بقلم: فَلِيري هَانْسِينْ

إعداد وتلخيص: جلال خَشِّيبْ

مراجعات كتب/ سبتمبر 2023

الكلمات المفتاحيّة: “النظام الجِنكيزي” القديم، النظام الويستفالي، الشرق والغرب، الأوراسية الجديدة، القوى الصاعدة

 

محتويات المقال:

  1. العوالِم الشرقية التّي صنعها جنكيز خان
  2. الفعاليّة المحدودة للنظام الجنكيزي
  3. شبحُ جِنكيز خان والنزعة الأوراسية الصاعدة

 

يُناقش المقال الكتاب الجديد للباحثة (التركية-الأمريكية) عائشة زَرَاكُولْ، “ما قبل الغرب: نشوء أنظمة شرق العالم وسقوطها” (منشورات جامعة كامبريدج، 2022)، والذّي تتحدّى فيه الرؤية السائدة بين باحثي العلاقات الدولية، تلك التّي تتّخذ من معاهدة ويستفاليا لسنة 1648م منطلقًا لبداية النظام الدولي الحديث. تقع النظرة السائدة في “فخّ” المركزية الأوروبية وتُؤثّر على رؤية الباحثين لكيفية تشكّل العالم الحديث. ترى زراكول بأنّ الصعود المُلفت لقوى غير غربية في شرق العالم اليوم يستدعي النظر في التجارب التّي عرفتها الإمبرطوريات المبكّرة للشرق كالصين والهند واليابان، فمن شأن ذلك أن يقدّم لنا تاريخًا جديدًا للعلاقات الدولية ما وراء النظام الويستفالي.

يكشف كتاب زاراكول السُبل التّي تفاعلت بها الأقسام غير الغربية للعالم مع بعضها البعض في الماضي مُشكّلةً ما يُعرف اليوم بالنظام الدولي. تجعلُ الكاتبة من سنة 1206م بدايةً للتأريخ لنظام العالم الحديث، إنّها السنة التّي بدأ فيها حُكم جِنكيز خان لجميع شعوب السهول الأوراسية. تُركّز زاراكول على ما تُسميّه “النظام الجِنكيزي” كنظامٍ موازي للنظام الويستفالي والذّي دام قرابة 500 سنة وامتّد جغرافيًا على نطاقٍ مُتصّل واسعٍ جدًّا، من الصين إلى المجر على طول القارّة الأوراسية، اعتُبر الأكبر في التاريخ، فقد كان نموذجًا سعى لمحاكاته كلّ الحكّام الذّين جاءوا بعد جنكيز خان وسعوا لحكم العالم فأنشؤوا إمبراطورية المينغ والإمبراطوريات المغولية والصفوية والتيمورية في الدول التّي نُسميّها اليوم تبعًا بالصين والهند وإيران وأوزباكستان، وهي الدول التّي تَعرف حاليًا انتعاشًا وتستحضر إرثها التاريخي أثناء صعودها ومحاولتها إيجاد مكانةٍ دوليةٍ ما.

 

العوالِم الشرقية التّي صنعها جنكيز خان:

يُفصّل القسم الأول من المقال في ماهية “النظام الجنكيزي” وخصائصه ومراحله والتفاعلات الدبلوماسية التّي كانت قائمةً بين فواعله وكياناته السياسية. ظلّ هذا النظام قائمًا قُرابة الـ 500 سنة وعرف ثلاثة مراحلٍ مخلتفة. تشكّلت الفترة الأولى ما بين سنتيْ 1200م-1400م. ضمّت كُلاًّ من الإمبراطورية المنغولية المُوحّدة التّي حُكمت من طرف جنكيز خان ثمّ خلفائه الأربع في الدول المُسمّاة اليوم بالصين وإيران وروسيا وأوكرانيا، كما ضمّت آسيا الوسطى. كان التعايش السلمي بين هذه الأرباع في القرن الـ 14م علامةً على «بداية العلاقات الدولية الحديثة، أين تغلّبت المصلحة العقلانية للدولة على الانتماء العقدي». شملت الفترة الثانية كُلاًّ من الإمبراطورية التيمورية بقيادة تيمورلانك (1336-1405م)، وسلالة مينغ في الصين (1368-1644). بنى تيمور دولته مُتبّعًا نموذج دولة جنكيز خان. أمّا سلالة المينغ فاهتمّت بإلحاق الهزيمة بالخصوم المنغول والأتراك بمن فيهم محاربو تيمور، بل وحاول أباطرتها جعل أنفسهم خلفاءً للامبراطورية البريّة للمنغول وأرسلوا أسطولهم البحري ليصل شرق إفريقيا مُحمّلاً بالكنوز وآلاف الرجال بهدف إظهار قوتّهم للعالم. أمّا الفترة الثالثة فشملت “دول الأُلفيّة” أو كما تُسمى باللغة التركية (Sahibkıran أيْ الدول صاحبة القوة والغلبة والانتصارات، وهي دول المغول والعثمانيّين والصفويّين. لم يكن لحكّام هذه الدول علاقاتُ قَرابةٍ مع المنغول، مع ذلك سعوا –مثل جنكيز خان- لحكم العالم ونجحوا في فتح أراضي واسعةٍ والتّي صارت تُسمّى اليوم بالهند وتركيا وإيران. أنهت زراكول كتابها عند المرحلة التّي بلغت فيها هذه السلالات الثلاث الضُعف قُرابة سنة 1700م.

تقاسمت دول “النظام الجنكيزي” ملامحًا أساسية، فلم تكن تختار حكّامها مثلاً عبر توريث الإبن الأكبر (كما كان سائدًا في أوروبا)، بل عبر “نظام الوريث الظاهر/الرجل الثاني في القيادة” (Tanistry)، وهو نظامٌ مأخوذٌ عن قبائل السِلتيك في الجزر البريطانية، يُقدَّم فيه الشخص الأكثر أهليّةً لحُكم المجموعة بعد وفاة القائد، لكن يتوجّب على الساعي إلى السلطة أن يكون قد خاض صراعاتٍ عنيفةٍ لصالح الجميع وانتصر فيها، وهو ما يمنحه إجماع المحاربين ليكون قائدهم الجديد. إضافةً إلى ذلك، تقاسم حكّام هذه الدول عبر قرونٍ «رؤيةً مُحدّدةً للعالم أجمع» وأنشؤوا وعدلّوا وأعادوا إنتاج «المؤسّسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية» فأنشؤوا نظامًا دبلوماسيًا مُظاهيًا للنظام الويستفالي.

 

الفعاليّة المحدودة للنظام الجِنكيزي:

يتضمّن القسم الثاني نقد الباحثة فاليري هانسين لكتاب زراكول، فمن الصعب، في نظرها، تغطية مدّةٍ زمنيةٍ تصل خمسة قرون، كما تصف كتابها بأنّه يفتقر لموادٍ مهمّةٍ عديدةٍ عن النظام الدبلوماسي الجنكيزي، حيث أغفلت زراكول مرجعيْن مهميّن وَصفا حقيقةَ هذا النظام الدبلوماسي بشكلٍ يتعارض نسبيًا مع مبالغة زراكول المتعلّقة بفعالية نظام حكم المنغول. تمثّل المرجع الأول في الرواية التّي دوّنها راهبٌ إسمه ويليام الروبروكي (نسبةً لمنطقة روبروك بهولندا حاليًا)، جاءت في حوالي 300 صفحة وتُرجمت للإنجليزية سنة 1990. ما بين سنتيْ 1253م-1255م، زار ويليام بلاط “الخان مونغكي”، حفيد جانكيز خان (في مدينة كاراكوروم بمنغوليا حاليًا التّي كانت عاصمة المنغول)، أرسله الملك الفرنسي لويس التاسع كمبشّر، ثمّ لعب دور المبعوث الدبلوماسي هناك. روى ويليام تفاصيلاً عديدةً عن إمبراطورية المنغول، تُظهر روايته كيف عامل المنغول تمامًا الدبلوماسيّين المبتعثين إلى هناك، كما تُظهر بأنّ نظام الحكم لم يكن مرنًا، بل هيراركيًا-تراتبيًا صارمًا ترجع فيه القرارات المتعلّقة بالقضايا الدبلوماسية الدولية إلى الخان الأعظم فحسب، وحينما لا يكون الخان الأعظم مُتاحًا لا يمكن لغيره اتّخاذ القرار بدلاً عنه، وهذا يُخالف “الصورة الوردية” التّي رسمتها زراكول عن فعالية الحكم الجنكيزي. أمّا المرجع الثاني فتمثّل في تجربة الدبلوماسي الإسباني روي غونزالاس دي كلافيجو، الذّي زار تيمورلانك في سمرقند سنة 1404م مُرسَلاً من طرف ملك قشتالة هنري الثاني لإقناع تيمورلانك بتشكيل تحالفٍ معه ضدّ العثمانيّين. يروي دي كيلافيجو بأنّه مكث هناك شهرين فقط، لم يتمكّن خلالها من أخذ ردٍّ من الخان الأعظم بسبب مرضه، إذْ لم يتمكّن القادة المتواجدين حوله من ممارسة أيّة سلطةٍ، كما أنّهم حثّوا المبعوثين الإسبان على العودة لديارهم، بعدها اضطر دي كيلافيجو للهروب من هناك حتّى لا يتّم القبض عليه بعدما نشبت نزاعاتٌ بين القادة الذّين تطلّعوا لحكم إمبراطورية تيمورلانك. تُثبتُ هذين التجربتين، وفقًا لفاليري هانسين، محدودية فعالية النظام الجنكيزي، لقد كان الخان الأعظم هو الشخص الوحيد الذّي بإمكانه أن يُقرّر أيّ شيءٍ ذي صلةٍ بالعلاقات الخارجية، وهو ما يجعل رؤية زراكول غير منسجمةٍ مع هذين التجربتيْن العمليّتين.

 

شبحُ جِنكيز خان والنزعة الأوراسية الصاعدة:

يكشف القسم الأخير راهنية كتاب زراكول، حيث يُساعدنا، لاسيما في قسمه الأخير المتعلّق بالنزعة الأوراسية، على فهم الكيفية التّي صنعت بها مناطقٌ مختلفةٌ من العالم (في شرقه تحديدًا) قبل سنة 1500م عالمنا الحديث، وماذا قد يُخبرنا به هذا التاريخ غير الغربي عن الحاضر والمستقبل، حيث تُحاجج الكاتبة بأنّ فئةً واسعةً من المثقفين والسياسيّين المعاصرين في دولٍ كالصين وروسيا وتركيا وإيران واليابان يؤمنون بوجود أثرٍ بعيد المدى لحكم المنغول على مجتمعاتهم اليوم. فمنذ عشرينيات القرن العشرين، ناقش باحثون روس تأثير حكم المنغول على روسيا الحديثة، بل ودعوا قادتهم إلى الاقتداء بجنكيز خان وتوحيد الروس لأجل بناء إمبراطوريةٍ جديدةٍ تُغطّي مساحة أوروبا وآسيا معًا، أو ما عُرف بالنزعة الأوراسية. تجدّدت هذه النزعة منذ سقوط الشيوعية وحظيت بشعبيةٍ عالية، بل وتمّ مقارنة بوتين بجنكيز خان. هكذا وفي سياق دعم الأوراسية تستحضرُ النخب الروسية الحاكمة تقاليدًا تاريخيةً لا علاقة لها بمعاهدة ويستفاليا ومخرجاتها. «إنّ الأنظمة العالمية التّي تمّ إرساؤها من طرف حكّامٍ من خارج أوروبا تظلّ ذاتَ راهنيةٍ عميقةٍ لأنّ الشعوب التّي تعيش بهذه الأقاليم اليوم تستحضر الأنظمة والمآثر التاريخية السابقة، بل وتحاول إعادة إحيائها مجدّدًا في بعض الأحيان.»

في الأخير تدعو فاليري هانسين القادة الأمريكيّين المعاصرين إلى الاهتمام أكثر بتاريخ القوى الصاعدة المنافسة في بيجين وموسكو وأنقرة وطهران ونيوديلهي وطوكيو بدلاً من الاكتفاء بمراقبة تحركّات قادتها فحسب، إذ يُمكِّن فهم التاريخ المُختلف -الذّي شهدته هذه المراكز السياسية والاقتصادية والثقافية المختلفة عن أوروبا والغرب- من التعامل الحكيم مع تحدّيات العالم متعدّد الأقطاب الذّي نُقبل عليه.

فَلِيري هَانسين:

تشغلُ أستاذة للتاريخ بجامعة ييل الأمريكية، وتتخصّص في تدريس التاريخ الصيني والعالمي. أقامت هانسين في الصين مدّة ستّة أعوام، الأمر الذّي مكّنها من تحصيل معرفة أكثر عمقًا عن الصين من الداخل. لها مجموعة مؤلّفات حاصلة على جوائز بحثية، منها كتاب «طريق الحرير: تاريخٌ جديد»، «الإمبراطورية المفتوحة: تاريخ الصين إلى سنة 1800»، «التفاوض على الحياة اليومية في الصين التقليدية»، «تغيير الآلهة في الصين خلال القرون الوسطى»، «رحلات في التاريخ العالمي» بالاشتراك مع كينيث كورتيس. آخر كتبها المنشورة حمل عنوان «العام 1000: عندما ربط المستكشفون العالم– وبدأت العولمة» (منشورات بنغوين، 2020).

عائشة زراكول:

أستاذة العلاقات الدولية بجامعة كامبريدج البريطانية وباحثة بكوليج إيمانويل التابع لذات الجامعة. اشتغلت سابقًا كأستاذة مساعدة بجامعة “واشنطن و لي” في فيرجينيا بالولايات المتحدة قبل أن تنتقل إلى جامعة كامبريدج. تتمحور أبحاثها حول نقطة تقاطع السوسيولوجيا التاريخية مع العلاقات الدولية، مع التركيز على العلاقات بين الشرق والغرب في النظام الدولي، وتاريخ النظام (الأنظمة) العالمي ومستقبله، تصوّرات الحداثة والسيادة، القوى الصاعدة والمنحدرة، والسياسة التركية من منظور مقارن. إضافةً لكتابها الأخير “ما قبل الغرب: صعود أنظمة العالم الشرقي وسقوطها” (منشورات جامعة كامبريدج، 2022) نشرت زراكول من قبل كتابًا بعنوان، «ما بعد الهزيمة: كيف تعلّم الشرق أن يعيش مع الغرب» (منشورات جامعة كامبريدج، 2011). لزراكول أعمالٌ بحثيةٌ عديدة منشورة بمجلاّت عالمية، وتُظهر خلال السنوات الأخيرة اهتمامًا كبيرًا بالتنظير في العلاقات الدولية ومسألة الهيراركية في السياسة العالمية.

جلال خَشِّيبْ:

باحث رئيسي بمركز دراسات الإسلام والشؤون العالمية (CIGA) التابع لجامعة إسطنبول صباح الدّين زعيم بتركيا. تهتّم أعماله البحثية بمجال الجيوبوليتيك، نظريات العلاقات الدولية، سياسات القوى العظمى، جيوبولتيك أوراسيا وبحر الصين الجنوبي وشمال إفريقيا، السياسة الخارجية التركية والسياسة الخارجية الجزائرية. عمل كباحث مقيم ومتعاون مع العديد من مراكز الأبحاث، له العديد من الكتب والدراسات والترجمات والملخصّات الأكاديمية المنشورة، منها كتاب “النظام الدولي الليبرالي: جون ميرشايمر في مواجهة جون آيكينبري، صعودٌ أم سقوط؟” (2021)، وكتاب “أثر التحوّلات الطارئة في بنية النظام الدولي على التوجّهات الكبرى للسياسة الخارجية التركية” (2017)، وكتاب “آفاق الانتقال الديمقراطي في روسيا” (2015).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *