفولد أنّ النظام متعدّد الأقطاب قد يكون أقلّ استقطابًا من عالمٍ به قوتين عظمتين خصمتين، لكن لا يقود ذلك بالضرورة إلى عالمٍ أفضل. كما قد يؤدّي عالمٌ متعدّد الأقطاب إلى تعزيز التهيكلات الإقليمية، لذا ينصح الدول بالبحث عن استراتيجيات أكثر فعالية لبلوغ حلولٍ أفضل ومنصّاتٍ أفضل للحوار ضمن النظام ثنائي القطبية الموجود، بدلاً من مجرّد الأمل في عالمٍ متعدّد الأقطاب وإضاعة طاقتهم على نظامٍ ليس له وجود. سنعيش، وفقًا للكاتب، في عالمٍ ثنائي القطبية خلال المستقبل المنظور، لذلك ينبغي تبنّي إستراتيجية وسياسة مُصمّمة تتناسب مع هذا العالم.

 

تعدّدية قطبية غير متوازنة:

خلال الثلاثين سنة الماضية، ظلّت الولايات المتحدة القائد العالمي بلا منازع. لكن اليوم هناك آراء مختلفة بخصوص ذلك. يحاجج بعضهم (مثل ويليام وولفورث وستيفن بروكس) بأنّ الولايات المتحدة ستبقى مهيمنًا عالميًا خلال المرحلة القادمة، بينما يرى آخرون (مثل بِكيفولد) بأنّنا نتجّه نحو منافسةٍ ثنائيةِ القطبية جديدة مع الصين، ولا يزال آخرون يعتقدون بأنّ عصر التعدّدية القطبية قد بدأ يلوح في الأفق.

ترى إيما أشفورد وإيفان كوبر أنّ النظام الدولي اليوم لا هو بنظامٍ ثنائي القطبية، ولا هو نظامٌ متعدّد الأقطاب بشكلٍ مطلق، نحن نعيش اليوم ما يُطلق عليه علماء العلاقات الدولية تسمية «التعدّدية القطبية غير المتوازنة» (Unbalanced Multipolarity). لا يتطلّب النظام متعدّد الأقطاب، في نظرهما، وجود ثلاث قوى ذات حجمٍ متساو، إنّه يتطلّب فقط أن تكون هناك قوة كبيرة متركّزة في أكثر من دولتين. هناك مفهومٌ خاطئ مشترك يتصوّر بأنّ التعدّدية القطبية تتطلّب تواجد دولٍ عديدة ذات قدرات متساوية/متوازنة تقريبًا. لكن في الحقيقة فإنّ الأنظمة متعدّدة الأقطاب تكون عادةً غير متوازنة، مع وجود قوتين عظمتين أو ثلاث والعديد من القوى المتوسّطة تتنافس جميعها على الموقع. يجادل الباحثان بأنّ الولايات المتحدة لا تحظى بنفس مستوى القوة العسكرية والاقتصادية التّي كانت بحوزتها خلال العقود الأولى من الحرب الباردة. كما أنّ صين اليوم لا تُضاهي الاتحاد السوفياتي أثناء ذروته، في حين صار للقوى المتوسّطة تأثيرٌ كبير أكثر ممّا كانت عليه في الماضي. لهذا «فالتعدّدية القطبية غير المتوازنة» هي سِمة النظام الدولي الحالي.

إنّ تحديد المفاهيم يُعتبر أمرًا مهمًّا جدًّا، وفقًا لما يجادل به الكاتبان. على سبيل المثال، فإنّ إستراتيجية احتواء الصين التّي تتبّناها إدارة بايدن قد تكون ممكنةً في عالم ثنائي القطبية والذّي تُسيطر فيه واشنطن وحلفاؤها على حصّة الأسد في القوتين الاقتصادية والعسكرية. لكن في عالمٍ أكثر تعدّدية قطبية تواجه الولايات المتحدة خطر التحول إلى دولةٍ معزولةٍ عن القوى المتوسّطة التّي تحتاجها. لذلك، فإنّ إستراتيجية بايدن -التّي تميل إلى تصوّر التنافس بين الولايات المتحدة والصين- غير مناسبةٍ على نحوٍ عميق مع الحقائق الناشئة في السياسة العالمية.

يرى الكاتبان بأنّه ورغم سهولة وصف القطبية، فإنّه من الصعب قياسها، فبعضهم يستخدم المعايير العسكرية أو الاقتصادية للحِجاج بأنّ الدولة الفلانية في حالة صعودٍ أو تلك الأخرى في حالة انحدار. مثلاً يستخدم بِكيفولد المعيارين العسكري والاقتصادي الحاليّين ليجادل بأنّ الولايات المتحدة والصين بعيدين في قدراتهما عن كلّ الدول الأخرى لدرجة تجعل المقارنة شيئًا لا معنى له. في حين يستخدم وولفورث وبروكس معيار الانفاق العسكري والتكنولوجي للحِجاج بأنّ العالم لا يزال أحادي القطب. أمّا أشفورد وكوبر فيضعان في عين الاعتبار عشرات من مقاييس القوة المختلفة عبر الزمن. بشكلٍ عامٍ تُظهر هذه المقاييس بالتأكيد بأنّ الولايات المتحدة أو الصين تتقدّمان على بقيّة المنافسين، لكنّها تُظهر أيضًا بأنّ القوة الاقتصادية والعسكرية تتراكم في أماكن أخرى لدى قوى متوسّطة قادرة وديناميكية متعدّدة، وهو ما سيساعد على تشكّل البيئة الدولية في العقود القادمة. وقد صارت هذه القوى المتوسّطة اليوم أكثر نفوذًا. ظهر ذلك خلال الحرب الأوكرانية، كدور ألمانيا والهند، أو دور تركيا في الحرب الأذرية-الأرمينية الأخيرة، حيث رجّح الدعم التركي العسكري كفّة أذربيجان في ناغورنو كاراباخ.

علاوةً على ذلك يشير الكاتبان إلى وجود حججٌ نظرية عن ارتباط مستوى المخاطر بنمط النظام الدولي، فهناك مسلّمات فرضية ترى بأنّ الثنائية القطبية والأحادية أكثر أمنًا للولايات المتحدة مقارنة بالتعدّدية القطبية. قبل كلّ شيء انتهت الحرب الباردة بشكلٍ سلمي، وهذا ما ينبي عليه أنّ على الولايات المتحدة أن تحاول مقاومة عالمٍ متعدّد الأقطاب. لكن هناك مسلّمة فرضية أخرى مُضلّلة تدّعي أنّ عالمًا متعدّد الأقطاب قد يكون أكثر فوضوية (Choatic) بل وحتّى ينطوي على حروبٍ أكثر، لكن لا يكون به خوفٌ وجوديٍ من تنافس القوى العظمى كالذّي ميّز التنافس الأمريكي-السوفياتي، فهل نشهد عددًا أقلّ من الحروب الصغيرة في شرق إفريقيا أو آسيا الوسطى في ظلّ الثنائية القطبية أو عالمًا أقلّ ميلاً إلى حافة الهاوية النووية في ظلّ التعدّدية القطبية؟

ينبّه الكاتبان بعدها لأهميّة الإدراك الصائب لنمط النظام الدولي القائم، ذلك أنّ فهم مسألة القطبية يُعتبر أساس الاستراتيجية الجيّدة وأيُّ خطأ في الإدراك قد يؤدّي لكوارث في الاستراتيجيات والسياسات المتّبعة. على سبيل المثال، تتبع إدارة بايدن ما يمكن وصفه باستراتيجيةٍ قائمةٍ على الكُتل، مدفوعة في ذلك جزئيًا بمخاوفها المتعلّقة بالتعدّدية القطبية، ومفترضةً بأنّ العالم الذّي تتحرّك فيه هو أقرب للثنائية القطبية. إنّها تأمل في تحويل ميزان القوة العالمي من خلال انشاء ائتلاف مناوئ للصين، مؤكّدةً على تجسيد تعاونٍ عسكريٍ وتكنولوجيٍ بين الحلفاء عبر أوروبا وآسيا، ومحاولةً بناء كتلةٍ عالميةٍ للديمقراطيات، أو على الأقل كتلةً من البلدان «المتشابهة في التفكير» موجّهةً ضدّ «القوى التعديلية الاستبدادية». تقترح هذه المقاربة بعدها أن تقوم هذه الكتلة بتقويض وصول الصين إلى الأسواق العالمية الرئيسية وتقييد نقل التكنولوجيا المتقدّمة لها. باختصار، تُخطّط الولايات المتحدة تحت حكم بايدن للعودة إلى قواعد اللعب التّي اتبّعتها أثناء الحرب الباردة مُحاولةً احتواء صعود الصين ويحذوها الأمل في أن يتمكّن تقويتها للحلفاء والشركاء من كبح تراجع قوة الولايات المتحدة.

إنّ مقاربةً كهذه، وفقًا للكاتبين، لهي مقاربةٌ مليئةٌ بالمخاطر في عالمٍ متعدّد الأقطاب، فقد تُخاطر الولايات المتحدة بإنشاء شَرَاكاتٍ ضعيفةٍ مبنيةٍ على مصالح مشتركة منخفضة المستوى مع الدول التّي تحشدها لأجل معارضة الصين. اتضّح ذلك عمليًا خلال الحرب في أوكرانيا. فهناك دولٌ -كالهند- لها استعدادٌ للعمل مع الولايات المتحدة ضدّ الصين، لكنّها كانت أقلّ التزامًا في مساندة الموقف الأمريكي في أوكرانيا. كما ليس من المرجّح أن تَحتَشِدَ مجموعةٌ واسعةٌ من القوى المتوسّطة ذات المصالح المختلفة في كتلةٍ عالميةٍ متماسكة، بغضّ النظر عمّا تريده واشنطن. علاوةً على ذلك، تنطوي مقاربة «معنا أو ضدّنا» على إمكانية تعرّض الولايات المتحدة للاستغلال من طرف شركائها، كأن ينتفع هؤلاء بشكلٍ مجاني من التحالف، مثلما يحدث في الناتو حاليًا. أيضًا، تساهم ذهنية الثنائية القطبية وبناءِ الكُتل في تعزيز الافتراض المغلوط القائل بأنّ أيّ فوزٍ للصين سيكون بالضرورة خسارة للولايات المتحدة. كما يرى الكاتبان أنّ تضاؤل القوة النسبية للولايات المتحدة لن يسمح للإدارات الأمريكية أن تكون قادرةً على فرض إرادتها في كلّ منطقةٍ من العالم، لاسيما في وقت واحد. ومن المرجّح أن يؤدّي الاستمرار في التأكيد على الولايات المتحدة باعتبارها «الأمّة التّي لا غنى عنها» إلى الفشل والتمدّد المرهق.

 

في النهاية، يُقدّم الكاتبان توصياتٍ من شأنها أن تساعد واشنطن على التحرّك السليم في عالم متعدّد الأقطاب. لا ينبغي على الولايات المتحدة أن تنسحب من المسرح العالمي، بل عليها أن تستغل العالم متعدّد الأقطاب لصالحها. تنطوي استراتيجية كهذه على ثلاث عناصر مركزية:

أولاًّ، ينبغي على الولايات المتحدة الاستفادة من قوة حلفائها، بدلاً من قمعها. على إدارة بايدن التركيز على تحويل الأعباء وتشجيع الحلفاء للقيام بدور أكبر في الدفاع عن أنفسهم، وبالتالي تحويل قوتّهم الاقتصادية إلى قوة عسكرية تعزّز أهداف الولايات المتحدة.

ثانيًا، يجب أن تكون إدارة بايدن أكثر انفتاحًا للدخول في اتفاقياتٍ تجاريةٍ متبادلةِ المنفعة، بدلاً من الانجراف نحو التدابير الحمائية التجارية.

ثالثًا، من غير المرجّح أن تكون الائتلافات الكبرى فعّالة في عالمٍ متعدّد الأقطاب، لذا ينبغي لإدارة بايدن أن تركّز بدلاً من ذلك على الاتفاقيات الثنائية والمُصغّرة التّي تركّز على المصالح المشتركة.

إنّ التعدّدية القطبية لا تجعل الولايات المتحدة عاجزة. في الحقيقة يمكن أن تكون بمثابة نعمةٍ لصنّاع السياسة الأمريكيّين. ومن خلال التركيز على الاستفادة من التعدّدية القطبية لصالحها تستطيع إدارة بايدن تعزيز أمن البلاد والحفاظ على دورٍ أمريكي عالمي. لا ينبغي أن تخشى واشنطن التعدّدية القطبية، بل يجب عليها أن تحتضنها.

هو زميل بارز في المعهد النرويجي للدراسات الدفاعية متخصّص في الصين، ودبلوماسي نرويجي أسبق خدم في هانوي وبجين. وهو منسق سلسلة حلقات العمل الدولية “النظام الدولي في البحر”، كما شارك في آسياأركتيك، وهو مشروع حول مصالح البلدان الآسيوية وسياساتها في القطب الشمالي، بتمويل من مجلس البحوث النرويجي. يعمل بِكيفولد حاليًا في مشاريع بحثية حول الجيوبوليتيك الصيني وعلاقات الصين مع روسيا والهند.

أستاذة مساعدة في برنامج دراسات الأمن الدولي بجامعة جورج تاون الأمريكية وباحثة أولى ببرنامج إعادة تخيّل الإستراتيجية الأمريكية الكبرى بمركز ستيمسون. تهتّم أعمالها بمواضيع السياسة الخارجية الأمريكية والأمن الدولي وسياسة أسواق الطاقة العالمية، كما تحظى بخبرةٍ في سياسة روسيا وأوروبا والشرق الأوسط. تُعتبر أشفورد من أبرز المدافعين عن المقاربة الواقعية وسياسة الكبح/ضبط النفس في السياسة الخارجية الأمريكية. اشتغلت سابقًا كزميلة مقيمة في مبادرة المشاركة الأمريكية الجديدة في مركز سكوكروفت للاستراتيجية والأمن في المجلس الأطلسي وكباحثة في معهد كاتو. تظهر أعمالها في العديد من المنصّات البحثية المرموقة مثل فورين بوليسي وفورين أفيرز. من إصداراتها كتاب: “النفط والدولة والحرب: السياسات الخارجية للدول النفطية” (منشورات جامعة جورج تاون، يونيو 2022).

باحث مشارك في برنامج إعادة تخيّل الإستراتيجية الأمريكية الكبرى، عمل سابقًا كزميل مبتدئ في مبادرة المشاركة الأمريكية الجديدة التابعة للمجلس الأطلسي. يُعتبر الأمن الدولي مجال تخصّصه الجامعي وتُركز أعماله البحثية على تحسين المشاركة الدبلوماسية الأمريكية من خلال مجالات المصالح المشتركة التّي تمّ تجاهلها، بما في ذلك الدبلوماسية الثقافية والرعاية الصحية والتجارة.

باحث رئيسي بمركز دراسات الإسلام والشؤون العالمية (CIGA) التابع لجامعة إسطنبول صباح الدّين زعيم بتركيا. تهتّم أعماله البحثية بمجال الجيوبوليتيك، نظريات العلاقات الدولية، سياسات القوى العظمى، جيوبولتيك أوراسيا وبحر الصين الجنوبي وشمال إفريقيا، السياسة الخارجية التركية والسياسة الخارجية الجزائرية. له العديد من الكتب والدراسات والترجمات والملخصّات الأكاديمية. تظهر أعماله بمجلاّت دولية مُحكّمة ومراكز أبحاث عديدة، باللغتين العربية والانجليزية، منها كتاب “النظام الدولي الليبرالي: جون ميرشايمر في مواجهة جون آيكينبري، صعودٌ أم سقوط؟” (ترجمة: 2021)، وكتاب “أثر التحوّلات الطارئة في بنية النظام الدولي على التوجّهات الكبرى للسياسة الخارجية التركية” (2017)، وكتاب “آفاق الانتقال الديمقراطي في روسيا” (2015).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *