By: Jeongseok Lee: Hedging Against Uncertain Future: The Response of East Asian Secondary Powers to Rising China
Translated by: Djallel Khechib
كيف تتعامل الدول الصغرى في شرق آسيا مع الصعود الصيني؟ ما هي العوامل التّي تُحدِّد السياسة الخارجية لهذه الدول تجاه جارهم الصاعد؟ في خِضّم تحوّل القوّة السريع في شرق آسيا، لا يُعتبر البحث عن استراتيجيةٍ مناسبةٍ بمثابة الاهتمام الأساسي بالنسبة للقوى الكبرى فحسب، بل بالنسبة للدول الثانوية في الاقليم أيضًا. من خلال تحرّي الأنماط العديدة لاستجابات دول شرق آسيا تجاه صعود الصين وكذا العوامل التّي تؤثّر على الحسابات الاستراتيجية لهذه البلدان، تُحاجج هذه الورقة بأنّ القوى الصُغرى المجاورة للصين تتحوّط عبر استراتيجيةٍ خليطةٍ معقدّة بهدف تأمين وتعزيز استقلاليّتها ومصالحها. هنا، فإنّ المحدّدات الأساسية لاستراتيجيات بلدان الجوار تجاه الصين تتضّمن: اللايقين الاستراتيجي، سياسة الانخراط والمشاركة الصينية، السياسة الأمريكية تجاه شرق آسيا والنزاعات الاقليمية.
محتوى الدراسة:
مقدّمة
- تقييم الاستجابة الشرق آسيوية للصعود الصيني
- سلوك القوى الثانوية زمن تحوّل القوة
1.2. الدول الصغيرة في السياسات الدولية
2.2. الخيارات الاستراتيجية للقوى الصغرى
أ. التخفّي (Hiding)
ب. الانضمام (Bandwagoning)
ج. الاسترضاء (Appeasement)
د. الاستعاب (Accommodation)
ك. التوازن (Balancing)
م. المشاركة/الانخراط (Engagement)
و. التجاوز/التخطّي (Transcending)
ي. الحِيطة (Hedging)
- كيف تستجيب دول شرق آسيا للصين
1.3. شمال شرق آسيا
أ. اليابان
ب. كوريا الشمالية
ج. كوريا الجنوبية
د. تايوان
2.3. جنوب شرق آسيا
أ. آسيان
ب. إندونيسيا
ج. ماليزيا
د. مينامار (بورما)
ك. الفلبين
م. سنغافورة
و. تايلاندا
ي. الفيتنام
- العوامل الكامنة وراء استجابات القوى الثانوية الشرق آسيوية
1.4. اللايقين الاستراتيجي (Strategic Uncertainty)
2.4. المشاركة الصينية النشطة (China’s Active Engagement)
3.4. السياسة الأمريكية تجاه شرق آسيا (US Policy Toward East Asia)
4.4. الاعتماد الاقتصادي (Economic Dependance)
5.4. الخلافات الاقليمية (Territorial Disputes)
خاتمة
مقدّمة:
بالرغم من التعامل الحذر للصين فيما يخصّ الشؤون الاقليمية، فإنّ نمو قوتّها يثير شكوكًا عبر شرق آسيا. على ضوء هذه الخلفيّة لا تُفكّر القوى العظمى لوحدها في الاقليم بحثًا عن استراتيجياتِ تعاملٍ أحسن، بل تفكّر الدول الثانوية في ذلك أيضًا. لقد أوضَحتْ حادثتين سابقتين بشكلٍ صريحٍ لماذا لا يمكن للقوى الثانوية في شرق آسيا أن تطمئن بشأن الصعود الصيني، بل أن تتخوّف.
في سنة 2000، وخلال المنتدى الإقليمي للآسيان (Asean Regional Forum: ARF) قام السيد يانغ جياشي (Yang Jiechi) وزير الخارجية الصيني بإخطار نُظرائه الجنوب شرق آسيويّين الذّين يشتكون بخصوص ادّعاءات الصين الأساسية في بحر الصين الجنوبي بأنّ: «الصين بلدٌ كبيرٌ وبأنّ البقيّة بلدان صغيرة، هذه هي الحقيقة بعينها». في الآونة الأخيرة تمّ تقديم تحذيرٍ أكثر ذكاءً. في الخامس عشر من شهر مايو 2012 وفي خضمّ مواجهةٍ ساخنةٍ حول معلمٍ بالمياه المنخفضة يُسمّى بسكاربورو (Scarborough Shoal) مع الفليبين، حذّر عضو مجلس الدولة الصيني السيد داي بينغيو (Dan Binggeo) بصرامة أنّه: «ينبغي على البلدان الصغرى ألاّ تستأسد على البلدان الكبرى».
كيف تتعامل الدول الصغيرة في شرق آسيا مع الصعود الصيني؟ وما هي العوامل التّي تُحدّد السياسة الخارجية لهذه الدول تجاه جارهم الصاعد؟ أخذًا في الاعتبار أنماط استجابات دول شرق آسيا والعوامل التّي تقف وراء استراتيجياتها، تُحاجج هذه الورقة بأنّ القوى الصغيرة في شرق آسيا تُوظٍّف بنشاطٍ استراتيجيات تَحوّطٍ تجاه صعود الصين. من بين العديد من العوامل فإنّ؛ اللايقين الاستراتيجي الاقليمي، المشاركة الصينية النشطة، السياسة الأمريكية تجاه شرق آسيا، النزاعات الاقليمية وكذا السياسات الداخلية تُعتبر بمثابة المحدّدات الاستراتيجية الأساسية المتبّعة من قِبل القوى الثانوية تجاه صعود الصين.
أمّا تنظيم هذه الورقة فهو كالتالي: يُراجع القسم الأول الأدبيات السابقة المتعلّقة بالاستراتيجيات الاقليمية لشرق آسيا تجاه الصين الصاعدة. يوفّر القسم الثاني أُطرًا نظريةً بخصوص سلوك القوى الصغرى في السياسة الدولية وكذا العوامل المؤثرّة على استراتجياتها، خصوصًا في زمن انتقال القوة الاقليمية. أمّا القسم الثالث، فيفحص الكيفية التّي تستجيب بها الدول الثانوية في شرق آسيا لصعود الصين متبوعًا في القسم الرابع بتحديد العوامل والحسابات الأساسية المُحدِّدة للخيارات الاستراتيجية لهذه الدول. يُلخّص القسم الخامس القضية، مقترحًا تطبيقاتٍ مستخلَصة عن هذا التحليل لأجل نظامٍ إقليميٍ شرق آسيوي.
- تقييم الاستجابة الشرق آسيوية للصعود الصيني:
فيما يتعلّق باستجابات الدول الثانوية الشرق آسيوية تجاه صعود الصين، يُقدّم عددٌ قليلٌ من التقديرات تشكيلةً متعدّدة من التصوّرات. يستعرض دفيد كانغ (David Kang) المسألة معتبرًا أنّ الدول الآسيوية تقوم بالوثوب على صعود الصين بسبب الارث التاريخي والثقافي المتمايز لدول شرق آسيا. حسب كانغ، فإنّ دول شرق آسيا مُدركةٌ أحسن إدراكٍ بأنّ صينًا قويّةً حافظت على مدار التاريخ على نظامٍ إقليميٍ مستقّرٍ ومسالم، من المرجّح أن تقبل إعادة إرساء هيراكيةٍ إقليميةٍ كحقيقةٍ معتاد عليها. الآن، يُعتبر تحليله هذا تحليلاً غير مقنعٍ للسببين التاليين: أولاً، إنّه يتغاضى عن حقيقة أنّ المصطلح الحديث لسيادة الدولة صار الآن محفورًا بقوة في أذهان الشرق آسيويين مقارنةً بالذاكرة البعيدة للتسلسل الهيراركي المركزي الصيني. ثانيًا، إنّه ينظر إلى الانخراط الاقتصادي المتنامي النشط مع الصين باعتباره ظاهرةً تُعبِّر عن استراتيجية الانضمام (أيْ الإلتحاق بالطرف الأقوى) (Bandwagoning)، اليوم، ومثلما أشار أميتاف أتشاريا (Amitav Acharya) يُعتبر هذا الأمر تأويلاً غير مناسب.
يختصر روبرت روس (Robert Ross) إستجابة الدول الشرق آسيوية تجاه الصين في إستراتيجيتيْ الاستعاب/الملائمة (Accommodation) والتوازن (Balancing). إنّه يصف كلاًّ من كوريا الجنوبية وتايوان كقوى متبنيّةً للاستعاب متخوّفةً من انكشافيتّها تجاه القوة العسكرية، ومنجذبةً إلى قوتّها الناعمة. بناءً على تحليله، فإنّ اليابان وبلدان آسيان في الجهة المقابلة تتوازن ضدّ الصين معتمدةً على التفوّق العسكري الأمريكي.
إلاّ أنّ هذا التأطير الثنائي بين الاستعاب والتوازن يُبسّط بشكلٍ كبيرٍ الركائز المعقدّة لاستجابات دول شرق آسيا ويفشل في الكشف عن السياسات المتعدّدة والمتمايزة للقوى الثانوية تجاه الصين.
يعرض تقييم كلّ من إفلين غوه وديني روي (Evelyn Goh and Denny Roy) الصورة الاستراتيجية الأكثر تحديدًا لشرق آسيا. بالرغم من بعض الاختلافات القائمة بينهما، فإنّ تحليلاتهما تتقاسم رؤيةً مشتركةً ترى بأنّ القوى الثانوية في شرق آسيا تُوظِّف استراتيجياتِ تَحوّطٍ أكثر تعدّدًا وتمايزًا. في الوقت الذّي تُقدّم فيه هذه الأعمال رؤى ناجعةً لفهم استجابة شرق آسيا للصعود الصيني، فإنّها للأسف تتجاهل القضايا المتعلّقة بإقليم بلدان شمال شرق آسيا، باعتباره نظامًا فرعيًا آخر ذو أهميّةٍ استراتيجيةٍ في شرق آسيا. كما أنّ العوامل الكبرى المؤثّرة في قرارات دول جنوب شرق آسيا لم يتّم تحليلها بعنايةٍ جيّدة.
يُثِبت التحليل الأكثر حداثة لـ جاي هو شونغ (Jae Ho Chung) أنماط استجابات شرق آسيا والعوامل المؤثّرة على هذه الاختلافات، فيرى بأنّ دول شرق آسيا تُظهر إلى حدٍّ كبيرٍ أربع أنماطٍ من الخيارات السياسية: الانضمام (Bandwagoning)، الحِيطة المتردّدة (Hesitant Hedging)، الحِيطة النشطة (Active Hedging) والتوازن (Balancing).
يُقيّم تشانغ أيضًا إحصائيٍّا المتغيّرات الوثيقة المرتبطة باستجابة كلِّ دولةٍ على حِدا ويستنتج بأنّ التحالفات مع الولايات المتحدة، الخلافات الاقليمية مع الصين وتشابه الأنظمة –السياسية- تُعتبر العوامل الأساسية المحدّدة للخيارات الاستراتيجية لدول شرق آسيا. يبدو الآن بأنّ هذه المحاولة تُعاني من بعض المشكلات. أولاً، إنّ التحليل الاحصائي يُعتبر منهجًا غير ملائم، لأنّ عدد السكان بأكمله يُعتبر قليلاً جدًّا وله محدودية في إظهار العوامل والمنطق السببي الذّي يقف وراء سلوكات الدولة. ثانيًا، نتائج أخبار تحليله اللوغاريتمي تُظهر عاملاً واحدًا فحسب، وهو التحالف الأمريكي، فهو ذو دلالةٍ إحصائيةٍ هامّة ويتناقض مع واقع الاستجابات الشرق آسيوية.
- سلوك القوى الثانوية زمن تحوّل القوة:
- 1. الدول الصغيرة في السياسات الدولية:
بدايةً، من الضروري توضيح مفهوم القوى الثانوية قبل فحص سلوكاتها. إنّ أكثر طريقةٍ مشتركةٍ وتقليديةٍ لتعريف الدول الصغيرة (وهي التسمية الأخرى للقوى الثانوية) هو عرض “ما ليست عليه”، بعبارة أخرى تُعرّف الدول الثانوية على أنّها دولٌ بخلاف القوى العظمى. من خلال تعريفٍ عمليٍ يتناسب مع معطيات عالمنا المعاصر نقول بأنّ الدول الثانوية هي «دولٌ أخرى غير “الخمسة الكبار”»، أيْ كلّ الدول ما عدا الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن التابع لهيئة الأمم المتحدة. من ناحيةِ الوظيفة، فإنّ القوى الصغرى هي الدول التّي تفتقر إلى قدرات التأثير أو لها قدراتُ تأثيرٍ محدودةٍ في النظام الدولي، بينما تُعتبر القوى الكبرى دولاً تلعب أدوارًا “نظاميةً حسّاسةً” أو أدورًا “نُظمية مؤثّرة” مع تأثيرٍ كبيرٍ على الساحة الدولية.
بناءً على ما تعكسه المعايير الموضّحة أعلاه، تُعرِّف هذه الروقة القوى الثانوية على أنّها: «دولٌ صغيرةٌ من حيث القوة، تفتقر إلى قوةٍ سياسيةٍ وعسكريةٍ فعّالةٍ تُمكنّها من تحدّي القوى الكبرى». أولاً، هي “ثانوية” لأنّ عليها قيودًا صارمةً تَحُول بينها وبين مواجهة دولِ “الدرجة الأولى” وتحدّي الترتيبات الدولية الموضوعة من طرف القوى الكبرى. ثانيًا، تُسمّى “بالدول الصغيرة” بسبب حجم القوة لديها وليس بسبب حجم إقليمها الجغرافي. بناءً على هذا التعريف، فإنّ كلّ الدول في شرق آسيا باستثناء روسيا هي قوى ثانوية. حتّى اليابان العملاق الاقتصادي البارز، صاحب ثالث أكبر ناتج دخل محليّ بعد الولايات المتحدة والصين، يفتقر بشكل واضح للقدرة العسكرية الفعّالة لتحدّي القوى الكبرى في الإقليم.
لقد تمّ تهميش القوى الثانوية أو الدول الصغرى لزمنٍ طويلٍ باعتبارها مجرّد دولٍ تابعةٍ لسياسات القوى الكبرى أو كمجرّد مواضيعٍ لسياستها في العلاقات الدولية. في الحقيقة، هيمن مبدأ الجملة الشهيرة لحوار ميلوس على السياسة الدولية عبر التاريخ: «يقوم القويّ بفعل ما يقدر على فعله، بينما يُعاني الضعيف ممّا يتوجّب عليه أن يُعاني». يذكر هانز مورغانثو في كتابه الشهير “السياسة بين الأمم” بأنّ: «الأمم الصغرى تُحقّق دومًا استقلالها إمّا عبر توازن القوة أو عبر الميل لإحدى الدول الحامية أو تعزو ذلك إلى تلك القوى التّي تفتقر إلى طموحاتٍ إمبريالية». إلاّ أنّه لابّد من الاعتراف بهكذا قوى ثانوية ودراسة درجة نفوذها حتّى وإن كان نفوذًا محدودًا، خاصّةً في زمن تحوّل القوة. يُمكن أن تُوظَّف الدول الصغرى في المواقع الجيواستراتيجية المفتاحية إمّا كحصونٍ حاميةٍ للدولة الصاعدة أو كخناجرٍ في خصر هذه القوّة الصاعدة. بالإضافة إلى ذلك، يمكن للقوى الصغرى أن تؤثر على نفوذ القوى الكبرى وقيادتها عبر رفع أو تقليص حالات المسائل الحرجة أو الطارئة. رغم ذلك، لا يمكن للدول الصغرى أن تتجرّأ على استخدام قوّة إحدى القوى الكبرى لتواجه قوّةً أخرى. (مثلا صوغ حلفٍ معادي، الانضمام إلى هجوماتٍ ما). يمكن لهذه الدول أن تؤثّر على حسابات قادة الدول الكبرى وتذكّرهم بأنّ تحركًا كهذا يمكن أن يكون خيارًا مُمكنا لهم. علاوةً على ذلك، يمكن للدول الصغرى أن تكون “ناخبًا” مُهمًّا في وضع المنافسة الاقليمية أو الدولية بين القوى الكبرى.
2.2. الخيارات الاستراتيجية للقوى الصغرى:
كيف تستجيب القوى الصغرى للتغيّر الطارئ على توزيع القوى الدولية؟
بمقتضى حجمها الصغير وقوتّها المحدودة، فإنّ الحسابات الاستراتيجية لدول الصّف الثاني تكون متمايزةً في استجابتها للقوى الكبرى عن استجابتها للقوة الصاعدة. أولاًّ وقبل كلّ شيء، لا يمكن للقوى الصغرى أن تكون مساعدةً ولكن حذرةً جدًّا لأنّ لخياراتها الاستراتيجية أثرٌ كبيرٌ ومباشرٌ على بقائها. خلافًا لذلك، فإنّ القوى الكبرى وبفضل تأثيرها الكبير ومصادرها يمكنها أن تتمتّع بمجالٍ للحركة والتلاعب حينما يتعلّق الأمر بمشكلاتٍ مختلفةٍ كتلك المرتبطة بمسألة المصداقية وترتيبات القوى الاقليمية والنظام الدولي للتعامل مع القوى الصاعدة. إلاّ أنّ قرارًا خاطئًا للقوى الصغرى يمكن أن يقود إلى خسارةٍ فادحةٍ لمصالحها القومية، سلطتها السياسية أو حتّى وجودها من الأساس.
ثانيًا، تُدرك القوى الصغرى تمامًا بأنّ تأثيرها السياسي والعسكري إذا كان موجودًا فهو يتسّم بالمحدودية أساسًا في حالة ما إذا أرادت أن تكبح القوة الصاعدة أو تردعها. مع استثناء التمتّع بأفضليةٍ جيوستراتيجيةٍ من شأنها أن توفّر أداةً تماثلية للردع، فإنّ الدول الصغرى عمومًا تُعاني من التماثلية الاستراتيجية والانكشافيّة في علاقتها مع القوى الكبرى. إنّ “وزنها” على الساحة الدولية خفيفٌ جدًّا ليُحدِث تغييرًا ما في توازن القوى، فهي تشعر بالارتباك من أنّ حركتها المتسرّعة يمكنها أن تُفاقم الوضع عبر استفزاز القوى العظمى.
ثالثًا، يمكن لسياسة القوى الكبرى أن تُمارس نفوذًا كبيرًا على الحسابات الاستراتيجية للدول الصغرى. من جهة، يمكن للقوة الكبرى الصاعدة أن تردع توازن الدول الصغرى عبر التهديد بالعقاب أو عبر تعويضات لمستحقاتٍ اقتصاديةٍ وسياسيةٍ معيّنة. في حالة الاتّجاه للمنحى الأخير، يمكن للدول الصغرى أن تجد “نافذةَ فرصةٍ” أثناء عملية انتقال القوة. من جهةٍ أخرى، فإنّ فعل التوازن المُضاد ضدّ قوةٍ كبرى أخرى مُهدِّدةٍ يمكنه أن يشجّع الدول الصغرى على المشاركة في ائتلافاتٍ توازنيةٍ عبر تقديم دعمٍ فعّال والتزاماتٍ مُعيّنة.
بالنظر إلى مثل هذه الظروف، فإنّ للدول الصغرى قائمةً من الخيارات السياسية المتمايزة عن الدول الكبرى. على سبيل المثال، إنّ محاولة الثنيِ العسكري لقوّةٍ صاعدةٍ قبل أن تصير أقوى من خلال شنِّ حربٍ وقائيةٍ لا يُعتبر خيارًا مُتاحًا للدول الصغرى، كما أنّ استراتيجية الاحتواء عبر جعل مجال القوة الصاعدة الخارجة عن السيطرة داخل حدود محدودة يُعتبر أيضًا سياسةً غير واقعيةٍ للدول الصغرى وتفتقرُ لكلٍّ من التصميم الكبير والالتزام المطلق لمواجهة القوة العظمى.
لمواجهة التغيير في توزيع القوة الاقليمي، يمكن للدول الثانوية أن تختار استراتيجيّتها بين عدّة خيارات: التخّفي (Hiding)، الانضمام (Bandwagoning)، الاسترضاء (Appeasing)، الاستعاب (Accommodating)، التوازن (Balancing)، المشاركة/الانخراط (Engaging)، التجاوز/التخطّي (Transcending) والحيطة/التحوّط (Hedging).
أ. التخفّي (Hiding):
الاستجابة الأولى والأكثر بساطةً للدول الصغرى تجاه التحوّل الاقليمي للقوة هي التخفّي أو الاختباء. يُشير التخفّي إلى سياسةِ التجاهل من خلال خفض الدولة للتهديد أو إعلان الحياد آملة “أن تمرّ العاصفة فوقها بسلام”. لا يرجع سبب التخفّي إلى عدم الفهم، ففي ظلّ الأوضاع التّي لا يمكن التنبؤ بها لتحوّل القوة، لا تجد الدول الصغرى نفسها من دون مساعدة، لاسيما مع إمكانيّاتها القومية المحدودة للغاية. بالإضافة إلى ذلك، عادةً ما تحمل التصرّفات السريعة كالميل لأحد الأطراف أو لآخر موقفًا عدائيًا ضدّ القوى الكبرى الأخرى، وهي تصرّفاتٌ تمثّل خطرًا كبيرًا جدًّا على الدول الصغرى. تحت ظروفٍ كهذه، تُفضّل هذه الدول أن تبقى غير حاسمةٍ في مواقفها آملةً ببساطة أن يمرّ كلّ شيئٍ عبر هذا الأسلوب على ما يرام. تختار الدولة إستراتيجية الاختباء حينما تواجه قوّةً صاعدة، لكن لا تُقْدِمُ على شيئٍ ولا تُعلن الحياد رغم غياب تدابيرٍ فعّالةٍ أو إمكانياتٍ معيّنةٍ للحفاظ على موقفٍ سياسيٍّ كهذا.
ب. الانضمام (Bandwagoning):
الخيار الثاني هو الانضمام·، وهو محاولة للانحياز والاصطفاف مع القوة الصاعدة بدلاً من التوازن ضدّها. هناك محفزّيْن إثنيْن للقفز على الدول الصاعدة. فمن جهةٍ ولأجل غايةٍ دفاعية، تسعى القوى الصغرى لتحييد التهديد وبذلك تتجنّب هجماتٍ محتملةٍ ضدّها من طرف القوة الصاعدة عبر الانضمام إليها. من جهةٍ أخرى، لغرضٍ هجوميٍ إلى حدّ ما، إذْ يمكنها أن تكسب فوائدًا مستمدةً من توسّع القوة الصاعدة من خلال “كونها تقف إلى جانب الطرف الرابح”. وهذه صياغةٌ أكثر تحديدًا لخيار الانضمام: أولاً، فعلُ “تحييدِ التهديد”، الانضمام هو الاصطفاف مع القوة الصاعدة بشكلٍ صريحٍ أو ضمني. ثانيًا، حينما تنضّمُ أو تدعم دولةٌ ما ممارسة النفوذ من طرف القوة الصاعدة وتدعّم أيضًا سياساتها التوسعيّة متوقعةً جنيَ مكاسبٍ سياسيةٍ أو اقتصاديةٍ ما، فإنّها تندرج تحت مسمّى “السعي نحو الفائدة” من الانضمام. لكن تجدر الاشارة إلى أنّ هذا النمط من الاستراتيجيات لا يتضّمن كلّ أشكال الفوائد الربحية من تفاعل الدولة مع القوة الصاعدة. على سبيل المثال رغم سعي الدولة إلى تحقيق مكاسبٍ من التجارة مع القوة الصاعدة، فإنّ ذلك لا يعني بالضرورة أنّها تنضّم أو تُدعّم هذه الدولة الصاعدة. من هذا المنطلق، فإنّ تأويل المشاركة الاقتصادية باعتبارها خيار انضمامٍ ومسايرةٍ من شأنه أن يجعل تحليلنا لتَصرّف الدولة الاستراتيجي تحليلاً غامضًا وبالتالي ينبغي أن نُبقيه خارجًا.
ج. الاسترضاء (Appeasement):
أسلوب الاستجابة الثالث هو الاسترضاء والذّي يُعتبر سلوكًا مشتركًا بين الدول الصغرى. يشير إلى «سياسة تسويةِ الخصومات الدولية من خلال الاعتراف بالتظلّمات وطمأنة أصحابها عبر التفاوض العقلاني وبالتالي التسوية تجنّبًا للجوء الأطراف إلى النزاع المسلّح». بشكلٍ عام، فإنّ المساومة والرضوخ للمطالب غير المعقولة للقوة الصاعدة يُمكن أن تُأوّل باعتبارها سياسة استرضاء. تاريخيًا وفي العديد من القضايا، فإنّ الدول الصغرى التّي عانت من نقص القدرة على المساومة الفعّالة رضخت للمطالب القاسية للقوى الكبرى. معايير الاسترضاء في هذه الورقة هي ما إذا كانت دولةٌ ما تقبل بالمطالب غير المعقولة على غرار التخلّي عن إقليمٍ متنازعٍ عليه، إبرامُ معاهدةٍ دبلوماسيةٍ غير عادلة، أو عقدُ ترتيباتٍ تجاريةٍ إستغلالية.
د. الاستِعاب (Accommodation):
الخيار الرابع هو الاستعاب، تكون استراتيجيات الاستعاب لدى الدول الصغرى في زمن تحوّل القوة بشكلٍ مزدوج: إرضاء القوة الصاعدة والتكيّف مع البيئة الجديدة. الإقرار بتحسين الوضعية الدولية للدولة الصاعدة، ومكانتها أيضًا من دون شكّ، يليه توفير خدماتٍ سياسيةٍ واقتصادية لها.
يمكن للدول الصغرى إرضاء القوة الصاعدة، بالإضافة إلى ذلك تستطيع الدول الصغرى أن تُكيّف ذاتها أمام التغيّرات الطارئة في النظام الإقليمي أو الدولي، وبإمكانها أن تبني علاقاتٍ جديدةٍ بين الدول يتسبّب فيها انتقال القوة. عبر هذه الجهود، يمكن للدول الصغرى أن تتجنّب استعداء القوة الكبرى، بل وحتّى إرساء علاقاتٍ وديّةٍ معها. يختلف الاستعاب عن الانضمام والاسترضاء لسببيْن، رغم أهدافه الساعية لتحسين العلاقات مع الدولة الصاعدة، فهو ليس محاولةً للاصطفاف إلى جانب القوة الصاعدة (كالانضمام). بالإضافة إلى ذلك، يمنح الاستعاب امتنانًا وخدماتٍ معتدلةٍ للقوة الصاعدة فحسب، بينما يُعبّر الاسترضاء عن شكوى ومظلمةٍ ما تجاه القوة الصاعدة.
ك. التوازن (Balancing):
يُمثّل التوازن سبيلاً سادسًا في الاستجابة لدولةٍ صاعدةٍ ما، وهو عبارة عن ردّ فعلٍ مضادٍ في مواجهة صعود قوةٍ كبرى. إعتمادًا على إجراءاتها، تنقسم هذه الاستراتيجية إلى توازنٍ داخليٍ وآخر خارجي. التوازن الداخلي هو محاولةُ بلوغ التوازن مع زيادة قدرة الدولة، وبالأساس قوتّها العسكرية. في المقابل فإنّ التوازن الخارجي هو استعادة القوة وتعادلها عبر إرساء حلفٍ أو الاصطفاف ضدّ قوةٍ كبرى صاعدة. فيما يتعلّق بشدّته يمكن أن يأخذ التوازن شكليْن: توازنٌ ناعمٌ وآخر صلب.
التوازن الصلب، هو طريقةٌ تقليديةٌ للموازنة المضادّة الصريحة مع تعزيز وحشد أسلحةٍ داخلية وأحلافٍ خارجية. خلافًا لذلك فإنّ التوازن الناعم هو جهدٌ تكتيكيٌّ لموازنة قوةٍ صاعدةٍ مع إجراءاتٍ أقلّ استفزازًا كالتعزيز العسكري المحدود، وإجراء مشاوراتٍ أمنيةٍ غير رسميةٍ متخصّصةٍ بين الدول المُتضرّرة من هذه القوة الصاعدة، واستخدام المنظمات الدولية للضغط على القوة الصاعدة أو تقييدها .
ناذرًا ما تلجأ الدول الصغرى إلى إستراتيجية التوازن خاصّةً التوازن الصلب، ذلك أنّ حساسية (وضعف) الدول الثانوية تجاه الدولة الكبرى يكبح بشدّةٍ قدراتها على التوازن ضدّ الأخيرة. لا تستطيع القوى الصغرى أن تتدخّل في توازنٍ مضادٍ بنجاح ضدّ القوة الكبرى الصاعدة من دون تغييرٍ كبيرٍ تُحدثه قوةٌ كبرى أخرى. بالإضافة إلى ذلك فإنّ الدخول في الأحلاف بامكانه أن يقيّد بشكلٍ كبيرٍ المرونة الدبلوماسية للقوى الصغرى في الأزمات الدولية. علاوةً على ذلك، فإنّ الانضمام لائتلافٍ موازنٍ مضادٍ يعني بأنّ المُوازن يُظهر بشكلٍ واضحٍ جدًّا نيّةً عدائيةً تجاه القوة الصاعدة ومن شأن ذلك أن يجلب عليه نزعةً عدائيةً لا يمكن التنبؤ بها وعدوانًا محتملاً من طرف هذه الدولة الصاعدة. لذلك فإذا سعت القوى الصغرى لمعادلة القوة الصاعدة، فإنّ عليها أن تحصل على شريكٍ قويٍّ (غالبًا ما يكون قوةً كبرى أخرى) مع التزامٍ قويٍّ وضمانةٍ أمنيةٍ بالحماية. من دون دعمٍ كهذا يجب على الدول الصغرى أن تختار مستوى محدود جدًّا من التوازن الناعم.
م. المشاركة/الانخراط (Engagement):
الخيار السابع هو المشاركة مع القوة الصاعدة. تُعرّف المشاركة (أو الانخراط) بأنها: ‘«محاولةٌ للتأثير على السلوك السياسي للدولة المستهدفة عبر الارساء الشامل للروابط وتعزيز العلاقات مع هذه الدولة عبر قضايا مناطق متعدّدة الجوانب». تتضّمن سياسة المشاركة أداة الاتصالات الدبلوماسية (مثلاً توسيع العلاقات الدبلوماسية وتطويرها، عقد القمم واللقاءات رفيعة المستوى…الخ)، الاتصالات العسكرية (مثلاً التبادلات العسكرية، التدريبات والتمارين المشتركة، إجراءات بناء الثقة، مشاركة المعلومات الاستخباراتية …الخ)، الاتصالات الاقتصادية (مثلاً الاتفاقيات، المساعدات الخارجية والقروض، تنسيق السياسات الماكرو-اقتصادية)، الاتصالات الاجتماعية (مثلاً التبادلات الثقافية، تحسين السياحة، برامج تبادل الشباب). يُمكن للقوى الصغرى عبر هذه الأشكال من التفاعلات أن تحثّ هدفها إلى سلوكِ منحى معتدلٍ وسلميٍ أثناء صعود القوة الكبرى المَعنِيّة. على الرغم من أنّ نفوذ الدول الثانوية على تشكيل التطورات وسلوكات القوة الصاعدة ليس نفوذًا قويًّا كنفوذ القوى الكبرى، فإنّ خيار المشاركة يُعتبر خيارًا جديرًا بالاعتبار إذا كان بالامكان تغيير تفكير وسلوك الدولة الصاعدة ليصير أكثر ميلاً إلى الملائمة والايجابية ولو لأدنى درجةٍ فإنّ الأمر يستحق المحاولة، لأنّه لا يتطلّب مستحقاتٍ كبيرةٍ ولا تكاليفًا أيضًا، كما أنّه لا يُشكّل خطرًا في استفزاز النزعة العدائية للدولة الصاعدة وإثارتها.
و. التجاوز (أو التخطّي) (Transcending):
التجاوز هو محاولةٌ لتخطّي منطق القوة المتمركز لدى السياسة الواقعية (Realpolitik) عبر مُباشرةِ ترتيباتٍ سياسيةٍ أو معيارية. فسبب النقص الواضح لقدرتها السياسية العسكرية الفعّالة، يمكن للدول الصغرى أن تعتمد على أدواتٍ مؤثّرةٍ أخرى كالمؤسّسات متعدّدة الأطراف والقيم الدولية. على أرضية المؤسّسات متعدّدة الأطراف والأنظمة فيما عدا استثناءاتٍ قليلة، بإمكان القِوى الصغرى بأن تتمتّع بحقوقٍ متساويةٍ نسبيًا لتُعبّر عن مخاوفها وخياراتها حول الشؤون الاقليمية والدولية وتضع أجندةَ عملٍ أيضًا، لذلك فإنْ تمّ بنجاحٍ جلبُ القوة الصاعدة نحو هذا المجال ذي الصيغة متعدّدة الأطراف، فإنّ من شأن ذلك أن يكون سبيلاً مفيدًا لممارسة النفوذ عبره. إنّ مناشدة القيم والمبادئ الدولية، كمبدأ عدم التدخّل في الشؤون الداخلية للدول، وإحترام سيادة الدول، والحلّ السلمي للنزاعات البينية بين الدول وغيرها من المبادئ، يمكن أن تكون سبيلاً حسنًا للتجاوز.
ي. الحِيطة (Hedging):
يشير آخر خيارٍ، أي الحِيطة (أو التَحَوُّط)، إلى التنويع في الاستراتيجية المُتَبّعة تحضيرًا لمستقبل غامضٍ، مثلما تشير المقولة القديمة “لا تضع كلّ البيض في سلّةٍ واحدة”، فإنّ القرارات الإستراتيجية التّي تتّسم بكونها مُحدَّدةً جدًّا يمكن لها أن تُعرّض مستقبل الدولة للخطر. فإذا تطوّرت وضعية تحوّل القوّة باتجاه منحى قابلٍ للتنبؤ بشكلٍ كامل، فإنّ اختيار استراتيجية الاستجابة الأقرب مع التركيز على كافة الموارد ذات الصلّة من شأنه أن يكون أمرًا فعّالاً بجدّ. لكن، إذا لم يتّم ذلك على خيارٍ واحدٍ فحسب، فمن الممكن أن يكون ذلك أمرًا قاتلاً بالنسبة للدول الثانوية الواقعة تحت النفوذ الشديد للسياسات الكبرى. لمثل هذه الأسباب يُمكن للقوى الصغرى أن تتبنّى مجموعةً من الخيارات المتعدّدة كالتوازن، الانضمام والمشاركة ..الخ. بهذا المعنى فإنّ الحِيطة تُعبِّر عن خليطٍ من الاستراتيجيات، أكثر من كونها خيارًا حصريًا بعينه.
- كيف تستجيب دول شرق آسيا للصين:
كيف تستجيب دول شرق آسيا لصعود الصين؟ هناك ثلاثة أنماطٍ إجماليةٍ في استراتيجيات هذه الدول:
أولاً: كلّ دولةٍ في هذه الورقة توظِّف خيار الحِيطة وتعتبره استراتيجيةً موحدّةً لاثنين أو أكثر من الخيارات السياسية، إنّه لمن الأهميّة بمكان أنّ هناك دولاً تُعتبر على العموم موازنًا واضحًا (مثل تايوان) أو مُنضَّمًا واضحًا (ككوريا الشمالية) أو دولةً تتشعّب طريقة استجابتها. ثانيًا: معظم الدول تُظهر موفقًا إستعابيًا تكيّفيًا تجاه الصين وتشارك بشكلٍ نشطٍ إلى جانبها، إنّه لمن الواضح بأنّ هذه الدول لا تتكيّف فقط مع الحقيقة التّي لا يمكن إنكارها لصعود الصين ولكنّها تحاول أيضًا أن تؤثّر عليها وتستغلّها. ثالثًا: باستثناء تايوان، فإنّ كلّ دولةٍ في شرق آسيا تتّبع خيار التوازن الصلب. لا توجد علامةٌ صريحةٌ مثلاً لسباق تسلّحٍ أو لصعود اصطفافِ موازنةٍ مضادٍ ضدّ الصين. تأخذ الاستجابة لتنامي القدرة العسكرية للصين (مثلما يوضّح الجدول رقم 1 في الوقت الذّي تتواجد فيه بعض الدول التّي تحاول التوازن ضدّ القوة المتنامية للصين) استراتيجية انحيازٍ وتوازنٍ بدلاً من أن تأخذ شكلاً ناعمًا، كأن تكون تعزيزًا عسكريًا محدودًا للقرارات أو الاقتراب من قوة كبرى أخرى. سيراجع القسم التالي بشكلٍ منفردٍ استجابات دول شرق آسيا.
الشكل رقم 1: الانفاق العسكري لكلّ دولة (بالمليون دولار)
المصدر: معهد ستوكهولم لأبحاث السلام، قاعدة بيانات الانفاق العسكري لدى المعهد
1.3. شمال شرق آسيا:
أ. اليابان:
يمكن أن تُلخَّص السياسة اليابانية تجاه الصين باعتبارها مشاركةً اقتصاديةً نشطةً وتوازنًا خارجيًا وداخليًا منخفض الكثافة. بالرغم من تاريخ المنافسة الطويل في المنطقة بسبب البلدين، فإنّ الخطّ الأساسي لسياسة اليابان تجاه الصين تَمثّل في سياسة المشاركة حتّى أثناء حقبة الحرب الباردة مع إجراءاتٍ متعدّدةٍ للمشاركة على غرار تحسين العلاقات الثنائية وتوظيف الإطار الثلاثي المتكوّن من اليابان–الصين–الولايات المتحدة لأجل سياسة التعاون، فقد حاولت اليابان أن تؤثّر على طريقة تفكير الصينيّين وسلوكاتهم. لقد كانت اليابان إحدى أولى البلدان التّي دعمت إعادة اندماج الصين في المجتمع الدولي بعد مذبحة تيانانمان سنة 1989 وقد شجّعت بنشاطٍ ورحّبت بدخول الصين إلى المنظمات الاقليمية والدولية. بالترافق مع مثل هذه الجهود، فقد حاولت اليابان إدماج الصين داخل النظام الدولي الليبرالي وحاولت منع احتمال وقوع مواجهته أو إلحاق اضطرابٍ به بسبب نمو الصين.
في الوقت نفسه تبنّت اليابان أيضًا استراتيجية التوازن الداخلي والخارجي منخفض الكثافة (Strategy of Low Intensity Externaland Internal Balancing). مع أنّها حافظت لمدّةٍ طويلةٍ على سياسة المشاركة، فإنّ توجّس طوكيو تجاه جارتها الكبيرة عرف تزايدًا بشكلٍ كبيرٍ كلّما عرفت قدرة الصين نموًا مُطردًا. إنّ التطوّر السريع للبحرية الصينية التّي من المحتمل أن تُهدّد أمن ملاحة السفن اليابانية على الممرّات البحرية الحيوية للمواصلات في شرق آسيا يُعتبر السبب الرئيسي للقلق الشديد لدى القادة اليابانيّين. بالإضافة إلى ذلك فإنّ المواقف والسياسات الصينية العدوانية على غرار الحصار التجاري للموارد الأرضية الناذرة الذّي ظهر خلال المواجهات الدبلوماسية الأخيرة حول جزر سينكاكوا/ديايو(Senkaku/Diaoyu Islands) وحول حقول الغاز في بحر الصين الشرقي تسبّبت في تكثيف مثل هذه المخاوف بخصوص الصين.
مواجهةً لصعود الصين، سعت اليابان إلى نسخةٍ ناعمةٍ من التوازن الخارجي مع دول شرق آسيا. يُمثّل التحالف مع الولايات المتحدة العمود الأساسي للتوازن منخفض الكثافة الذّي تُباشره اليابان. لقد تعامل بيان اللقاء الاستشاري الأمني الأمريكي-الياباني سنة 2005 مع مسألة القدرة العسكرية الصينية المتنامية والتّي من الممكن أن تفرض خاصيّتها المبهمة تحدّيًا جدّيًا في هذه المنطقة. علاوةً على ذلك ففي سنة 2006 أجرى البلَديْن تدريبًا عسكريًا مشتركًا افترض الصين بمثابة التهديد الأساسي. إضافةً إلى ذلك فقد شرعت اليابان في توسيع النطاق الجغرافي لتعاونها مع الولايات المتحدة. وبعدما تمّ توقيع الشراكة العالمية والاستراتيجية بين اليابان والهند سنة 2007، أعلنت اليابان والهند بشكلٍ مشتركٍ تصريحًا مشتركًا حول التعاون الأمني سنة 2008، تمّ الاتفاق على تحسين التعاون الأمني في العديد من المجالات. كان إعلان البيان الأمني بين اليابان وأستراليا سنة 2007 مؤشّرًا آخر يُظهر بأنّ اليابان قد بلغت تطوّرًا ملحوظًا في تعاونها الأمني مع أستراليا فكلا البلدان يتقاسمان ذات التوجّس والقلق بشأن صعود الصين. جنبًا إلى جنب مع تبنّي استراتيجية التوازن الخارجي، ولو بطريقةٍ محدودة، شرعت اليابان في تبنّي استراتيجية التوازن الداخلي. لقد أظهرت المبادئ التوجيهية لبرنامج الدفاع الوطني الياباني المُعلنة سنة 2010 تغيّرًا في الموقف الاستراتيجي الياباني، فلأوّل مرّة قامت بقلب مبدأ الدفاع الأساسي لديها من “قوة الدفاع الأساسية” إلى ”قوة الدفاع الديناميكي” (From Basic Defense Force to Dynamic Defence Force)، كما غيّرت تركيزها الأساسي من مسرح الشمال الشرقي إلى المسرح الجنوب غربي.
هذه التغيّرات تؤشّر بأنّ قوة الدفاع الذاتي اليابانية تأخذ في عين الاعتبار إمكانية حدوث نزاعٍ محتملٍ مع الصين بشكلٍ جدي، بالمثل، فإنّ اليابان تركّز بشكلٍ متزايدٍ قدرتها العسكرية في الجنوب مُعيدةً ترتيب موضعها الدفاعي مع طائراتِ دورياتٍ بحريةٍ وطائراتٍ نفّاثةٍ وقواعدٍ عسكريةٍ متقدّمة.
ب. كوريا الشمالية:
كوريا الشمالية، البلد الذّي يظهر بأنّه مُسايرٌ (مُنضّم) واضحٌ للصين من الوهلة الأولى، فهو لا يركب فقط على صعود الصين، ولكنّه بدلاً من ذلك يُوفِّق بين استراتيجية تكتيك التوازن والمشاركة تجاه الجار الصاعد، تقليديًا فقد عُرفت العلاقات الثنائية بين كوريا الشمالية والصين بأنّها علاقات رفقةٍ مُقرّبة “كالشفاه والأسنان”، “حليفُ الدمّ” أو “الإخوة في السلاح”. خلال حقبة الحرب الباردة سعت كوريا الشمالية إلى تحقيق الحكم الذاتي والاستقلال عن التأثير الصيني، متّبعةً دبلوماسية الوقوف على نفس المسافة بين الصين والاتحاد السوفياتي.
لقد أظهرت سلوكات كوريا الشمالية خلال الأزمة الثورية الكورية الشمالية في العقدين الأخيرين الماضيين منذ مطلع التسعينات أنّ نأيها بنفسها بين الفينة والأخرى عن الصين وباتسّاق، يعود لسعيها إلى تحقيق «جيشٍ قويٍّ وأمّةٍ غنيّةٍ بقدراتها الخاصّة لا بغيرها»، فعبر العديد من الأحداث المهمّة خلال الأزمة الثورية أظهرت بيونغ يونغ أنّها تنظر للصين كمجرد “شريكٍ نفعيٍ ملائم” Expedient Partner))، بدلاً من كونها شريكَ انضمامٍ (Partner for Bandwagoning). علاوةً على ذلك فقد تجاهلت كوريا الشمالية باستمرار مخاوف الصينيّين، مُشمئزةً من أثرها في زعزعة الاستقرار بسبب تصرّفاتٍ غير مسؤولة. إنّ الأولوية القصوى لدبلوماسية بيونغ يونغ النووية كانت كسر الصفقة مع الولايات المتحدة وهو الأمر الذّي أحبط بيكين مرّات عديدة. وعبر تجاهل تحذيرات الصين المتكرّرة وقناعاتها فقد دفعت كوريا الشمالية نحو الأمام مجرّبةً اختباراتٍ نوويةٍ ثانيةٍ واختبارات صواريخٍ باليستية، فضلاً عن ذلك بدت كوريا الشمالية قلقةً بخصوص إمكانية أن يُلقي نفوذ الصين المهيمن بظلاله عليها. على سبيل المثال، في سنة 2007 وخلال لقاءات مع مسؤولين أمريكيّين رافعي المستوى، لم يقم المفاوض الكوري الشمالي كيم كي-كوان Kim kye_Kwan)) حتّى بمجرد التلميح بأنّ بلاده من الممكن أن تتعاون مع الولايات المتحدّة لاحتواء الصين في حالة ما إذا ذهبت الولايات المتحدّة لتطبيع الروابط الدبلوماسية مع كوريا الشمالية، ومع أنّ الاقتراح قُوبل فورًا بالرفض فقد أظهرت هذه الحادثة كيف تُفكّر كوريا الشمالية بخصوص حليفها المقرّب. لكن التوريث الأخير للسلطة في كوريا الشمالية كان قد دفع بيونغ يونغ إلى السعي لمشاركة سياسةٍ نشطةٍ مع الصين، فقبل وفاته قام الزعيم الأعلى كيم جونغ إيل Kim Jong il)) بزيارة الصين ثلاث مرات في عامٍ واحد (2010-2011). كان المقصد من هذه الحركة الدبلوماسية غير المسبوقة ذي دلالة يتمثّل في: احتياج كيم جونغ إيل إلى دعم الصين حتّى ينقل السلطة إلى ابنه تحت ظروفٍ آمنة. يحتاج القائد الكوري الشمالي الجديد كيم جونغ أون Kim Jong UN)) أيضًا إلى دعمٍ من الصين لأجل التعامل مع كلّ من التحدّيات الداخلية والخارجية التّي يواجهها الآن. على هذا النحو فمن المرجّح أكثر أن تستمر كوريا الشمالية في متابعة سياسة المشاركة تجاه الصين.
ج. كوريا الجنوبية:
إنّ المَلمَح الأكثر بروزًا في استجابة كوريا الجنوبية تجاه الصين هو التركيز أساسًا على استراتيجيةٍ واحدة: سياسة المشاركة/الانخراط Engagment Policy)). اتخذّت كوريا الجنوبية هذا الموقف بنشاطٍ حتّى منذ تطبيعها للعلاقات الدبلوماسية مع الصين سنة 1992، منذ ذلك الحين قفزت القيمة الاجمالية للتجارة بين البلدين من 6.4 مليار دولار سنة 1992 إلى 220 مليار دولار سنة 2011، واضعةً الصين إلى الآن كأكبر شريكٍ تجاريٍ لكوريا الجنوبية وبمثابة مغناطيس جاذب للاستثمار. ليست الصين بالنسبة لكوريا الجنوبية مجرّد شريكٍ اقتصاديٍ جذّاب، بل ومساعدًا استراتيجيًا مهمًّا في شؤونها الخارجية أيضًا، خصوصًا فيما يتعلّق بسياستها تجاه كوريا الشمالية. تحتاج سيول للدعم الصيني القويّ حتّى تتعامل مع جارتها الجامحة في الشمال، دعمٌ له تأثيرٌ كبيرٌ ونفوذٌ على كوريا الشمالية، هذه الحقيقة تعكس السبب الكامن وراء رفع البلدين لعلاقتهما الثنائية من مستوى ”الجار الحسن” إلى ”الشريك التعاوني الاستراتيجي” سنة 2008. لقد عرفت الشراكة القويّة بين سيول وبيجين تقدّمًا كبيرًا أثناء الأزمة النووية الثانية لكوريا الشمالية، إذْ تعاونت كلٌّ من الصين وكوريا الجنوبية بشكلٍ مقرّبٍ لتسوية هذه القضية كما لعب البَلدان دورًا رئيسيًا في إنشاء وإدارة المحادثات السداسية كاطارٍ للنقاش الأمني متعدّد الأطراف الذّي صُمِّم بهدف إيجاد حلٍّ دبلوماسيٍ للمشكلة النووية الكورية الشمالية.
رغم أنّ سلوك كوريا الجنوبية أظهر ميلا نحو المشاركة، فسيكون من المضلّل تأويل الأمر وكأنّه شعورٌ من سيول بعدم الحاجة إلى إستراتيجيات الحِيطة والتوازن. فضلاً عن ذلك، فإنّ جملة المشاحنات الدبلوماسية الأخيرة دفعت كوريا للنظر في مسألة تبنّي إستراتيجية الحِيطة ضدّ الصين. مع مطلع الألفية، دعمت الحكومة الصينية مشروع أبحاث تاريخي حول سلالة الكوغوريو (Koguryo)، وهي السلالة القديمة المتواجدة في منشوريا والمنطقة الشمالية لشبه القارة الكورية. هذا ما أثار غضب العديد من الكوريّين الذّين رأوا في المشروع بمثابة فعلٍ إمبرياليٍ يستهدف ”الاستيلاء” على تاريخهم. كانت الحادثة الأكثر شدّة مُتمثّلةً في سلوك الصين بعد إغراق سفينة ”شيونان” (Cheonan)، السفينة البحرية الكورية الجنوبية سنة 2010، لم تعترف الصين إطلاقًا بالعامل الدولي الذّي وصل إلى جملة استنتاجاتٍ تشير إلى كوريا الشمالية على أنّها المشتبه به الأساسي في هجوم التوربيد. علاوةً على ذلك، عارضت الصين بشدّة التدريب العسكري المشترك بين الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية ونظرت إليه على أنّه مناورةٌ عسكريةٌ مقصودةٌ وإظهارٌ للقوة المتحالفة –بين البلدين- تجاه كوريا الشمالية، كان ذلك في نفس العام، وقد صاحب هذه المعارضة انتقاداتٍ قاسيةٍ لما سُميّ “بالانتهاك” الذّي طال البحر الأصفر الصيني بالنسبة للكوريّين الذّين وثقوا بالصين على اعتبار أنّها الشريك المخلص ونظروا فترةً طويلةً إلى بحر الصين بكونه مجالهم الحيوي. تمّ تأويل تصرّفاتٍ صينيةٍ كهذه على أنّها تصرّفاتٌ متعجرفةٌ مخيّبةٌ للآمال وحتّى إمبريالية، إضافةً إلى ذلك، تشكّ سيول وتتخوّف بخصوص ماذا ستفعل الصين إذا ما انهارت كوريا الشمالية فجأةً. رغم أنّ كوريا الجنوبية تتعامل مؤخّرًا مع هذه المشكلات بمشاركةٍ سياسةٍ نشطةٍ بهدف تغيير الصين، فإنّه من المرجّح اعتبار خيارات الحِيطة والتوازن خيارات أكثر جدّيةً إذا ما بلغ تراكم الإحباط من الصين حدًّا معيّنًا.
د. تايوان:
في الوقت الذّي تعرف فيه الصين صعودًا متناميًا سريعًا للقوة، تتابع تايوان استراتيجيةً مزاوجةً بين المشاركة/الانخراط والتوازن، فمنذ فتح التبادلات الاقتصادية المنتظمة بين تايوان والوطن الأمّ-الصين، سعى القادة في تايبيه إلى تبنّي استراتيجية المشاركة بهدف تغيير سياسة الصين العدوانية المتمثّلة في التهديد باستخدام القوة ودبلوماسية إقصاء تايوان من المجتمع الاقليمي والدولي، إلى سياسةٍ أكثر إيجابية، وبالرغم من وجود بعض الشدّ والجذب في العلاقات أثناء سنوات الاضطراب من تسعينيات القرن المنصرم إلى مطلع القرن الحادي والعشرين، فقد حافظت تايوان حاليًا على الاشتراك الاقتصادي والاجتماعي مع الصين أثناء حقبة سياسة التقارب النشطة للرئيس كينغ جياو (Ying-Jeou)، تعترف تايوان الآن بالصعود الصيني باعتباره واقعًا سياسيًا وتدرك احتياجاته بهدف تقليص حدّة التوتّر في المضيق. من خلال سياسات المشاركة النشطة، اتفّقت ضفّتا المضيق (أيْ الصين وتايوان) على فتح خطوط طيرانٍ تجاريةٍ مباشرةٍ بينهما سنة 2008، وقاما بتوقيع الاتفاق الاطاري التعاوني الاقتصادي سنة 2010.
من خلال متابعة سياسة التقارب تجاه الصين عبر المشاركة الاقتصادية المتّسقة، سعت تايوان إلى سياسة التوازن باعتبارها عمودًا آخر لسياستها تجاه الصين، ولعديدٍ من الأسباب كالمعضلة الأمنية عبر المضائق، وعدم الاتّفاق بخصوص الهويّة الشرعية للحكومة التايوانية، وكذا ريبتها التاريخية تجاه بيجين، من المرجّح أن تختار تايوان سياسة التوازن بدلاً من الانضمام. الأداة الرئيسية لهذا التوازن هو التحالف القائم مع الولايات المتحدة، التّي تزاول حماية تايوان منذ سنوات الخمسينات.
2.3. جنوب شرق آسيا:
أ. آسيان (ASEAN):
أكثر الملامح تميّزًا في استجابة دول جنوب شرق آسيا –عمومًا- هو خيار المشاركة والتجاوز من خلال رابطة أمم جنوب شرق آسيا (آسيان). قبل فحص سياسة كلّ دولةٍ على حدا، فإنّه من الضروري التدقيق في مسألة كيفية انتهاج بلدان جنوب شرق آسيا لمقاربة متعدّدة الأطراف تجاه الصين، خاصّةً وأنّ استجابة الآسيان لصعود الصين يمكن أن تُختصر باعتبارها مشاركةً جماعيةً أو سياسيةً تستهدف سحب الصين إلى المؤسّسات الاقليمية وجعلها تلتزم بالمعايير الاقليمية.
أولاً: انخرطت دول جنوب شرق آسيا مع الصين بشغف، لم يكن ذلك بطريقةٍ ثنائيةٍ وحسب وإنّما عبر إطار رابطة آسيان أيضًا. تمخّض هذا الجهد عن انضمام الصين إلى معاهدة آسيان للصداقة والتعاون (TAC) سنة 2003، وصارت الصين عضوًا في مجتمع آسيان المتوسّع. تُمثّل اتفاقية التجارة بين آسيان والصين الموّقعة سنة 2002 إنجازًا آخر لخيار المشاركة والانخراط الجماعي.
ثانيًا: تتّبع آسيان إستراتيجية التجاوز التّي تهدف إلى جذب الصين إلى مؤسّسةٍ متعدّدةِ الأطراف، تسعى بلدان آسيان إلى تثبيت الصين وتقييدها عبر خلق توقّعاتٍ والتزاماتٍ من خلال جلبها إلى منظمةٍ إقليميةٍ متعدّدة الأطراف. أكثر القضايا الحديثة هي مسألة ”إيقاع الصين في شرك” المنتدى الاقليمي لآسيان المعروف اختصارًا بــ (ARF). لقد أظهرت الصين في البداية موقفًا غير مريحٍ حين بدأ المنتدى، ولكنّها اعترفت بشكلٍ تدريجيٍ بمعنى وجود الــ ARF في التعاون الأمني لشرق آسيا، وصارت –بعدها- مشاركًا نشطًا فيه .
ثالثًا: تحاول بلدان آسيا خلق معاييرٍ اقليميةٍ وتوثيق ربط الصين بها. تتابع معايير دول آسيان أساسًا مبادئ ويستفاليا الداعية إلى الاستقلال، المعاملة بالمثل، المساواة وعدم التدّخل، وتحاول تضمين هذه المعايير والمبادئ داخل العلاقات البينية الاقليمية. تتضّح بشكلٍ جليٍّ هذه الجهود في تعامل دول آسيان مع الخلافات البحرية في بحر الصين الجنوبي. في سنة 2002 وقّعت آسيان والصين إعلانًا حول تعامل الأطراف في بحر الصين الجنوبي وأقدمت على خطوة ٍأولى باتجاه خلق معايير تستبعد العنف من أجل حلّ النزاع. مطالب دول آسيان واحدة، فهي تسعى بالدفع القوي إلى مزيدٍ من تقييد قانون بحر الصين الجنوبي الخاصّ بطريقة التعامل معه والتصرّف فيه بهدف تخفيض حدّة التوتّرات والسلوك الصيني الحازم في الاقليم.
ب. إندونيسيا:
تتمثّل استجابة إندونيسيا في متابعة استراتيجية الحِيطة المتكوّنة من المشاركة، الاستعاب والتوازن الناعم. بالرغم من أنّ لها موقفًا سابقًا مشكّكًا في الحقّ الصيني بعد حقبة الحرب الباردة، فقد شرعت إندونيسيا في اتبّاع سياسة الانخراط الاستعابية النشطة بعدما حصلت على المساعدة من الصين في العديد من الأزمات السياسية والاقتصادية خلال العقدين الأخيرين، تعاملاً مع التحدّي القاسي للعصيان الشامل سنة 1998، والأزمة المالية الآسيوية سنة 1997، وكارثة تسونامي سنة 2004. أظهرت الصين سياسة ”حسن الجوار” و ”دبلوماسيةً فاتنةً” مع دعمٍ وتعاونٍ معتبريْن، كما نجحت بشكلٍ تدريجيٍ في الفوز بقلب جاكرتا. بعد فترةٍ كهذه من “كسر الجليد”، عمّقت إندونيسيا بسرعةٍ روابطها الثنائية مع الصين وعزّزتها. في سنة 2002، حظرت الحكومة الاندونيسية المسيرة العامّة للفلونغ كونغ (Falung Gong) ، وهي جماعةٌ دينيةٍ محظورةٍ في الصين. في سنة 2003 وفي ظلّ الحظر الأمريكي للمبيعات العسكرية، ناقش مسؤولو الدفاع الإندونيسيين الرسميين تجارة الأسلحة مع الصين بحثًا عن خيارٍ بديلٍ لمشتريات السلاح. في سنة 2005، اتّفق البلدان على رفع مستوى العلاقات الثنائية بينهما إلى مستوى ”الشراكة الاستراتيجية”، وكسرَا صفقة مقايضةٍ العملات. زيادة على ذلك، اتّفقت كلٌّ من إندونيسيا والصين سنة 2011 على بداية الاشتراك في انتاج الأسلحة.
إلاّ أنّ جاكرتا لم تركّز مواردها تمامًا على خياريْ ”المشاركة والاستعاب”، إنّها تسعى بحذرٍ لتوازنٍ ناعمٍ أيضًا. لا يزال للقادة الاندونيسيّين شكاوى ومخاوف من جارهم العملاق. إنّ إدراك الخوف هذا له مصدرين اثنين، أولاً: لجاكرتا قلقٌ كبيرٌ بخصوص الارتباط المُمكن بين الأقليّة الصينية الداخلية باندونيسيا. ثانيًا: تحت وقع الخلافات الاقليمية الجارية حول جزيرة ناتونا في بحر الصين الجنوبي (Natuna)، فقد حصل تنامي للجرأة الصينية والسياسة العدوانية تجاه الخلافات البحرية. إندونيسيا مرتبكةٌ قلقةٌ بخصوص المستقبل اللايقيني لآسيا بوجود صينٍ قويّة. للاحتياط من المستقبل اللامتيقن فيه، استجابت جاكرتا بشكلٍ إيجابيٍ لمشاركة الولايات المتحدة وانخراطها ضدّ النفوذ الصيني كقوةٍ موازنةٍ قادمةٍ من خارج المجال. إبتداءً من التعاون مع إدارة بوش بخصوص الحرب على الإرهاب، أظهرت العلاقات الأمريكية الإندونيسية تطوّرًا كبيرًا بعد انتخاب الرئيس أوباما، ”الرئيس الأول لآسيا –الباسيفيك- أمريكا”، الذّي قضى أيّام طفولته في إندونيسيا. لقد حصلت إندونيسيا على أنظمة رادارٍ بحريةٍ من الولايات المتحدة بقيمة 56 مليون دولار، واتّفق البلدين سنة 2009 لتكون سنة شراكةٍ شاملةٍ بين إندونيسيا والولايات المتحدة. زيادةً على ذلك، رفعت الولايات المتحدة في سنة 2010 حظر استيراد السلاح على إندونيسيا الذّي دام لعقودٍ عديدة.
ج. ماليزيا:
استجابةُ ماليزيا تجاه الصين هي عبارة عن خيارٍ حِيطةٍ ايجابيٍ متضمّن لخيار المشاركة (الانخراط) والاستعاب وحتّى انضمامٍ ضمني. أظهرت السياسة الماليزية منذ مطلع القرن الحادي والعشرين بشكلٍ حيويٍ هدفها في المحافظة على العلاقات الوديّة مع الصين وتطويرها أكثر. فمنذ سنة 2003، قامت الحكومة الماليزية بقمع نشاطات جماعة فالون كونغ في إقليمها. كما تمّ حظر صحيفة إبوك تايمز (Epoch Times) التابعة لهذه الجماعة سنة 2005 بسبب تأثيرها السلبي على العلاقات الثنائية بين ماليزيا والصين. بالإضافة إلى ذلك فقد أصدر نائب رئيس الوزراء السيد نجيب عبد الرزاق تعليماتٍ علنيةٍ للمسؤولين الحكوميّين بعد الزيارة الرسمية لتايوان.
رأى بعض المحلّلين بأنّ في ذلك دلائل على وجود وفاقٍ ودّيٍ ماليزي مع الصين. بالرغم من الخلافات حول بحر الصين الجنوبي، فقد أظهرت ماليزيا موقفًا أكثر قُربًا من الصين مقارنةً ببقيّة المطالبين بحقوقهم هناك كفيتنام والفلبين. يبدو أنّ كوالالمبور تعتبر بأنّ المصادر الأساسية للتهديد الخارجي وأهداف التجهيز الدفاعي هم جيرانها الآخرون بدلاً من الصين، في 2004، خرقت ماليزيا صفقة نقل التكنولوجيا العسكرية من الصين، واتفّقت معها على شراء نظامٍ صاروخيٍ متوسّط المدى. لقد اتّفقت كلٌّ من ماليزيا والصين من قبل أصلاً على تسوية وجهات نظرهما المختلفة حول المسائل الاقليمية المتعلّقة ببحر الصين الجنوبي بطرقٍ سلمية، بل حتّى يُشاع بأنّ البلدين من الممكن أن يتّخذا موقفًا مشتركًا ضدّ بقيّة المُطالبين بحقوقهم هناك. زيادة على ذلك، في سنة 2005 انتقدت الحكومة الماليزية بشكلٍ علنيٍ إعلان الولايات المتحدة واليابان الذّي صوّر الصين باعتبارها تهديدًا محتملاً.
الأسباب الكامنة وراء سياسة ماليزيا هي الجاذبية الصينية وكذا السياسة الداخلية. لقد انبهر الماليزيون بشكلٍ عميقٍ بالثقافة الدبلوماسية الصينية التّي تكبح نفسها من التدخّل في الشؤون الداخلية للبلدان الأخرى، ومن استجابة الصين المسؤولة تجاه البلدان الآسيوية أثناء فترة الأزمة المالية الآسيوية في نهاية التسعينات. بالإضافة إلى ذلك تتوقّع ماليزيا من الصين أن تختبر القوة الأمريكية الجامحة وتُوازنها عبر صياغة نظامٍ دوليٍ متعدّدِ الأقطاب.
تُعتبر الأقليات الاثنية الصينية قوّةً سياسيةً لا يستهان بها، وهي عاملٌ آخر للقادة الماليزيّين يأخذونه بعين الاعتبار حينما يفكّرون مليًّا في سياسة الصين.
د. مينامار (بورما):
مينامار، البلد الذّي يتّم اعتباره مُسايرًا/مُنضمًا واضحًا للصين، شرع مؤخّرًا في توظيف استراتيجية الحِيطة. لقد حظيت مينامار والصين لمدّةٍ طويلةٍ بعلاقاتٍ خاصّة، تمّ تسميتها رسميًا بالعلاقات التقليدية، حُسن الجوار وعلاقات الصداقة، أو علاقات ”الأخوة” حتّى. فنظرًا للحكم الاستبدادي المحليّ للمجلس العسكري، الذّي تمّ معاقبته من طرف قوى غربية كبرى كالولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي، فقد صارت مينامار أقرب إلى الصين. لمينامار قيمةٌ جيوستراتيجيةٌ مهمّة بالنسبة الصين بسبب موقعها الجغرافي بين الصين والهند ولكونها أيضًا تحظى بطريقٍ للوصول إلى المحيط الهندي، لهذه الأسباب صارت الصين حليفًا مُقرّبًا لهذه الدولة المنبوذة ووفرّت دعمًا هائلاً ”لأخيها الصغير”، كما كرّست مينامار نفسها أيضًا في سبيل العلاقات مع الصين. لكن يبدو مؤخّرًا بأنّ هناك بعضًا من الشكوك لعلاماتِ متابعةِ تكتيك الحِيطة بهدف تعويض الاعتماد المُفرط على الصين. لقد كان التعليق المفاجئ لمشروع بناء سدّ الطاقة الكهرومائية المُسمّى بــ مايتسون (Myitsone) سنة 2011 بمثابة المؤشّر الأول لذلك. مُتذرّعةً بالمُعارضة الشعبية للآثار البيئية السلبية لهذا المشروع، علّقت مينامار المشروع بشكلٍ أحاديِ الجانب متسبّبةً في خسائر كبيرة للصين. هذه الحادثة جعلت بيجين تضطر للتشكّك فيما إذا حاولت يانغون إظهار ابتعادها عن الصين وتوجّهها نحو الغرب. إنّ الانفتاح الأخير لميانمار على العالم الخارجي بعد متابعةِ إصلاحٍ سياسيٍ غير مسبوقٍ من شأنه أن يؤكّد شكوك الصين، فما بين سنتيْ 2010 و 2012 قامت ميانمار بتحرير الزعيم الديمقراطي أونغ سان سو كي (Aung Saw Suw Kyi)، كما عقدت لاجراء انتخاباتٍ برلمانيةٍ حرّةٍ ومفتوحة مع الهزيمة الساحقة لحزب المعارضة. استجابةً لهذه التغيّرات، وعدت هيلاري كلينتون بتحسين العلاقات الثنائية مع البلد إذا استمرت الاصلاحات. إضافةً إلى ذلك، أجرى الرئيس المينماري تيان سين (Thein Sein) زيارة دولةٍ للهند في نوفمبر 2011 وناقش مزيدًا من التطوّرات في العلاقات الميانمارية-الهندية. تُظهر هذه السياسات الاقترابية من الولايات المتحدة والهند ميانمار وكأنّها تعيد النظر في التوازن بين القوى الكبرى في سياستها الخارجية.
ك. الفلبين:
تُتابع الفلبين استراتيجية حِيطةٍ تمتزج فيها المشاركة والتوازن الناعم. لقد سعت مانيلا إلى تحسين العلاقات الثنائية مع الصين طيلة العقد الأخير. في سنة 2005، تمّ الاحتفال بمرور 30 سنة على إرساء العلاقات الفلبينية الصينية. أعلن رئيس وزراء الصين وين زياباو (Wen Jiabao) بأنّ البلدين قد بلغا «عصرًا ذهبيًا جديدًا من الشراكة». حاليًا تُعتبر الصين ثالث أكبر شريكٍ تجاريٍ للفلبين، كما أنّ التعاون الاقتصادي الثنائي عبر مجالاتٍ عديدةٍ كالتمويل المشترك للمشروع الزراعي وخطط بناء واسعة النطاق قد نمت بشكلٍ مطرد. لقد تبادل البلدان العديد من الزيارات رفيعة المستوى، وكذا استشاراتٍ أمنيةٍ رسميةٍ سنويةٍ قد تمّ عقدها بين البلدين منذ مطلع القرن الحادي والعشرين. على نحوٍ خاصّ، فإنّ الاحتكاك الدبلوماسي مع الولايات المتحدة الذّي تسبّب فيه الانسحاب المبكّر للفلبين من العراق سنة 2004 جعل من رئيسة الفلبين أرويو (Arroyo) تتحرّك اقترابًا من بيجين، كما أنّ التعاون العسكري بين الفلبين والصين قد تزايد بشكلٍ دراماتيكي.
في غضون ذلك تمّ تنفيذ استراتيجية التوازن الناعم ضدّ الصين. ورغم أنّها لم تجهز لصدماتٍ عسكريةٍ مع الصين، فقد اجتهدت الفلبين على تقوية علاقاتها مع الولايات المتحدة للاحتياط من أيّ أزمةٍ محتملة. إنّ أهم سببٍ للتوازن الضمني ضدّ الصين هو الخلافات البحرية مع الصين حول بحر الصين الجنوبي. ومن خلال الضجّة التّي أثيرت حول شعاب ميشيف (Mischief Reef) سنة 1995 تعلّمت مانيلا درسًا مريرًا وأدركت أنّها لا تزال بحاجةٍ إلى الولايات المتحدة، فقد حدث ابتعادٌ أمريكيٌ عن مانيلا بعد غلق القواعد الأمريكية هناك مطلع التسعينات. صار الحلف العسكري الأمريكي الفلبيني مُعزّزًا عبر اتفاقية القوات الزائرة سنة 1997 واتفاقية الدعم اللوجستي المتبادل سنة 2003، وكذا تعيين الفلبين “كحليفٍ رئيسيٍ خارج دول الناتو” من طرف الولايات المتحدة في نفس العام.
م. سنغافورة:
سنغافورة دولةٌ صغيرةٌ في جنوب شرق آسيا ولكنّها ثريّة، تُوظِّف استراتيجية الحِيطة مع انخراطٍ نشطٍ وتوازنٍ ناعمٍ حذر. تتراوح سياسة الانخراط والمشاركة السنغافورية ما بين القطاع الاقتصادي والقطاع العسكري. باعتبارها مركز إقتصاد آسيا، فقد ظلّت سنغافورة شريكًا تجاريًا مُقرّبًا للصين منذ سنوات الثمانينات، وسعت إلى المشاركة الاقتصادية بحماسة. تُعتبر إتفاقية التجارة الحرّة بين البلدين إحدى أكثر العلامات اللافتة، والتّي كانت أوّل صفقةِ اتفاقيةِ تجارةٍ حرّةٍ شاملةٍ بالنسبة للصين في آسيا تمّ توقيعها سنة 2008. لقد أدّت التنمية الضاربة لهذا البلد إلى تزايد انخراطه العسكري. إستجابةً لمقاربة الصين الحماسية، حسّنت سنغافورة بشكلٍ سريعٍ روابطها العسكرية الثنائية مع الصين. منذ سنة 2008، بدأ البلدان حوارًا دفاعيًا ثنائيًا سنويًا عالي التمثيل، كما اتفّقا على زيادة التبادلات العسكرية والتعاون الأمني. في سنة 2009، عقدت سنغافورة والصين استشاراتٍ مشتركةٍ لمحاربة الإرهاب وأجرت عملياتٍ تدريبيةٍ في الصين. في سنة 2010، تمّ إجراء أوّل مناورةٍ عسكريةٍ مشتركةٍ شارك فيها كلٌّ من جيش التحرير الشعبي الصيني والقوات المسلّحة السنغافورية.
الآن، صارت سياسة الانخراط والمشاركة السنغافورية مرفوقةً بتوازنٍ ناعم. بالرغم من انخراطها النشط مع الصين، إلاّ أنّ سنغافورة عملت على إحداث مسافةٍ بينها وبين الصين وتوازنت ضدّها سياسيًا سنة 2004. وبالرغم من تحذيرات الصين الخاصّة والخلافات الدبلوماسية، إلاّ أنّ رئيس الوزراء السنغافوري لي هِسيان لونغ (Lee Hsien Loong) دفع قُدمًا في زيارته إلى التِبت. بالإضافة إلى ذلك ورغم وجود شدٍّ وجذب في النقاش، سعت سنغافورة إلى عقد صفقةِ تجارةٍ حرّةٍ مع تايوان منذ مطلع القرن الحادي والعشرين. لقد أظهرت سنغافورة بهذه التحرّكات الحيويّة أنّ لها الحقّ السيادي في التحرّك كما تشاء بغضّ النظر عمّا تفكّر فيه الصين. يُعتبر الوجود الأمريكي في آسيا قوّةَ دعمٍ أخرى وأداةً مفيدةً للتوازن. تنظر سنغافورة إلى الولايات المتحدة باعتبارها فاعلَ استقرارٍ كبيرٍ و”وسيطًا نزيهًا” يُحافظ على توازنٍ ملائمٍ في شرق آسيا. لقد وقّعت سنغافورة اتفاقية الاطار الاستراتيجي الذّي سعى لتوسعت التعاون الدفاعي والأمني الثنائي مع الولايات المتحدة سنة 2005، وهي عضوٌ مشاركٌ في تدريبات ”الكوبرا الذهبية”، وهي عبارة عن مناورةٍ عسكريةٍ سنويةٍ تشترك فيها كلٌّ من الولايات المتحدة وتايلاند.
و. تايلاندا:
تُظهر تايلاندا استراتيجية حِيطةٍ نموذجية، تُرفق الانخراط مع الصين بتقوية التحالف مع الولايات المتحدة. تُعتبر تايلاندا مشاركًا نشطًا ومتحمّسًا. ومن خلال النقاشات الثنائية التّي بدأت باقتراح بانكوك، أعلن البلدان البيان المشترك حول خطّة تعاونٍ للقرن الحادي والعشرين وذلك سنة 1999، لقد كانت تايلاندا أوّل شريكٍ للصين وافقَ على مثل هذا الاعلان الثنائي للتعاون في جنوب شرق آسيا. تطوّر هذا الجهد إلى خطّة عملٍ مشتركٍ للتعاون الاستراتيجي بين البلدين سنة 2007، والذّي يتضمّن لا القطاع الاقتصادي فحسب، بل التبادلات الثقافية والتعليمية أيضًا، وكذا حملاتٍ ودورياتٍ لمكافحة المخدرات، والصحّة العامّة وحتّى التعاون العسكري. بالإضافة إلى ذلك، فمنذ 2005 أجرت كلٌّ من تايلاندا والصين العديد من المناورات العسكرية المشتركة ركّزت أساسًا على محاربة الإرهاب وغيره من التهديدات غير التقليدية.
في ذات الوقت وباعتبارها أحد حلفاء أمريكا الرئيسيّين في شرق آسيا، بذلت تايلاندا جهودًا في المحافظة على روابطٍ استراتيجيةٍ مع الولايات المتحدة. تُعتبر تايلاندا مشاركًا أساسيًا في تدريب الكوبرا الذهبي، أكبر المناورات العسكرية السنوية المشتركة بقيادة الولايات المتحدة في آسيا، كما أنّ أغلب أسلحتها المستوردة قادمةٌ من الولايات المتحدة أساسًا. يمكن لذلك أن يؤَوّل على أنّه استعدادٌ لمستقبلٍ لا متيقّنٍ منه. ورغم أنّ لها مسائلاً وخلافاتٍ سياسيةٍ وإقليميةٍ أساسيةٍ مع الصين ولا يزال التهديد المتصوّر بخصوص الأخيرة منخفضًا، فإنّ تايلاندا لا تريد أن تتخلّى عن شريكها الأمني التقليدي، أيْ الصين، وهي سياسةٌ من الممكن أن تكون ضمانًا مفيدًا في يوم من الأيام.
ي. الفيتنام:
تُوظِّف فيتنام أيضًا استراتيجية حِيطةٍ مرفوقةٍ بـخيارِ المشاركة مع الصين وتوازنٍ ناعمٍ ناشئٍ مع قوى كبرى أخرى. بالرغم من خوض كلٍّ من فيتنام والصين حربًا شرسةً من قبل، فقد تمكّن البلدان من تحقيق تحسينٍ سريعٍ لعلاقتهما الثنائية منذ تطبيع الروابط الدبلوماسية سنة 1991، إذْ تحصّلت الفيتنام على مكانةِ أكثر البلدان رعايةً بالنسبة للصين سنة 2002، وصارت الصين أكبر شريكٍ تجاريٍ للفيتنام سنة 2004. إلى جانب التزايد السريع للتفاعلات الاقتصادية بينهما، فإنّ أكثر ملامح الانخراط الفيتنامي تميّزًا هو تقوية العلاقات العسكرية بين البلدين. تتبادل كلٌّ من الفيتنام والصين في كثيرٍ من الأحيان لقاءاتٍ عسكريةٍ رفيعة المستوى منذ سنوات التسعينات، ولأوّل مرّة في التاريخ سنة 2001 قامت الفرقاطة البحرية لجيش التحرير الشعبي الصيني باجراء مكالمةِ ميناءٍ في ميناء خليج كام رانيه الفيتنامي. بالإضافة إلى ذلك، اتّفق وزراء دفاع البلدين على إدارة دورياتٍ مشتركةٍ في خليج تونكين سنة 2005. في ذات الوقت ولموازنة نفوذ القوة الكبرى، اتّجهت هانوي إلى قوى أخرى كالولايات المتحدة وروسيا والهند. لقد كشف قادة الفيتنام بين الفيْنة والأخرى دعمهم للدور التوازني الذّي تلعبه القوات الأمريكية المسلّحة في شرق آسيا، خصوصًا فيما يتعلّق بالخلافات البحرية والاقليمية مع الصين في جزر بارسيل وسبراتلي. في سنة 2003 ولأول مرّةٍ منذ نهاية حرب الفيتنام سمحت هانوي لسفنٍ تابعةٍ للبحرية الأمريكية باجراء مكالمةِ ميناء (A Port Call). فمنذ مطلع الألفية الجديدة صار لكلٌّ من فيتنام والولايات المتحدة علاقات تعاونٍ ثنائيةٍ متقدّمةٍ شملت مسائلاً متعدّدةً كالاحتباس الحراري الكوكبي، وتجارة البشر، وتطوير نهر ميكونغ (Mekong River). بالإضافة إلى التقارب مع الولايات المتحدة، تحصّلت فيتنام مؤخّرًا على غواصّاتٍ وطائراتٍ مقاتلةٍ نفّاثةٍ جديدةٍ من روسيا، كما أنشأت معها مشروع قاعدةٍ جديدة. ضف إلى هذه الجهود، إجراء استشاراتٍ ونقاشاتٍ عسكريةٍ مشتركةٍ مع الهند، والتّي تنامت بدورها منذ مطلع الألفية الجديدة.
- العوامل الكامنة وراء استجابات القوى الثانوية الشرق آسيوية:
1.4. اللايقين الاستراتيجي (Strategic Uncertainty):
العامل الأوّل الأكثر أهميّةً وتأثيرًا في استجابة دول شرق آسيا تجاه الصين هو عامل اللايقين المستمر داخل الإقليم. منذ نهاية الحرب الباردة كان اللايقين الاستراتيجي، المتميّز بانعدام القدرة على التنبؤ والانسيابية بمثابة الملمَح المُميِّز لشرق آسيا.
كان يمكن وصف الصورة الاستراتيجية لشرق آسيا على أنّها فسيفساءٌ متنوّعةٌ من النماذج المتنافسة كنظام الهيمنة، والقوى المتنافسة الأساسية، ونظام التحالف المركزي والكابح، ومحفل القوى، والسيادة المشتركة للقوى، والجماعة المعيارية، والاعتماد المتبادل المُعقّد. حتّى بالرغم من تسليم كلّ فاعلٍ في المنطقة بأنّ صعود الصين يُعتبر حقيقةً غير قابلةٍ للانكار، فإنّ الغالبية لا تتّفق بخصوص النموذج الأفضل وحول نيّة بيجين فيما يخصّ مستقبلهم غير المؤكّد إلى الآن.
إنّ خاصيّة التغيّر المستمر للبيئة الأمنية الاقليمية تحثّ بقوة معظم دول شرق آسيا لتبنّي استراتيجية الحِيطة في مواجهة مستقبلهم غير القابل للتنبؤ. كما أنّه بامكان بلدان شرق آسيا -كغيرها من القوى الصغرى– أن تصير متأرجحةً بسهولةٍ بسبب العوامل النظامية والظروف. فضلاً عن ذلك وباعتبارها قوى ثانوية، فإنّ أغلب دول شرق آسيا تفتقر إلى قدرة ”تحديدٍ نظاميةٍ” أو قدرة تأثيرٍ نظاميةٍ، إذْ لا يمكنها أن تُحسّن بسهولةٍ من وضعيتها موضع الشكّ إلى حالةٍ أكثر استقرارًا. في ظلّ ظروفٍ كهذه، تتشارك دول شرق آسيا مع الصين محاولة التأثير على خارطة طريق هذا العملاق في المستقبل، وتُعِدُّ العديد من الاحتمالات عبر توظيف مزيجٍ من استراتيجية الحِيطة (التحوّط) في الوقت ذاته.
2.4. المشاركة الصينية النشطة (China’s Active Engagement):
هناك عاملٌ مهمٌّ آخر يؤثّر على استجابة بلدان شرق آسيا وهو السياسة الاستعابية للصين تجاه المنطقة، فمنذ نهاية الحرب الباردة كرّست الصين قدرًا كبيرًا من الجهود للحيلولة دون نشوء بيئةٍ خارجيةٍ عدوانيةٍ معرقلةٍ لتطوّرها. ولتهدئة مخاوف دول شرق آسيا بخصوص صعودها السريع، أظهرت الصين باستمرار أنّ بامكانها أن تتصرّف بطريقةٍ ضابطةٍ للنفس مع نوايا حميدة، وقامت عن وعيٍ بتكييف نفسها مع النظام الإقليمي القائم، وحاولت تجنّب المواجهة مع الدول الجيران، كما أعادت طمأنة الآخرين بخصوص ”صعودها السلمي”. لقد أوضح الفهم الجديد للأمن الصيني الذّي أُعلن عنه سنة 1997 بشكلٍ جليٍّ مثل هذه الجهود، وأوضح هذا الفكر الأمني الجديد أربع لاءات: «لا للهيمنة، لا لسياسة القوة، لا لسباق التسلّح، ولا للأحلاف العسكرية.» إضافةً إلى ذلك، استثمرت الصين قدرًا واسعًا من الموارد لتنمية ”قوتّها الناعمة” في شرق آسيا. بشكلٍ أكثر تحديدًا قامت بتعميق روابطها الثنائية السياسية والاقتصادية مع دول المنطقة وصارت مشاركةً بنشاطٍ في المنظّمات والمؤسّسات متعدّدة الأطراف.
يبدو بأنّ جهود الصين الثابتة لتهدئة ومباشرة هجومٍ ساحر قد حقّقت نجاحًا في رسم بعض الاستجابات الايجابية من قِبل جيرانها الشرق آسيويين:
أوّلاً: أدّت استراتيجية المشاركة النشطة للصين بالعديد من دول شرق آسيا لتجنّب اتّباع سياسة توازنٍ صلبٍ ضد الصين، لقد قامت بتخفيف حدّة إدراك التهديد عند هذه الدول وأقنعتهم بنجاحٍ بعدم وجود أيّ حاجةٍ للسعي إلى تدابير توازنٍ على نطاقٍ واسعٍ ستتطلّب تكاليفًا وجهودًا كبيرة .
ثانيًا: إنّ جهودًا صينيةً مُماثلةً من شأنها أن تدعو لمشاركة بلدان شرق آسيا مع الصين وتشجّع على ذلك. لقد فتحت سياسة المشاركة النشطة للصين ”نافذةَ فرصٍ” أوسع لبلدان الجوار بهدف الانخراط مع الصين عبر إقامة نقاط تواصلٍ سياسية واقتصادية واجتماعية. فضلاً عن ذلك، فإنّ إظهار الصداقة والمسؤولية عبر المشاركة من شأنه أن يجعل دول شرق آسيا تُؤمن بأنّ مشاركتها تُنتج مخرجاتٍ إيجابية. في ما له صلةٌ بذلك، فقد أدّى هذا الأمر إلى معرفة التأثيرات والمخرجات الايجابية فيما يتعلّق بـالمشاركات الثنائية ومتعدّدة الأطراف مع الصين.
3.4. السياسة الأمريكية تجاه شرق آسيا (US Policy toward East Asia):
تؤثّر سياسة الولايات المتحدّة، القوة العظمى المهيمنة الأخرى هناك، بشكلٍ كبيرٍ على استجابة دول شرق آسيا تجاه الصين. أولاً: إنّ وجود الولايات المتحدة في المنطقة يوفّر بديلاً جذّابًا وموثوقًا للتوازن. تلتزم الولايات المتحدة حاليًا بأربعة أحلاف رسمية (مع اليابان، وكوريا الجنوبية، وتايلاندا، والفلبين) وبعلاقةٍ حمائيةٍ واحدة (مع تايوان) في شرق آسيا. هذه الاصطفافات الجاهزة أُنشأت في البداية لأجل الاستجابة للكتلة الاشتراكية أثناء الحرب الباردة، لذلك فهي لا تُعبّر بالضرورة عن عدوانيةٍ ما تجاه الصين. إنّها أداةٌ مفيدةٌ للتوازن الناعم، كاستراتيجية غير استفزازيةٍ لتوازن القوة. إضافةً إلى ذلك، بامكانها أن تتحوّل إلى أداة توازنٍ مضادٍ مباشرٍ في أيّ وقتٍ شعر فيه أحد حلفاء الولايات المتحدة بشكلٍ كبيرٍ أنّه مُهدّدٌ من طرف الصين. تُعتبر الولايات المتحدة إذًا خيارًا مناسبًا للتوازن الناعم، ليس فقط بالنسبة للحلفاء، بل للدول غير الحليفة في شرق آسيا أيضًا. كانت الصين مُدركةً دومًا لقوة الولايات المتحدة في المنطقة، فقد تابعت الولايات المتحدة استراتيجية مشاركةٍ سياسةٍ دبلوماسيةٍ نشطةٍ في شرق آسيا. في ظلّ هذه الظروف وببساطة فإنّ تحسين العلاقات مع الولايات المتحدة يمكن أن يكون بمثابة إشارةٍ مهمّةٍ بالنسبة للصين. ثانيًا: تُعتبر سياسة الولايات المتحدة تجاه الصين عاملاً مهمًّا يقف وراء استراتيجية الحِيطة المتّبعة من طرف دول شرق آسياـ مثلما ذُكر سابقًا، تحافظ معظم بلدان شرق آسيا أو تتبنّى مقاربةً مُوحدّةً تجاه الصين بشكلٍ جدّي. في الحقيقة يتعلّق الأمر لا بالقوى الثانوية في شرق آسيا فحسب، بل إنّ الولايات المتحدة أظهرت أيضًا بشكلٍ مُماثلٍ موقفًا غامضًا في العقدين الأخيرين. مع أنّها لم تُشر صراحةً إلى كلمة ”الحِيطة” (Hedging)، فإنّ الولايات المتحدة أظهرت موقفًا وسياساتٍ متردّدةٍ تجاه الصين. عبر ممارسة استراتيجية مشاركةٍ مفعمةٍ بالحيوية مع الصين، تُراقب الولايات المتحدة بقلقٍ صعود الصين أيضًا وتُجهّز نفسها لمواجهاتٍ ممكنةٍ في المنطقة. إذا كانت السياسة الأمريكية تجاه الصين تنحو نحو خطٍّ حادٍّ مثلما فعلت زمن الاحتواء ضدّ الاتحاد السوفياتي، فإنّها تكون قد ضيّعت مجموعةً من الخيارات السياسية على دولٍ في شرق آسيا. يجب على حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة أن يتبّعوا على الأقل خطّ السياسة الأمريكية. مع ذلك فإنّ موقف الولايات المتحدة الآن لا يزال منقسمًا إلى رأيين، الأمر الذّي يترك مساحةً كافيةً للعمل مع الدول المجاورة. يقود تردّد المقاربة الأمريكية هذا مباشرةً إلى تبنّي سياسة توازنٍ ناعم وليس صلب، باعتبارها خيارًا أكثر جاذبيةٍ لبقية الدول الصغيرة نظرًا لتفضيل الولايات المتحدة سياسة الحِيطة على سياسة التوازن أو الاحتواء تجاه الصين.
الشكل رقم 2: نسبة التجارة مع الصين في المجمل، دولة بدولة
المصدر: إدارة إحصاءات التجارة (DOTS)، صندوق النقد الدولي
4.4. الاعتماد الاقتصادي:
يُعتبر الاعتماد الإقتصادي مُحدّدًا مهمًّا آخر لاستجابة دول شرق آسيا تجاه الصين. فمنذ عملية الاصلاح والانفتاح التّي باشرتها سنة 1979 بفضل حجم سوقها الواسع والاستعداد الهائل للنمو، تمكّنت الصين من جذب بلدان الجوار للحصول على فوائدٍ من التفاعلات الاقتصادية مع اقتصادها. في الحقيقة، أفادت المشاركة الاقتصادية بشكلٍ كبيرٍ كلاًّ من الصين وشركائها كما أنّ مخرجات “رابح -رابح” كهذه لها دورٌ كبيرٌ في إعادة تقوية الروابط الاقتصادية.
إلاّ أنّ دول شرق آسيا بدأت مؤخّرًا تجد نفسها “مرتهنةً” للعلاقات الاقتصادية مع الصين، فمثلما يُوضّح الجدول رقم 2، فإنّ هناك اعتمادًا تجاريًا لبلدان شرق آسيا على الصين. هذا معيارٌ عامٌ يدلّ على درجة الاعتماد الاقتصادي بين البلدان، والذّي يتنامى بشكلٍ سريعٍ وهائل. لقد خلّف الاعتماد الاقتصادي المتنامي على الصين انكشافًا وحساسيةً في صنع السياسة الخارجية لدول شرق آسيا من خلال زيادة تكلفة فرصة تبنّي استراتيجية التوازن. إذا ما استعدى هؤلاء الصين، فمن الممكن أن يتكبّدوا خسارة ”بقرةٍ حلوبٍ” كبيرةٍ والتّي طالما وفّرت لهم مزايا اقتصادية هائلة. ونظرًا للاختلاف الكبير في حجم الاقتصاد، فإنّ اعتماد وحساسيّة كهذه تُعتبر غير تماثليةٍ تمامًا. في الوقت الذّي يرتكز فيه قدرٌ كبيرٌ من التفاعل الاقتصادي لدول شرق آسيا على الصين، فإنّ تبادلات الاقتصاد الصيني تُعتبر شاملةً وأكثر تنوّعًا مقارنةً بشراكاتها المجاورة. يُشجّع الانكشاف الذّي يتسبّب فيه الاعتماد الاقتصادي اللاتماثلي العديد من دول الجوار على تجنّب التوازن الصلب والصريح ضدّ الصين.
5.4. الخلافات الاقليمية (Territorial Disputes):
يُعتبر الخلاف الاقليمي للصين مع عددٍ من بلدان شرق آسيا، عاملاً أساسيًا آخر يؤثّر في الخيارات الاستراتيجية لهذه البلدان ويدفعها لتوظيف استراتيجية التوازن الناعم. في الوقت الراهن، تعيش الصين نزاعاتٍ مريرةٍ مع اليابان حول جزر سِينْكَاكُو/دْيَايُو في بحر الصين الشرقي. إضافة إلى ذلك، فإنّها تعالج خلافاتٍ غير قابلةٍ للتسوية مع فيتنام وماليزيا والفلبين حول جزر بَرَاسِيل وسبْرَاتْلِي في بحر الصين الجنوبي. رغم سعي الصين إلى متابعة سياسةٍ خارجيةٍ حذرةٍ تجاه بلدان الجوار بهدف طمأنة إدراكهم بالتهديد، فإنّ مسألة الأقاليم المتنازع حولها تُعتبر الاستثناء الأساسي في ذلك. فبسبب رغبتها النهمة للموارد الطبيعية ونزعتها القومية الشرسة داخل الصين وخارجها، فإن بيجين لا تُظهر دومًا مقاربةً حكيمةً حينما تتعامل مع القضايا الاقليمية.
السياسة العدوانية للصين تجاه الاقليم المتنازع عليه والتّي غالبًا ما تمّ تسليط الضوء عليها من خلال العديد من الأحداث غير السارّة، كاحتكاك سفينة صيدٍ صينيةٍ مع دورية خفر سواحلٍ يابانيةٍ سنة 2010 تسبّبت في تكثيف إدراك التهديد عند الدول المعنية المتورّطة في الخلاف. باستثناء ماليزيا، فإنّ جميع البلدان صاحبة المطالب في بحر الصين الجنوبي والمتورّطة في خلافاتٍ اقليميةٍ وبحريةٍ مع الصين تُظهر علاقاتٍ مقرّبةٍ مع واشنطن سعيًا منها لتوفير قوة احتياطية داعمة تُمكّنها من التوازن ضدّ الاصرار الصيني. رغم افتقارها لتأثيرٍ دبلوماسيٍ فعّالٍ وقدرةٍ عسكريةٍ لمواجهة الصين مباشرةً، فبامكان هذه الدول أن تُزعج بشكلٍ كافٍ الصين وتردعها عبر المشاركة والانخراط مع الولايات المتحدة. ملاحظات كاتبة الدولة للخارجية هيلاري كلينتون سنة 2011 وحثّها لبلوغ تسويةٍ سلميةٍ لخلافات بحر الصين الجنوبي تُعتبر إحدى مخرجات محاولاتٍ كهذه.
خـــــــاتــمــة:
تكشف هذه الورقة استجابات القوى الثانوية في شرق آسيا تجاه صعود الصين. ترى التحليلات الواردة في هذه الورقة أنّه وبالرغم من بعض المتغيرات فإنّ هناك ثلاثة أنماطٍ شاملةٍ في استراتيجيات دول شرق آسيا تجاه الصين. المَلمحُ الأكثر ملاحظةً والمتواجد في كلّ الحالات هو توظيف الدول الاقليمية لاستراتيجية الحِيطة (التحوّط) عبر التوفيق بين خياراتٍ سياسيةٍ متعدّدةٍ للتعامل مع الصعود الصيني. في الوقت الذّي تحتاط فيه ضدّ مستقبلها اللامتيّقن فيه، تُسلّم أغلب دول شرق آسيا بالمكانة المتصاعدة للصين في المنطقة وتتشارك مع جارها. رغم هذه الجهود، تحاول دول شرق آسيا التأثير على طريقة تفكير بيجين وسلوكها في الوقت الذّي تستغّل فيه النمو السياسي والاقتصادي للصين في صالحها. لذلك، من الصعب إيجاد ملامح تسلّحٍ واصطفافٍ توازنيٍ مضادٍ في مواجهة الصين، إلاّ أنّ مباشرة تكتيكِ التوازن الناعم مع تدابيرٍ منخفضةِ الكثافة لهو أمرٌ مأخوذٌ بعين الاعتبار بين العديد من القوى الثانوية مع وجود مخاوفٍ متناميةٍ بخصوص نيّة بيجين المُحتملة للهيمنة.
من بين العديد من العوامل المسبّبة للتغيّرات الديناميكية وإعادة الاصطفاف في شرق آسيا، فإنّ المحدّدات الخمس الأساسية التالية تؤثّر بالأخصّ على استراتيجية القوة الثانوية تجاه الصين: أولاً، اللايقين الاستراتيجي المستمر في الاقليم يطرح تحدّياتٍ جدّيةٍ لهذه لدول، وبالتالي يقودها بقوةٍ إلى البحث عن سياسة حِيطةٍ أكثر تنوّعًا. ثانيًا، نجحت سياسة المشاركة الصينية النشطة تجاه شرق آسيا في تهدئة مدركات التهديد لدى دول الجوار الصغيرة وجذَبَتها نحو تبنّي استراتيجية استعابٍ ومشاركة. ثالثًا، عبر توفير بدائل للدول الصغيرة مع موقفها المتردّد تجاه الصين، فإنّ لسياسة الولايات المتحدة في شرق آسيا تأثيرًا كبيرًا على استجابة القوى الصغرى تجاه الصين. كما أنّ الاعتماد الاقتصادي الثنائي على الصين يدفع –رابعا– العديد من بلدان شرق آسيا إلى تجنّب التوازن الصريح ضدّ الصين. أخــيـرًا، فإنّ الخلافات الاقليمية في بحر الصين الشرقي والجنوبي تجعل الدول صاحبة الادّعاءات هناك تتوّرط في النزاع حتّى تدرك التهديد الكبير القادم من الصين وبالتالي تجعلها أكثر قربًا لتبنّي استراتيجية التوازن.
تشير هذه النتائج إلى الآثار التالية على منطقة شرق آسيا. أولاً، من المرجّح أن تحافظ القوى الثانوية المُشار إليها أعلاه على استراتيجيات الحِيطة في المستقبل المنظور على الرغم من إمكانية حدوث بعض التغيّرات على التركيبة الخاصّة لسياساتها. إنّ العوامل الأساسية كالظروف الاقليمية الأخرى المتغيّرة باستمرار واستراتيجية الحِيطة الأمريكية تجاه الصين، كلّها تُحفّز هذه الدول على اختيار استراتيجية الحِيطة أيضًا بدلاً من بقيّة الاستراتيجيات. ثانيًا، إنّ المشاركة الصينية في المنطقة والاعتماد الاقتصادي للقوى الصغرى على الصين تتزايد بدرجةٍ عالية، من المرجّح أن تعزّز هذه النزعة تبنّي استراتيجيات المشاركة والإستعاب بالنسبة للعديد من البلدان الثانوية بدلاً من تبني استراتيجية التوازن. ثالثًا، من الممكن أن تؤثّر سياسة الارتكاز الأمريكية المتبنّاة من طرف إدارة أوباما بشكلٍ كبيرٍ على إعادة اصطفاف الدول الشرق آسيوية. مثلما هو مُوضَّحٌ في الخاتمة، تبذل السياسة الأمريكية جهودًا جبّارةً في الشؤون الاقليمية نظرًا لقوتّها وأثرها السياسي. في الوقت الذّي لم تظهر بعدُ مخرجاتٌ مُحدّدةٌ من سياسة “الارتكاز”، فإنّ العودة الكبيرة للولايات المتحدة مع مشاركةٍ أكثر نشاطًا من الممكن أن تفتح نافذةَ فرصةٍ جديدةٍ للقوى الثانوية الشرق الآسيوية عبر إتاحة شريكٍ دبلوماسيٍ بديلٍ بين أيديها.
اشتغل كأستاذ مُدرّب بكلية الدراسات العسكرية والاستراتيجية التابعة لأكاديمية سلاح جوّ جمهورية كوريا الجنوبية. تخرّج من جامعة برينستون الأمريكية، قسم الشؤون العامة والدولية، كما عمل كأستاذٍ بجامعة جيمس ماديسون، وباحث زائر بمركز ريشور لدراسات شرق آسيا التابع لمدرسة الدراسات الدولية المتقدّمة بجامعة جونز هوبكيز. هذه الورقة البحثية قُدّمت للمؤتمر العالمي الثاني والعشرين للعلوم السياسية المُنظّم من طرف الجمعية الدولية للعلوم السياسية، أيّام 8-12 من شهر يوليو لسنة 2012، بمدينة مدريد-إسبانيا. العنوان الأصلي للدراسة:
Jeongseok Lee, Hedging Against Uncertain Future: The Response of East Asian Secondary Powers to Rising China, IPSA AISP, July 8-12, 2012, Madrid-Spain.
باحث رئيسي بمركز دراسات الإسلام والشؤون العالمية (CIGA) التابع لجامعة إسطنبول صباح الدّين زعيم بتركيا. تهتّم أعماله البحثية بمجال الجيوبوليتيك، نظريات العلاقات الدولية، سياسات القوى العظمى، جيوبولتيك أوراسيا وبحر الصين الجنوبي وشمال إفريقيا، السياسة الخارجية التركية والسياسة الخارجية الجزائرية. له العديد من الكتب والدراسات والترجمات والملخصّات الأكاديمية المنشورة بمجلاّت محكّمة ومراكز أبحاث عربية وأجنبية، منها كتاب “النظام الدولي الليبرالي: جون ميرشايمر في مواجهة جون آيكينبري، صعودٌ أم سقوط؟” (ترجمة، 2021)، وكتاب “أثر التحوّلات الطارئة في بنية النظام الدولي على التوجّهات الكبرى للسياسة الخارجية التركية” (2017)، وكتاب “آفاق الانتقال الديمقراطي في روسيا” (2015).