بقلم: بنيامين بوبوف

عرض وترجمة (من اللغة الروسية)رشيد كوار

ترجمات/ فبراير 2024

منذ أحداث فبراير 2014 في أوكرانيا وإعادة ضمّ روسيا لشبه الجزيرة القرم، تشهد روسيا نقاشاتٍ فكريةٍ متواصلة حول توجهات السياسة الخارجية الروسية التّي يجب على صانع القرار تبنّيها. وقد ظهرت العديد من التيارات الفكرية التّي تحاول تقديم إطارٍ نظريٍ وفكري للسياسة الخارجية الروسية. ومن أهمّ هذه التوجهات يبرز التوجه الأوراسي، الذّي يؤكّد على تميّز روسيا كـ “دولة–حضارة” قائمة بذاتها، لا شرقية ولا غربية. وفقا لهذا التوجه يأتي مقال الدكتور بنيامين بوبوف، منسّق المجموعة الاستراتيجية “روسيا- العالم الإسلامي”، الذّي يبدأ بالتذكير بفشل التوجّه الغربي في السياسة الخارجية الروسية رغم تواصل ارتباط جزء من النخب الروسية بالغرب وقيمه الحضارية والتّي لا تعلو قيمةً عن القيم الحضارية الغير غربية. ينتقل بعدها المقال إلى ذكر خصائص ومكونات الحضارة الروسية التّي يصفها بالحضارة الأوراسية. في الأخير ومع تزايد نفوذ ودور الدول الآسيوية ودول الجنوب العالمي الكبير يدعو الكاتب إلى تبنّي سياسةٍ خارجية تتماشى مع هذه التغيّرات ممّا يضمن لروسيا تفعيل دورها الحضاري على الساحة الدولية بشكل كامل.

الكلمات المفتاحية: السياسة الخارجية الروسية، الحضارة الروسية، أوراسيا، الجنوب الكبير، الشرق، الغرب

 

 

يناقش هذا المقال، الذّي نُشر بالموقع الرسمي للمجلس الروسي للقضايا الدولية، ما يجب أن تكون عليه توجّهات السياسة الخارجية الروسية على ضوء العملية العسكرية الخاصّة في أوكرانيا، حيث يجادل بنيامين بوبوف بأنّ روسيا هي حضارة أوراسية مستقلة عن الغرب والشرق. رغم ذلك، فقد تبنّت روسيا ما بعد الاتحاد السوفياتي مسارًا سياسيًا متأثّرا بالقيم الغربية، حيث بنت أجيالاً متعاقبةً من الروس لتصوّراتها الفكرية باعتبار روسيا دولة أوروبية. وقد لعبت النخب التّي وصلت للحكم بعد الاتحاد السوفياتي دورًا كبيرًا في ترسيخ هذه الفكرة الخاطئة، حسب رأي الكاتب.

يُشير الكاتب في بداية مقاله إلى بعض المحاولات الروسية للتقرّب من الغرب، كسعي روسيا للانضمام إلى حلف الناتو في بداية القرن الحادي والعشرين، ومحاولة موسكو الوصول إلى اتفاقية مع الاتحاد الأوروبي لإعفاء مواطنيها من تأشيرة الدخول الى دول الاتحاد. لقد باءت هذه المحاولات بالفشل الذريع، حيث رفضت أمريكا فكرة انضمام روسيا إلى الناتو ولم تتوصّل روسيا والاتحاد الأوروبي لأيّ اتفاق بشأن الإعفاء من التأشيرات رغم الجهود الدبلوماسية الضخمة التّي بُذلت في سبيل تحقيق هذا الهدف.

وكمثال على تمسّك النخب الروسية بالتوجه السياسي الغربي، يذكر الكاتب آراء المساعد السابق للرئيس الروسي فلاديمير سوركوف. ففي سنوات الـ 2000 كان سروكوف من أشدّ دعاة التمسّك بالتوجّه الغربي كعنصر مهمّ في بناء الدولة الروسية الحديثة. وطيلة السنوات التالية وبالرغم من كلّ التغيرات الجيوبوليتيكية التّي حدثت على الساحة الدولية والعداء الحاصل بين روسيا والغرب، إلاّ أنّ سوركوف لم ينصرف نهائيًا عن آرائه المؤيّدة للتوجّه الغربي لبناء السياسات الوطنية في روسيا، فقد عاد سوركوف في سبتمبر 2023 بمقالٍ جديد يدعو فيه إلى بناء مجال جيوبوليتيكي جديد يُطلق عليه تسمية “الشمال العظيم”، والذّي من المفترض أن يجمع الحضارة الروسية جنبًا إلى جنب مع كلٍّ من الحضارة الأوروبية والحضارة الأمريكية، مستلهمًا هذا الطرح من فكرة “السلام الروماني”، وفكرة “روما الثالثة”، والتّي تشير إلى تحوّل موسكو إلى مركز المسيحية بعد سقوط القسطنطينية “روما الثانية”. إلاّ زنّ بنيامين بوبوف ينتقد فكرة “الشمال العظيم” باعتبارها فكرةً تُعبّر عن الانبهار الروسي بالحضارة الغربية، ومحاولة بناء “تيّارٍ غربيٍ بلمسةٍ وطنية” لمزاحمة تيار “الدولة–الحضارة المستقلة” وتيّار “الانعطاف الكامل نحو الشرق”.

ومواصلةً لنقده للتوجّه الغربي داخل أوساط النخبة السياسية الروسية، يشير الكاتب إلى أنّ جزءًا كبيرًا من النخب الروسية لا يزال يأمل في إقامة مصالحةٍ مع الغرب بسبب عدم إيمانهم بقدرة دول الجنوب الكبير في تعويض النظام الدولي الغربي رغم أنّ كلّ الدراسات المستقبلية تؤكّد بأنّ دول الجنوب تتجّه لتحقيق معدّلات نموً تَفوقُ نظيراتها الغربية بشكلٍ كبير.

علاوةً على ذلك، يرى الكاتب أنّه من الطبيعي أن يثير الانعطاف الروسي الحادّ نحو الشرق العديد من النقاشات السياسية والمناظرات الفكرية. وكمثال، يذكر بوبوف مقال «نظرةٌ على الربيع الروسي» للكاتب بوريس بوجيوف الذّي تدعو فيه إلى اتخاذ الواقعية الحضارية في إطار نظرية “روسيا الجزيرة” كاقترابٍ لفهم الأسئلة الحضارية الكبرى التّي ظهرت في روسيا بعد أحداث 23 فبراير 2014 (أحداث إعادة ضمّ شبه جزيرة القرم).

 

بعدها يُخصّص الكاتب الجزء الثاني من المقال لتأكيد طرح الطابع الأوراسي للحضارة الروسية، حيث يذكر أنّ موقع روسيا بين أوروبا وآسيا ساعدها على احتواء عددٍ كبير من الاثنيات في مجموعةٍ بشريةٍ واحدة داخل الدولة الروسية تختلف بشكلٍ كبيرٍ عن الحضارة الغربية. وتأكيدًا على مكانة الشرق في الدولة الروسية، يستحضر الكاتب آراء عددٍ من المفكرين الروس، مثل العالم الروسي الكبير ميخائيل لومونوسوف الذّي قال في القرن الثامن عشر بأنّ: «ثروة روسيا ستأتي من سيبيريا»، والجنرال الروسي الشهير راستيسلاف فادييف (جنرال روسي عاش في القرن التاسع عشر ويُعتبر من دعاة النزعة السْلافية) الذّي يقول أنّ روسيا تنظر إلى آسيا بمنظارٍ مختلفٍ عن منظار الشعوب الغربية، حيث يرى أن الاهتمام الروسي بآسيا ليس من باب الترف ولكنّه ضرورةٌ ملحّة وقضيّة حياةٍ أو موت بالنظر للموقع الجغرافي لروسيا وارتباطها الوثيق بآسيا.

ثمّ ينتقل بعدها الكاتب للتأكيد على فكرته الرئيسية المتمثّلة في كون روسيا تمثّل حضارةً خاصّةً وفريدة من نوعها (لكنّه في نفس الوقت لا يدّعي تفوّقها على الحضارات الأخرى). وفقا للكاتب، فقد تميّزت هذه الحضارة بالخصائص التالية: طول فترة وجودها الممتدّة من بداية القرن التاسع ميلادي، تنوّع مكوّناتها الإثنية والدينية (أكثر من 150 إثنية، وأكثر من 60 دين ومعتقد)، الدور المحوري للدولة في بناء هذا الوجود الحضاري ودور المُكوّن الروسي السْلافي في اندماج بقيّة المكوّنات الاثنية في مجموعةٍ حضاريةٍ واحدة. المقال لا يغفل دور المعتقد الأرثودوكسي كأحد أهمّ مكوّنات الحضارة الروسية المستقلة، مع الإقرار بوجود حالةِ حوارٍ متجذّرة بين المعتقد الأرثودوكسي والإسلام باعتبارهما الديانتين الأكثر انتشارًا في المجال الحضاري الروسي. من هنا نرى رغبة الكاتب في تأكيد قدرة الحضارة الروسية على استيعاب مكوّنات ثقافية واثنية أخرى، والتّي تتعدّد بشكلٍ كبيرٍ في المجال الأوراسي، حيث يحاول الكاتب أن يقدّم هذا التنوّع على أنّه نقطةُ قوةٍ لصالح روسيا. وتجدرُ الإشارة هنا إلى أنّ هذا التنوّع يمكن أن يصير مصدر تهديدٍ وعاملٌ يزيد من التوتّر وحالة الصراع في فترات الضعف التّي تمرّ بها الدولة، الأمر الذّي شهدناه جليًّا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وظهور العديد من بؤر التوتّر والتّي كثيرًا ما حملت طابعًا إثنيًا أو دينيًا أو كلاهما معًا.

إضافةً لذلك، لا يغفل الكاتب عن الإشارة إلى نظرة الآخر إلى الحضارة الروسية، حيث يركّز على نظرة كلٍّ من الغرب والصين إلى التوجهات الحضارية الروسية الجديدة. ينوّه بوبوف إلى مقال الاستراتيجي الأمريكي زبيغنيو بريجينسكي الغنيّ عن التعريف الذّي نُشر في العام 1994 –أيْ في الفترة الذّي تبنّت فيها روسيا توجها غربيًا كاملا-. دعا هذا المقال إلى ضرورة كبح روسيا حضاريًا ومنعِها من التأثير على جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابقة، كما ركّز بشكلٍ أساسي على أوكرانيا، التّي من دونها لن تستطيع روسيا أن تكون إمبراطورية. من جهة أخرى يشير الكاتب إلى رأي الخبراء الصينيين الذّين يرون أن المركزية الأوروبية قد تجذّرت في العقل الجمعي الروسي على مدى سنواتٍ طويلة ومن الصعب جدًّا التخلّص منها في وقتٍ قصير رغم تخلّي روسيا عن السعي المحموم وراء فكرة الانضمام الى أوروبا الكبرى بعد فبراير 2014. ينبّه الكاتب لرأي الخبيرة الصينية تشاو خويجون، وهي أستاذة في معهد روسيا وأوروبا الشرقية وآسيا الوسطى التابع للأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية. تذهب خويجون إلى الحِجاج بأنّ التصوّر الروسي حول أوراسيا يعكس حالةَ التخبّط التّي يعيشها الانسان الروسي بين الشرق والغرب، فهو يسير نحو الشرق ونظره مُوجّه دائمًا نحو أوروبا.

يتوقف الكاتب عند فكرة الوحدة الحضارية التّي تجمع كلاًّ من روسيا بيلاروسيا وأوكرانيا، ويرى أنّ المستفيد الأول من الحرب في أوكرانيا هي الولايات المتحدة الأمريكية التّي استطاعت أن تخلق عداوةً بين كييف وموسكو باعتبارهما مركزين مهمّين في الحضارة الأرثوذكسية. كما يرى بأنّ الحضور الكاثوليكي في غرب أوكرانيا وبيلاروسيا، بسبب الارتباط التاريخي لهذه المناطق ببولندا، كان المدخل الأولّي للقوى الغربية من أجل ضرب وحدة هذين البلدين، أين حقق الغرب نجاحًا ملحوظًا في أوكرانيا. ويرى الكاتب أيضًا بأنّ محاولات النظام السياسي في أوكرانيا الابتعاد بالبلد عن روسيا والحضارة الأرثودوكسية سيبوء بالفشل بسبب الارتباط التاريخي والحضاري للأوكرانيين بهذا المجال الحضاري. ومن هنا يرى بوبوف أنّ على روسيا إعادة بناء العلاقات السياسية والحضارية مع أوكرانيا تماشيًا مع المسارات التاريخية للمنطقة.

 

بعد التأكيد على أوراسية روسيا الحضارية ينتقل بوبوف إلى إبراز الدور المتنامي للدول الآسيوية في السياسة العالمية لتبرير الانعطاف الروسي نحو الشرق، حيث يشير إلى أنّ القارة الآسيوية تضمّ 6 قوى نووية من أصل 9 وما يعادل أكثر من 70% من السكان في العالم، وتتمتّع كذلك باحتياطاتٍ كبيرة من مصادر الطاقة. بناءً على هذه المعطيات، يحاجج الكاتب بضرورة تقوية روسيا للتوجهات الآسيوية في السياسة الخارجية عن طريق تفعيل مفهوم “أوراسيا” الذّي يعني عدم الاكتفاء ببناء علاقاتٍ مع أوروبا فحسب، بل والالتفاف أيضًا نحو آسيا وبناء علاقاتٍ قويّة وموسّعة مع دولها. تجسّد هذا التوجّه بشكلٍ أولّي في مبادرة إنشاء “الشراكة الأوراسية الكبرى” التّي أقرّها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سنة 2015، وليتّم التأكيد عليه بعد ذلك في النسخة الجديدة لـ “مفهوم السياسة الخارجية لروسيا الاتحادية” -وهي وثيقة تخطيط استراتيجي تحدّد توجهات السياسة الخارجية الروسية- التّي تؤكّد بدورها على أنّ “روسيا هي دولةُ – حضارة تمثّل قوةً دوليةً في المنطقة الأوراسية والأورو-باسيفيك”.

علاوةً على ذلك، يرى الكاتب أنّ الأوضاع الحالية التّي تشهدها الساحة الدولية تفتح لروسيا آفاقًا جديدةً لتصير إحدى الدول القائدة للعالم النامي. حيث يرى أنّ تكتّل “البريكس” سيلعب دورًا كبيرًا في توجيه عملية إعادة تنظيم النظام الدولي القائمة حاليًا، بالإضافة إلى هذا وبالنظر إلى الاختلافات العميقة بين أهم قوتين في هذا التكتّل، أيْ الصين والهند، فإنّ دور روسيا المُقرِّب لوجهات النظر سيكون مطلوبًا بشكلٍ كبير.

 

هذا المقال يدخل في إطار الجدل الفكري القائم حاليًا في روسيا بشأن توجهات السياسة الخارجية في ظلّ التغيرات الجيوبولتيكية التّي فرضتها الحرب في أوكرانيا، ويمكن القول أنّ الكاتب يؤيّد بشكلٍ لا لبس فيه التوجّه الأوراسي الذّي يوازن بين الانعطاف التام نحو الشرق والتوجّه الغربي الذّي مازال حاضرًا في أوساط النخب الروسية، رغم حالة الصراع التّي تعيشها روسيا مع الغرب.

سفير مفوّض فوق العادة، ومحلّل في معهد الدراسات الدولية ومركز أبحاث الشرق الأوسط في جامعة العلاقات الدولية التابعة لوزارة خارجية روسيا الاتحادية. كما يشغل منصب عضو المجلس الروسي للقضايا الدولية، ومنسّق المجموعة الاستراتيجية التّي تحمل إسم “روسيا-العالم الإسلامي”، والتّي تُعنى برسم تصوّر للعلاقة بين روسيا والعالم الإسلامي. عمل بنيامين بوبوف كسفير في كل من اليمن الشمالي، ثمّ الجمهورية العربية اليمينة، وليبيا، وتونس.

متحصل على شهادة الدكتوراه في تاريخ العلاقات الدولية والسياسة الخارجية من الجامعة الروسية للصداقة بين الشعوب في موسكو. وهو محلّل سياسي مهتّم بروسيا والمجال الأوارسي.

 

من أعماله العلمية:

الوجود الصيني في بلدان المغرب العربي (باللغة الروسية)

DOI: 10.31166/VoprosyIstorii202104Statyi34

 

دور الأمم المتحدة في حل النزاع حول الصحراء الغربية (باللغة الروسية) 

DOI: 10.7256/2454-0641.2019.2.29712

 

التنافس الديني (الإسلامي) في العلاقات الجزائرية – المغربية (باللغة الروسية)

DOI: 10.7256/2454-0641.2019.1.28665

 

الدبلوماسية المغربية في السياسة الخارجية للمملكة المغربية (باللغة الإنجليزية)

DOI: 10.23977/icrca.2019.025

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *