بقلم: روبرت كابلان

إعداد وتلخيص: جلال خَشِّيبْ

 

مجلّة الشؤون الخارجية، 4 أكتوبر 2022

  محتويات المقال:

 

      مقدّمة

1. فوضى في أعقابِ الانهيار

2.أرضيةٌ مُهلهلة

3.إستراتيجيةُ البقاء

   خلاصة

يرتكز هذا المقال على أحد آخر كتب الجيبوليتيكي والرحّالة الجغرافي الأمريكي روبرت كابلان، والذّي صدر شهر فبراير 2023 بعنوان: “العقل التراجيدي: الخوف والقدر وعبء القوة”. ينظر كابلان في هذا الكتاب إلى الأزمات الجيبوليتكية العالمية المعاصرة بعدساتِ التاريخ المأساوي للسياسة الدولية في حقبتيْه القديمة والحديثة على حدٍّ سواء. يَعتبر كابلان بأنّ المأساة (التراجيديا) هي جوهر الجيوبولتيك. لا يُثبت التاريخ وحده هذه “الحقيقة”، فما يُعزّزها في نظر كابلان أكثر هي تلك الرحلات التّي خاضها في حياته المهنية كمُراسلِ حربٍ في العديد من بقاع العالم، في أوروبا وحروب البلقان، وفي الشرق الأوسط ومآسيه، وشرق آسيا وأفغانسان وغيرها من بؤر النزاعات الدولية والإقليمية والبينيّة الطائفية. يُوظّف كابلان في “العقل التراجيدي” أعمال مفكريّين تراجيديّين من اليونان القديمة إلى أوروبا الحديثة وفلاسفةٍ ألمان وأدبياتٍ كلاسيكيةٍ الحديثة ليكشف لنا المواضيع الجوهرية للسياسة الدولية، إذْ تتمحور في نظره حول مواضيع النظام والاضطراب والتمرّد وطموحات السُلالات الحاكمة والدول وولاءاتهما والعنف وأخطاء السلطة والقوة. يُحاجج كابلان بأنّ المعضلة العظمى للسياسة الدولية لا تفرضها الحالة التّي يكون بموجبها صنّاع القرار في وضعٍ يختارون فيه بسهولةٍ ووضوح بين بدائل خيّرةٍ وأخرى شريرة، بل حينما تتعارض البدائل الخيّرة الجيّدة وتتنافس ضدّ بعضها البعض، فتكون الخيارات هنا غالبًا أليمةً ومتضاربةً ومحفوفةً بالعواقب.

في مقاله بـ “الفورين أفيرز”، يُسلّط كابلان الضوء على ما يُسمّيه بــ “بالجانب المظلم والمأساوي المُصاحب لانهيار الإمبراطوريات والقوى العظمى”، فكثيرًا ما اهتّم باحثو العلاقات الدولية بدور عامل الحروب بين الإمبراطوريات/القوى العظمى في تغيّر النظام الدولي وانتقاله من نمطٍ لآخر، لكنّ الاهتمام بالوضع المأساوي الذّي يُخلّفه انهيار هذه القوى لم يكن محلّ اهتمامٍ أكبر. لذلك، يدعو للتفكير المتبصّر القلق فيما قد يُخلّفه انهيار إحدى القوى العظمى المعاصرة الثلاث: الولايات المتحدة أو روسيا أو الصين، أو جميعها معًا، حيث تُخفي في نظره هذه القوى العظمى الثلاث وراء مظهر القوة الضخم الذّي تحوزه نقاط ضعفٍ وهشاشةٍ أكثر ممّا تبدو عليه، كما يدعو لتخيّل السيناريو المأساوي الأسوء لهذا الانهيار والبناء عليه، لا لشيءٍ إلاّ لتجنّب المأساة العظمى في حدّ ذاتها.

 

فوضى في أعقابِ الانهيار:

يعترف كابلان في بداية المقال بأنّ الحروب تُعدّ نقاطًا تاريخيةً مفصليّة، ويُمكن للحروب غير الشرعية أن تكون مُميتةً حينما تكون بمثابة نقاط ذروةٍ للانحدار القومي على العموم. هذه حقيقةٌ خاصّةٌ بالإمبراطوريات تحديدًا. على سبيل المثال يرى بأنّ إمبراطورية الهابسبورغ التّي حكمت عبر أوروبا الوسطى لمئات السنين، ربّما كان لها أن تبقى رغم عقودٍ من الانحدار لولا الهزيمة التّي مُنيت بها في الحرب العالمية الأولى. ينطبق الأمر ذاته على الإمبراطورية العثمانية، التّي ظلّ يُشار إليها منذ منتصف القرن الـ 19م بعبارة “رجل أوروبا المريض”. ربّما صارعت لعقود، على غرار إمبراطورية الهابسبورغ، بل وحتّى أعادت إصلاح ذاتها، لكن لم يمنع ذلك من أن تكون ضمن الطرف الخاسر في الحرب العالمية الأولى.

إلاّ أنّ كابلان يرى بأنّ الإمبراطوريات تتشكّل من الفوضى، وغالبًا ما يترك الانهيار الإمبراطوري الفوضى في أعقابه. لقد أثبتت أكثر الدول ذات الأحادية الإثنية (المنبثقة عن رماد الإمبراطوريتين الهابسبورغية والعثمانية متعدّدة الإثنيات) غالبًا بأنّها كانت دولاً راديكليةً وغير مستقرّة. يعود ذلك إلى أنّ الجماعات الإثنية والطائفية (التّي كان لها تظلُّمات مُحدّدة تمّ تهدأتها وتخفيف حدّتها تحت حكم المظلّة الإمبراطورية الجامعة) سرعان ما وجدت نفسها منفردةً على نحوٍ مفاجئ فشرعت في التحريض ضدّ بعضها البعض. كان للنازية، والفاشيات عموما، تأثيرٌ على ما يدعوه بـ “الدول القاتلة” (Murderous States) والطوائف التّي سادت في البلقان في الحقبة التّي جاءت ما بعد سقوط إمبراطورتيْ الهابسبورغ والعثمانيّين، كما يرى الكاتب بأنّ المثقفين العرب الذّين درسوا في أوروبا هم الذّين جلبوا هذه الأفكار الفاشية إلى أوطانهم المستقلّة حديثًا ما بعد الحقبة الكولونيالية، حيث ساعدوا مثلاً على تشكيل الإيديولوجيا التدميرية للنزعة البعثية (التّي سادت في الشام والعراق). مع نهاية الحرب العالمية الأولى تكهّن وينستون تشرشل بأنّه لو لم يتّم جرف المَلَكيّات الإمبراطورية -التّي عُرفت آنذاك في ألمانيا والنمسا وغيرها- بعيدًا عن طاولة السلام في فرساي «لَما كان هناك وجودٌ لهتلر» لاحقًا. يُلمّحُ كابلان بذلك إلى أنّ الدوافع الإنتقامية للدول المنتصرة في الحروب الكبرى، والتّي قد تظهر في شكل فرض تسوياتٍ قاسيةٍ منهم على الدول المنهزمة فتُهمّشها بدلاً من أن تحتويها، عادةً ما تُولّد أحقادًا انتقاميةٍ لدى الدول المنهزمة سرعان ما تكشف عنها بمجرّد تعافيها مثلما حدث مع ألمانيا أثناء صعود النازية، فقد ظلّ الزعيم النازي أدولف هتلر يحشد ضدّ الجيران الأوروبيين، لاسيما فرنسا وإنجلترا، مستحضرًا ما سمّاه بـ «معاهدة الخزي والعار» في إشارةٍ منه إلى معاهدة فرساي سنة 1920م التّي فرض بموجبها الحلفاء المنتصرون في الحرب العالمية الأولى على ألمانيا شروطًا قاسيةً ساهمت في توليد الضغينة لدى جيلٍ لاحقٍ من القادة الألمان وفي صعود الحركة النازية في ألمانيا منتصف ثلاثينيّات القرن العشرين.

يُحاجج كابلان بأنّ القرن الـ 20م قد تمّ تشكيله على نحوٍ كبيرٍ بسبب انهيار الإمبراطوريات العائلية في عقوده الأولى، وبسبب الحرب اللاحقة والاضطراب الجيوبوليتيكي الذّي عرفته العقود الأخيرة للقرن. ويرى بأنّ كثيرًا من المثقفين ينظرون إلى طرح الإمبراطورية بعين الاستخفاف، متجاهلين قدرة الانحدار الإمبراطوري على جلب مشكلاتٍ أعظم. على سبيل المثال لا الحصر، لم يجد الشرق الأوسط حتّى الآن سبيلاً لحلٍّ ملائمٍ لانهيار الإمبراطورية العثمانية، مثلما دلّت على ذلك التقلبّات الدموية التّي حلّت به طيلة السنوات المائة الماضية. كلّ ذلك ينبغي أن يبقى ماثلاً في الأذهان عند النظر إلى نقاط ضعف وهشاشة الصين وروسيا والولايات المتحدّة اليوم، قد تكون هذه القوى العظمى أكثر هشاشةً ممّا تبدو عليه.

يُحاجج كابلان بأنّ الاستبصار القلق المطلوب من أجل تجنّب كوارث السياسات (بمعنى القدرة على التفكير على نحوٍ مأساويٍ من أجل تجنّب المأساة) لم يتّم تطويره بشكلٍ كافٍ في بيجين وموسكو وواشنطن، أو لا دليلٌ على وجوده أصلاً. لذلك يرى بأنّ كلاًّ من روسيا والولايات المتحدّة قد أطلقتا حروبًا للتدمير الذاتي: روسيا في أوكرانيا، والولايات المتحدة في أفغانستان والعراق. أمّا بالنسبة للصين، فإنّ هوَسَها بغزو تايوان من شأنه أن يقود إلى التدمير الذاتي أيضًا. لقد أظهرت كلّ القوى العظمى الثلاث في السنوات والعقود الأخيرة بشكلٍ واضحٍ نوباتٍ من التفكير السيّء بشكلٍ غير اعتياديٍ حينما يتعلّق الأمر بمسألة بقائها على المدى البعيد.

في حالة ضعف أيٍّ من القوى العظمى اليوم أو كلّها بشكلٍ دراماتيكي فإنّ ذلك من شأنه أن يؤدّي إلى تزايد حدوث ارتباكٍ واضطرابٍ داخل حدودها وحول العالم أيضًا. من شأن ولاياتٍ متحدّةٍ ضعيفةٍ أو متعثّرة أن تكون أقلّ قدرةٍ على مساندة حلفائها في أوروبا وآسيا. وفي حالة تعرّض نظام الكريملين إلى تمايلٍ بسبب عواملٍ نابعةٍ من الحرب الأوكرانية، فقد يُعرّض ذلك روسيا (التّي تُعتبر أضعف مقارنةً بالصين من الناحية المؤسّساتية) لأن تصير نسخةً “مُخفضّة السعرات الحرارية” من يوغسلافيا السابقة، غير قادرةٍ على السيطرة على أراضيها التاريخية في القوقاز وسيبيريا وشرق آسيا. أمّا في شرق آسيا، فقد يُطلق الاضطراب الاقتصادي أو السياسي في الصين قلاقلاً إقليميةٍ داخل البلد، كما قد يقوّي شوكةَ الهند وكوريا الشمالية الذّيْن تتعرّض سياستهما للتقييد من طرف الصين.

 

أرضيةٌ مُهلهلة:

يتطرّق كابلان في هذا القسم إلى نقاط الضعف والهشاشة التّي تُعانيها القوى العظمى الثلاث المعاصرة: الولايات المتحدة وروسيا والصين، والتّي تجعلها تُواجه مستقبلاً لا يقيني، لا يُستبعد فيه حدوث سيناريو الانهيار أو التفكّك الداخلي كما حدث للامبراطوريات الكبرى عبر التاريخ. إنّه لمن الصحيح بأنّ القوى العظمى المتواجدة اليوم لا تُعتبر إمبراطورياتٍ بالمعنى الحرفي للكلمة، غير أنّ روسيا والصين تقتفيان آثار إرثهما الإمبراطوري، وفقًا للكاتب. تجدُ حرب الكريملين في أوكرانيا جذورها في نَزَعاتٍ قد وُجدت في كلٍّ من الإمبراطوريتيْن الروسية والسوفياتية السابقتيْن. كما أنّ نوايا الصين العدوانية تجاه تايوان تعكس صدى سعي سلالة شينغ (Qing) للهيمنة في آسيا. لم يتّم تعريف الولايات المتحدّة أبدًا كإمبراطورية بشكلٍ رسمي، غير أنّ توسّعها باتجاه الغرب في أمريكا الشمالية وغزواتها في الأراضي الواقعة ما وراء البحار بين الحين والآخر منحت الولايات المتحدة نكهةً إمبراطوريةً في القرن الـ 19م، كما حظيت في حقبة ما بعد الحرب بمستوى معيّن من الهيمنة العالمية لم يُعرف له مثيلٌ إلاّ للإمبراطوريات.

تُواجه القوى العظمى الثلاث اليوم مستقبلاً غير يقيني، لا يُمكن فيه استبعاد احتمال الانهيار أو حدوث درجاتٍ من التفكّك، كما تختلف مجموعة المشاكل بين قوةٍ وأخرى، غير أنّ التحدّيات التّي يُواجهها كلّ بلدٍ لهي تحدّياتٌ أساسيةٌ لوجوده واستمراره كقوة عظمى. تُواجه روسيا مخاطرًا وشيكةً جدًّا مقارنةً بغيرها، فحتّى وإن كانت لها الغلبة في الحرب الأوكرانية فسوف يكون على روسيا أن تواجه الكارثة الاقتصادية حينما تتعرّض للفصل عن إقتصاديات الاتحاد الأوروبي ومجموعة السبع الكبار (G7)، إلاّ إذا تمّ التوصّل إلى سلامٍ أصيل، والذّي لا تبدو ملامحه مُرجّحةً حاليًا. ربّما صارت روسيا فعلاً “الرجل المريض لأوراسيا” مثلما كانت الإمبراطورية العثمانية “الرجل المريض لأوروبا”.

أمّا بالنسبة للصين فإنّ نموّها الاقتصادي السنوي يتباطؤ من رقميْن إلى رقمٍ واحدٍ في المائة، وقد يصل إلى ما دون الواحد قريبًا، حيث عرفت رؤوس الأموال فرارًا من البلد وذلك مع بيع المستثمرين الأجانب ملايينًا عديدة من الدولارات في شكل سنداتٍ وملاييرًا أكثر في شكل أسهمٍ صينية. في ذات الوقت الذّي بلغ فيه إقتصاد الصين مرحلة النضج وتقلّصت الاستثمارات القادمة من الخارج، تعرف الحالة السُكانيّة للصين ارتفاعًا في السنّ وتقلّصًا في حجم القوة العاملة. لا تُبشّر ملامحٌ كهذه باستقرارٍ داخلي في المستقبل. كما يرى كابلان بأنّ الزعيم تشي جينبينغ يتسبّب، من خلال السياسات المعيبة لحزبه، في خنق رخاء الصين، فقد يتسبّب تقويض معدّل المستوى المعيشي للمواطن الصيني في تهديد السلم الاجتماعي والدعم الضمني الذّي يلقاه النظام الشيوعي من الداخل. قد تكون الأنظمة الاستبدادية دومًا في حالة تعفّنٍ من الداخل بينما تُبدي هالةً من السكينة والهدوء في مظهرها الخارجي، على حدّ تعبير الكاتب.

أمّا الولايات المتحدة فهي دولةٌ ديمقراطية ومشاكلها أكثر شفافية، لكن لا يجعل ذلك من مشاكلها بالضرورة أقلّ حدّة. يؤكّد كابلان بأنّ مسار العولمة تسبّب في حدوث انقسامٍ بين الأمريكيّين إلى قسمين متحاربين: أولئك الذّين انجرفوا نحو قيم الحضارة الكوسموبوليتانية العالمية الجديدة، وأولئك الرافضين لها من أجل المحافظة على نزعةٍ قوميةٍ أكثر تديّنًا وتقليديّة. لقد صار المحيطين الهادي والأطلسي بشكلٍ متزايدٍ عاملين أقلّ عزلاً للولايات المتحدة عن بقيّة العالم، وهما الذّان ساعدا طيلة الـ 200 عامٍ الماضية على توفير التماسك المشترك العام للبلد. كما يرى كابلان بأنّ الديمقراطية الأمريكية في الحقبة الرقمية اليوم تُعتبر أقلّ نجاحًا مقارنةً بالماضي، فقد غذّت الابتكارات الرقمية لهذه الحقبة (كوسائل التواصل الاجتماعي) السخط الشعبوي الذّي قاد بدوره إلى صعود دونالد ترامب سابقًا.

بالنظر إلى هذه التحوّلات فمن المرجّح أن تتشكّل إعداداتٌ جديدةٌ للقوة العالمية. يضع كابلان ثلاث سيناريوهات محتملة. في السيناريو الأول قد تنحدر روسيا بشكلٍ حادٍّ بسبب حربها غير الشرعية، وستجد الصين من الصعب عليها جدًّا أن تُحقّق قوةً اقتصاديةٍ وتكنولوجيةٍ مستدامة في ظلّ حكم الحزب الشيوعي الصيني الذّي ينقلب على نحوٍ متزايدٍ إلى تبنّي نزعةٍ لينينيةٍ تقليدية، كما تتجاوز الولايات المتحدة اضطراباتها المحليّة وتعيد الصعود من جديد في نهاية المطاف، كما فعلت فورًا بعد الحرب الباردة كقوة أحاديّة قطبيّة.

يتمثّل السيناريو الثاني في بروز عالمٍ ثنائي القطبية تُحافظ فيه الصين على ديناميكيّتها الاقتصادية حتّى وإن صارت أكثر استبدادًا. هناك إمكانية سيناريو ثالث يتصوّر فيه كابلان حدوث انحدارٍ تدريجيٍ لكلّ القوى الثلاث، يقود الانحدار إلى درجةٍ أعظم من الأناركية/الفوضى في النظام الدولي، مع تنامي تأثير القوى المتوسّطة، خاصّة في الشرق الأوسط وجنوب آسيا، والتّي قد تصير سياساتها الخارجية أقلّ ضبطًا للنفس ممّا هي عليه فعلاً، ولا يكون للدول الأوروبية –في هذا السيناريو- قدرة على الاتفاق حول قضايا كثيرة في غياب قيادةٍ أمريكية قويّة، حتّى حينما تتعرّض القارّة الأوروبية للتهديد على حدودها من قِبل روسيا الفوضوية ما بعد بوتين.

سيعتمد أيّ سيناريو يبرز للساحة إلى حدٍّ كبيرٍ على مخرجات التنافس العسكري. يشهد العالم حاليًا ما يمكن أن ينجم عنه شنّ حربٍ بريّةٍ في أوروبا الشرقية لآفاق روسيا وسمعتها كقوةٍ عظمى. يُجادل الكاتب في هذا الصدد بأنّ أوكرانيا كشفت في هذه الحرب الجارية بأنّ آلة الحرب الروسية تنتمي بوضوحٍ إلى العالم النامي، مع العيوب التّي أظهرتها في آداء الجيش الروسي على أرض المعارك. على غرار الحرب في أوكرانيا، فإنّ صراعًا بالأساطيل البحريّة المتطوّرة والصواريخ وصراعًا سيبرانيًا في تايوان أو بحر الصين الجنوبي أو بحر الصين الشرقي سوف يكون من الأسهل بدؤه لكن من الصعب إنهاؤه. على سبيل المثال، يتساءل الكاتب ما الذّي سيكون الهدف الإستراتيجي للولايات المتحدة بمجرّد أن تبدأ عملياتٍ عسكريةٍ عدوانيةٍ كهذه في الجهة الشرقية: هل سيكون هدفها إنهاء حكم الحزب الشيوعي الصيني في الصين؟ إذا كان الأمر كذلك، فكيف ستستجيب واشنطن للفوضى الناجمة عن ذلك؟ يتأسّف كابلان لعدم وجود إجاباتٍ واضحةٍ عن ذلك بالنسبة لواشنطن، فبالكاد بدأت الولايات المتحدّة التفكير في هذه الأسئلة أصلاً، مضيفًا بأنّ «الحرب في أفغانستان والعراق علمّت واشنطن بأنّ الحرب شبيهةٌ بصندوق باندورا»، الذّي لا يعرف المرؤ بمجرّد فتحه ما الذّي يُخفيه له من شرور.

 

إستراتيجية البقاء:

يستخلص كابلان في هذا القسم من التاريخ بعضًا من «الاستراتيجيات الواقعيّة الذكيّة» التّي اتبّعتها الإمبراطوريات القديمة لتطيل عُمرَ بقائها ما أمكن رغم كلّ التحدّيات التّي واجهتها في الداخل والخارج، وذلك حتّي تكون هذه الاستراتيجيات دروسًا تسترشد بها الولايات المتحدة في هذا العصر حتّى تطيل بقاءها وقوتّها ما أمكن في ضوء ما تواجهه من تحدّيات جديّة. يُظهر التاريخ بأنْ لا وجود لقوةٍ عظمى تبقى للأبد، هذا صحيح، لكن ينبّه الكاتب إلى ما يراه «أكثر أمثلةِ الصمود إثارةً للاعجاب» عبر التاريخ، وهو مثال الإمبراطورية البيزنطية التّي عمرّت منذ سنة 330م إلى غاية فتح القسطنطنيّة خلال فترة الحملة الصليبية الرابعة سنة 1204م، حيث تمكّنت هذه الإمبراطورية من التعافي والبقاء إلى غاية تاريخ آخر نصرٍ عثمانيٍ سنة 1453م. سيكون الاعجاب مضاعفًا حينما يأخذ المرؤ بعين الاعتبار بأنّ بيزنطة كان لها جغرافيا أكثر صعوبة، وأعداءً أكثر قوة (وبالتالي كان لها انكشافٌ وضعفٌ أكبر) مقارنةً بما كان لروما في الغرب. يقتبس كابلان في حِجاجه من شهادةٍ للمؤرّخ العسكري والباحث في الاستراتيجية العسكرية والعلاقات الدولية، إدوارد لوتواك (Edward Luttwak)، يُوضّح فيها بأنّ بيزنطة «اعتمدت على القوة العسكرية بشكلٍ أقلّ، بينما اعتمدت بشكلٍ أكبر على كافّة أشكال مهارات الاقناع كاستجلاب الحلفاء وثنيْ الأعداء وتحريض الأعداء المحتملين للهجوم على بعضهم البعض». علاوةً على ذلك، يُلاحظ لوتواك أنّه حينما كان البيزنطيون يقاتلون كانوا «أقّل ميلاً لتدمير الأعداء وأكثر ميلاً لاحتوائهم في المقابل، حتّى يحافظ البيزنطيون على قوتّهم في الحالتين، ولأنّهم يدركون أيضًا بأنّ عدّو اليوم بإمكانه أن يصير حليف الغد».

بعبارة أخرى، ليس الأمر متعلّقًا بتجنّب حربٍ كبرى حينما يكون ذلك ممكنًا فحسب، بل أيضًا بمسألة ألاّ يكون الطرف المعنيُّ إيديولوجيًا بشكلٍ مبالغٍ فيه، وبالتالي حتّى يكون قادرًا على اعتبار عدّو اليوم صديقًا ممكنًا في الغد، حتّى وإن كان لهذا «العدو” نظامٌ سياسيٌّ مختلفٌ عن الطرف المعنيّ». يرى كابلان بأنّه لن يكون سهلاً على الولايات المتحدّة القيام بذلك نظرًا لأنّها ترى نفسها قوة ذات رسالةٍ تبشيريةٍ مُلزَمة بنشر الديمقراطية عبر العالم. كان النظام السياسي للبيزنطيّين يحظى بمرونةٍ لا أخلاقية رغم تديّنه الظاهر المزعوم. إنّه لمن الصعب جدًّا بلوغ مقاربةٍ واقعيةٍ في الولايات المتحدة، يرجع ذلك في جزءٍ منه إلى قوة نفاق المؤسّسة الإعلامية. يشير الكاتب هنا إلى وجود تأثيرٍ سلبيٍ لشخصياتٍ مؤثّرةٍ في الإعلام الأمريكي تحثّ واشنطن بشكلٍ متواصل على ترويج الديمقراطية وحقوق الإنسان على المستوى العالمي، بل وفرضها بالقوة في بعض الأحيان حتّى حينما يؤدّي القيام بذلك إلى الاضرار بالمصالح الجيوبولتيكية الأمريكية. إضافةً إلى الإعلام، يشير كابلان إلى عاملٍ معرقلٍ أهمّ، وهو نفوذ مؤسّسة السياسة الخارجية الأمريكية نفسها، فقد أظهر التدخّل العسكري الأمريكي في ليبيا بأنّ هذه المؤسّسة لم تتعلّم بشكلٍ كاملٍ درس انهيار العراق، ودرس أفغانستان أيضًا، البلد الذّي ظلّ إلى ذلك التاريخ عصيًّا على الحلّ. مع ذلك، يرى الكاتب بأنّ الاستجابة المحسوبة نسبيًا لإدارة بايدن تجاه أوكرانيا قد تكون نقطة انعطاف، حيث لم يُقحم القوات الأمريكية في النزاع، كما نصح الأوكرانيّين بشكلٍ غير رسميٍ بعدم توسيع حربهم إلى الأراضي الروسية. في الحقيقة كلّما كانت الولايات المتحدة في مقاربتها أقلّ تبشيرية، كلّما صار من المرجّح لها أن تتجنّب حروبًا مدمرّة. طبعًا، لا يجب على الولايات المتحدة أن تنحو منحى الصين الاستبدادية، التّي لا تُقدّم دروسًا أخلاقية لحكومات ومجتمعاتٍ أخرى، وتتعامل بسرورٍ مع الأنظمة ذات القيم المختلفة عن قيم بيجين حينما يمنح ذلك الصين ميزةً إقتصاديةً وجيوبوليتيكيةً ما.

قد يكون تبنّي واشنطن لسياسةٍ خارجيةٍ أكثر كبحًا وضبطًا للنفس بمثابة الوصفة المناسبة لبقاء القوة الأمريكية لأمدٍ أطول (A more restrained U.S. foreign policy). للوهلة الأولى قد تبدو إستراتيجية “التوازن خارج المجال” “Offshore balancing” (الإسم الآخر لمقاربة الكبح وضبط النفس) بمثابة الاستراتيجية المُرشدة لواشنطن، مثلما شرح ذلك كلٌّ من عالما السياسة جون ميرشايمر وستيفن وولت في مقالٍ لهما بمجلة الشؤون الخارجية سنة 2016 قائليْن: «بدلاً من حراسة العالم وممارسة دور الشرطي، على الولايات المتحدّة أن تُشجّع بقيّة البلدان لأن تتولّى زمام القيادة في مراقبة القوى الصاعدة، وأن لا تتدخّل واشنطن إلاّ حينما يكون الأمر ضروريًا». تكمن مشكلة هذه المقاربة، وفقًا لكابلان، في تجاهلها لبعض مزايا العالم الجديد، فقد صار العالم أكثر إنسيابيةً وارتباطًا ببعضه البعض على نحوٍ كبير، حيث أنّ هجرة الأزمات التّي تحدثُ في قسمٍ من هذا العالم إلى أقسامٍ أخرى، قد يجعل مقاربة الكبح مقاربةً غير عمليّة. ببساطة، ربّما تُعدُّ مقاربة التوازن خارج المجال مقاربةً تقييديّةً ميكانيكية. يُلمّح كابلان هنا إلى وجود ترادفٍ نسبيٍ بين مقاربة الكبح والنزعة الانعزالية، (وهو ما ينفيه دعاة الكبح مرارًا)، حينما يشير إلى أنّ النزعة الانعزالية عرفت ازدهارًا في عصرٍ كانت فيه السفن هي السبيل الوحيد لعبور المحيط الأطلسي، مستغرقةً أيّامًا للقيام بذلك. أمّا في الوقت الحاضر فقد يؤدّي اتّباعُ سياسةِ كبحٍ مُعلنةٍ إلى الضعف واللايقين فحسب.

يخلصُ روبرت كابلان في هذا المقال إلى تأكيده على أنّ المبدأ الأساسي الذّي ينبغي أن نأخذه بعين الاعتبار هو مبدأ التفكير بشكلٍ دائمٍ على نحوٍ مأساوي: بمعنى التفكير في سيناريو الحالة الأسوء لأيّ أزمة، في الوقت الذّي لا نسمح فيه لأنفسنا بالشلل والاتجاه نحو التقاعس العام، يُعدّ هذا النمط من التفكير فنًّا وحدسًا ذكيًّا أكثر من كونه عِلمًا، هذه هي الطريقة التّي مكّنت القوى العظمى من البقاء بشكلٍ مستمر، وستُمكّن الولايات المتحدّة أيضًا من البقاء إذا اتبعتّها، خاصّةً وأنّ «القدر كتب –للأسف- على الولايات المتحدة أن تكون متورّطةً في أزماتٍ خارجية سيتطلّب التعامل مع بعضها مُكوّنًا عسكريًا»، مثلما يقول. لا يستبعد كابلان في الأخير احتمالية أن تنتهي الإمبراطوريات بشكلٍ مفاجئ، لكنّ حينما يحدث ذلك ستعّم الفوضى ويسود عدم الاستقرار. كما يُضيف قائلاً أنّه: «من المرجّح أن يكون الأمر متأخّرًا جدًّا بالنسبة لروسيا لتتجنّب هذا القدر، قد تتجنّبه الصين لكن سيكون ذلك أمرًا صعبًا عليها. أمّا الولايات المتحدة فلا تزال الطرف الأفضل تموضُعًا بين القوى الثلاث.. لكن كلّما انتظرت واشنطن مُطوّلاً لتتبنّى تحوّلاً أكثر تراجيديةٍ وواقعيةٍ في مقاربتها، كلّما واجهت احتمالاتٍ أسوء. إنّ إستراتيجيةً كبرى قائمة على حدودٍ وقيودٍ لتُعدُّ أمرًا حاسمًا. دعونا نأمل بأنّها بدأت الآن مع سياسة إدارة بايدن الحربية في أوكرانيا».

روبرت كابلان: أحد أشهر الكتّاب الأمريكيّين المهتمّين بالجيوبولتيك وسياسات القوى العظمى، يشغل حاليًا مقعد روبرت ستراوس-هوبي للجيوبولتيك بمعهد بحوث السياسة الخارجية بالولايات المتحدة. يُعرف كابلان بميولاته للمدرسة الواقعية، صنفتّه مجلة الفورين بوليسي الأمريكية لمرتين ضمن قائمة المفكرين المئة الأكثر تأثيرًا في العالم، عمل كباحث أساسي في مركز الأمن الأمريكي الجديد ومستشارًا لدى مجموعة أوراسيا للأبحاث. شغل من قبل منصب رئيس مجلس الأمن القومي الأمريكي في الأكاديمية البحرية الأمريكية، وأيضًا عضوًا في مجلس الدفاع لدى البنتاغون وغيرها من المؤسّسات. لكابلان مجموعة متميّزة من الكتب في الجيوبوليتيك أشهرها “الفوضى القادمة: تحطيم أحلام ما بعد الحرب الباردة”، “إنتقام الجغرافيا: ماذا يُمكن للخرائط أن تخبرنا به عن النزاعات القادمة والمعركة في مواجهة المصير”، “غليان آسيا: بحر الصين الجنوبي ونهاية الباسيفيك المستقر” وغيرها. يصدر له هذا الصيف (2023) كتابٌ جديد بعنوان: “ضياع الوقت: بين الإمبراطورية والفوضى، من البحر المتوسّط إلى الصين”.

الموقع الرسمي للباحث:

https://www.robertdkaplan.com

جلال خَشِّيبْ: باحث رئيسي بمركز دراسات الإسلام والشؤون العالمية (CIGA) التابع لجامعة إسطنبول صباح الدّين زعيم بتركيا. تهتّم أعماله البحثية بمجال الجيوبوليتيك، نظريات العلاقات الدولية، سياسات القوى العظمى، جيوبولتيك أوراسيا وبحر الصين الجنوبي وشمال افريقيا، السياسة الخارجية التركية والسياسة الخارجية الجزائرية. له العديد من الكتب والدراسات والترجمات والملخصّات الأكاديمية المنشورة، منها كتاب “النظام الدولي الليبرالي: جون ميرشايمر في مواجهة جون آيكينبري، صعودٌ أم سقوط؟” (2021)، وكتاب “أثر التحوّلات الطارئة في بنية النظام الدولي على التوجّهات الكبرى للسياسة الخارجية التركية” (2017)، وكتاب “آفاق الانتقال الديمقراطي في روسيا” (2015).

صفحة الباحث بموقع أصوات نقدية- مركز دراسات الإسلام والشؤون العالمية CIGA:

https://cigacriticalvoices.com/index.php/ar/djalel-ar/

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *