Chapter on “Geopolitics of Australia: How Does Geography Determine the Political Fate of this Country?” at “The Power of Geography: Ten Maps That Reveal the Future of Our World” (2021)
By: Tim Marshall
Reviewed by: Djallel Khechib
Book/Chapter Review: September 2024
يُعتبر تيم مارشال أحد الكتّاب المعاصرين الذّين اهتمّوا بتسليط الضوء على أهميّة عامل الجغرافيا في رسم تاريخ الأمم ومكانتها الراهنة وتشكيل مستقبلها أيضا. يحظى الكاتب بخبرةٍ عمرها أكثر من 25 عامًا كمراسلٍ مُتجوّلٍ وكاتبِ تقاريرٍ لصالح هيئاتٍ إعلاميةٍ كبرى على غرار بي بي سي وسكاي نيوز، فقد غطّى نزاعاتٍ وحروبًا في أربعين بلدًا وكتبَ عنها تقاريرًا، مثل ليبيا، أفغانستان، دول البلقان، لبنان، سوريا وغيرها. أثمرت هذه الخبرة كُتبًا عرفت صيتًا واسعًا ونالت جوائزًا على غرار كتابه “سجناء الجغرافيا: عشرة خرائط تُخبرك كلّ شيئٍ تحتاج لمعرفته عن السياسة العالمية”، “عصرُ الجُدران: كيف تُغيّر الحواجز بين الأمم عالمنا”، “يُسْتَحَّق الموت لأجله: قوّة الأَعلام وسياستها”. تتميّز كتاباته بسهولة الأسلوب والسلاسة في معالجة مواضيع الجيوبولتيك المعقدّة. في كتابه الجديد “قوّة الجغرافيا” يستكشف تيم مارشال عشرة أقاليمٍ جغرافيةٍ من شأنها أن تُشكّل السياسة العالمية في عصر جديدٍ من تنافس القوى الكبرى وهي: أستراليا، إيران، المملكة العربية السعودية، المملكة المُـتحدّة، اليونان، تركيا، منطقة الساحل الإفريقي، إثيوبيا، إسبانيا والفضاء الخارجي.
يُعتبر كتابه «قوة الجغرافيا: عشرةُ خرائط تكشف مستقبل عالمنا» (2021) بطريقةٍ ما، امتدادًا لكتابه “سُجناء الجغرافيا” الذّي ركّز فيه على اللاعبين الكبار (كالولايات المتحدّة، روسيا والصين) والكُتل الجيوبولتيكية الكبرى (كالشرق الأوسط، شبه القارة الهندية وإفريقيا)، فكلاهما يُظهر كيف تجد الدول نفسها محدودةَ الخيارات بسبب الجبال والأنهار والبحار والمناخ، فالعامل الجغرافي الماديّ يُعتبر عاملاً أساسيًا في تحديد ما الذّي يُمكن للبشرية فعله وما لا يُمكن، كما يُحاجج كلاهما بعودة التفكير الجيوبولتيكي في القرن الحادي والعشرين واستمرار الجغرافيا باعتبارها قوّةً مُفسّرةً لسلوكات الدول، مُشكّلةً لها ومُؤثّرةً على السياسة العالمية رغم ما فرضته العولمة من مخرجاتٍ قلصّت من فاعلية عامل الجغرافيا أو “قضت عليه” كما يدّعي دُعاة العولمة الليبراليين، فللبشر قدرةٌ على الاختيار إلاّ أنّها لا تنفصل أبدًا عن السياق الجغرافي المادّي الذّي تجري فيه. إنّ قصّة أيّ بلدٍ تبدأ من موقعه الجغرافي في علاقته بالجيران، بخطوط الملاحة البحرية والموارد الطبيعية.
يُغطي “قوة الجغرافيا” بعضًا من الأحداث والنزاعات التّي صعدت إلى الواجهة في القرن الحادي والعشرين حاملةً معها إمكانية إحداث تبعاتٍ بعيدةِ الأمد في عالمٍ متعدّد الأقطاب. يتناول هذا المقال الفصلَ المتعلّق بأستراليا، تلك الجزيرة- القارّة التّي تبدو معزولةً عن العالم جغرافيًا لكنّها ذاتُ ثقلٍ جيوبوليتيكيٍ مهمّ من شأنه أن يُرجّح كفّة التنافس الأبرز الذّي يُقبل عليه القرن الحادي والعشرين بين الولايات المتحدّة والصين.
القارّة “المعزولة”: تشخيصٌ جغرافي:
في مطلع هذا الفصل يُقدّم الكاتب تشخيصًا جغرافيًا لأستراليا من شأنه أن يُساعد القرّاء لاحقًا على إستيعاب أثر الطبيعة الجغرافية لهذا البلد-القارّة على خياراته الاستراتيجية ومكانته الجيوستراتيجية في سياق التنافس الأكبر بين الولايات المتحدّة والصين في القرن الحادي والعشرين. تتموضع هذه الجزيرة الضخمة بعيدةً عن الولايات المتحدّة ب 11,500 كلم باتجاه الشمال الشرقي، وعن إفريقيا ب 8000 كلم غربًا عبر المحيط الهندي، يفصلها عن القارّة المتجمدّة الجنوبية 5000 كلم جنوبًا ولا يظهر المعنى الجيوبوليتيكي لهذه الجزيرة-القارّة إلاّ بالنظر نحو الشمال، أين تتواجد مجموعةٌ من الدول الديمقراطية ذات التوجّه الغربي، يعلوها شمالاً، على حدّ تعبير الكاتب «أقوى بلدٍ دكتاتوريٍ من الناحية الاقتصادية والعسكرية وهو الصين.» فأستراليا بهذا المعنى ليست مجرّد جزيرةٍ معزولةٍ عن العالم، بل هي دولةٌ ضخمةٌ تتموضع وسط منطقة الهندو-باسفيك تمامًا، المنطقة التّي تحتضن أقوى الاقتصاديات العالمية في القرن الحادي والعشرين.
تُعتبر أستراليا سادس أكبر بلدٍ من حيث المساحة (7.5 مليون كلم مربّع)، تُعادل مسافةُ قيادةٍ من مدينة بريزبان شرقًا إلى بيرث غرباً -لتقطع هذا البلد عرضاً- نفس المسافة التّي يُمكن أن تقطعها برًّا من لندن إلى بيروت عبر كلّ من فرنسا، بلجيكا، ألمانيا، النمسا، المجر، صربيا، بلغاريا، تركيا وسوريا. تنقسم حاليًا إلى ستّة ولايات كبرى، أضخمها أستراليا الغربية، التّي تُمثّل ثُلث القارّة، وهي أكبر من كلّ دول أوروبا الغربية مجتمعةً، ثمّ تأتي من حيث الحجم كلٌّ من كوينسْلاند، أستراليا الجنوبية، ويلز الجنوبية الجديدة، فيكتوريا ثمّ جزيرة تَسْمانيا بأقصى الجنوب. أهمّ أقاليمها الإقليم الشمالي وإقليم العاصمة الأسترالية. يُوجد بها حوالي 25 مليون نسمة (أكثر من 80% منهم من العرق الأبيض -بريطانيّون أساسًا، ومن أوروبا الغربية عمومًا- إضافةً إلى المهاجرين القادمين من آسيا ودول الجوار مع وجود حوالي 3,3% من السكّان الأصليّين حسب إحصاء سنة 2016). تتموضع الكثافة السكانية على الأطراف الشرقية، لاسيما الجنوبي الشرقي وأيضًا في الجنوب الغربي حول مدينة بيرث كما تُوضّح الخريطة أدناه. 50% من السكان يقطنون بكلّ من سيدني وميلبورن وبريزبان.
أمّا أكثر العوامل تحدّيًا هناك فهي الأرض والمناخ، فحوالي 70% من أستراليا عبارة عن مناطق نائيةٍ غير مأهولةٍ بسبب طبوغرافيتها الوعرة (غاباتٌ كثيفة، سهولٌ واسعةٌ جافةٌ خاليةٌ من المياه، صحاري وجبال..)، قد يضيع فيها المرؤ ولا يجد مُنقذًا له. حينما نشبت حرائق سنتيْ 2019/2020 هلك حجمٌ ضخمٌ من الثروة الحيوانية والنباتية من دون القدرة على إنقاذها، غطّى ضبابٌ الدخان الخانق المدن المأهولة الكبرى لأيّامٍ وبلغت درجة الحرارة بمدينة سيدني 48,9 درجة مئوية، كما خشي السكّان من نذرة المياة وهي مشكلةٌ أساسيةٌ أصلاً تُعانيها البلاد بسبب طوبوغرافيّتها. معظم أنهار أستراليا موسميةُ الجريان، ولا يوجد بها إلاّ نهريْن كبيرين دائميْ الجريان وهما نهر موراي (Murray) وروافده، وكذا نهر دارلينغ (Darling)، وكلاهما يقعان شرقًا أقرب لجهة الجنوب، قابلان لملاحةِ سفنٍ صغرى لكنّهما محدودا الاتّصال بمداخل بحريةٍ تُمكّن سفنَ الشحن من نقل السلع نحو الداخل. تُعتبر منطقة حوضا دارلينغ وموراي منطقةَ الزارعة والغذاء بالنسبة للأستراليّين، مثلما تُوضّح الخريطة التالية.
يُشكّل الفحم مورد طاقةٍ أساسيٍ للبلاد، إذ تحظى جميع الولايات بمناجم فحم، كما تُوظِّف مصانعه عشرات الآلاف من الناس هناك. لكن مع اتّجاه العالم الصناعي لتخفيض انبعاثات الكربون وتقليص حدّة التلوّث، فسيكون لهذا الأمر تأثيراً عميقاً على اقتصاد البلد. لقد شكلّت مسألة الوصول إلى الطاقّة قلقاً أساسياً بالنسبة لأستراليا، ونطراً لجغرافية البلد وموقعه فمن غير الممكن فصلُ هذه المسألة عن القضايا الأمنية.
كيف صنعت الجغرافيا خيارات أستراليا الاستراتيجية منذ الحرب العالمية الثانية:
يُقدّم الكاتب عبر صفحاتٍ عديدةً موجزًا عن تاريخ نشأةِ هذا البلد والهجرات التّي قدِمَته وكيفية تأسّسه ثمّ تحوّله تدريجيًا إلى أقوى الديمقراطيات الليبرالية منذ ستينيّات القرن المنصرم. بدأت قصّة أستراليا نهاية القرن الثامن عشر حينما أراد البريطانيون ترحيل المُدانين والمساجين إلى أقصى أماكن الأرض، لتتحوّل منذ الحرب العالمية الثانية إلى حليفٍ وثيقٍ للولايات المتحدّة والغرب ذات مكانةٍ جيوستراتيجيةٍ في صراع الحرب الباردة وما تبعها.
يُعتبر الموقع الجغرافي لأستراليا وضخامتها نقطتيْ قوّة وضعف معًا بالنسبة لها، فهما يحميانها من الغزو الخارجي كما يكبحان في المقابل تطوّرها السياسي. يتجّه معظم تركيز أستراليا من الناحية الاستراتيجية على جهتيْ الشمال والشرق، فأنظارها موجّهةٌ إلى منطقة بحر الصين الجنوبي كخطّ دفاعٍ أولّ. في جهة الشرق يتجّه تركيزها نحو جزر جنوب الباسفيك على غرار فوجي وفانواتو.
لأستراليا بعضُ المزايا الجيوبولتيكية، من الصعب مثلاً تعرّضها للغزو (ليس مستحيلاً بل صعبًا)، فأيُّ قوّةٍ غازيةٍ يجب أن تكون برمائيةً في هجماتها، وبسبب الجُزر المتواجدة شرق أستراليا وشمالها فإنّ خطوط الهجوم المحتملة تبقى ضيّقة. ليس من السهل احتلال شواطئ كامل القارّة، وستكون الأماكن القيّمةُ منها محروسةً بشكلٍ شديد. لو حدث وأنزل العدو مثلاً قواتّه في الإقليم الشمالي فسيبقى أمامه 3200 كلم حتّى يصل سيدني، وسيُعاني جدًّا من مشكلة الامداد اللوجيستي.
في مقابل ذلك، تحتاج أستراليا إلى أسطولٍ بحريٍ قويٍّ وضخمٍ لتُأمّن نفسها، ترتبط تجاريًا مع العالم وتضمن حرّية الملاحة عبر الخطوط البحريّة التجارية وتضمن انفتاحها وأمنها. إضافةً إلى ذلك، يبقى هذا البلد منكشفًا وعُرضةً للحصار بشكلٍ سهل، فمعظم صادراته ووارداته تجري عبر سلسلةٍ من الممرّات الضيّقة المتواجدة في الشمال، يُمكن أن يتعرّض أيٌّ منها للغلق عند نشوب أيّ نزاع هناك. تتضمّن هذه الممرّات كلاًّ من مضائق ملقا وصوندا ولومبوك. يُعتبر مضيق ملقا أقصر الطرق الواصلة بين المحيطيْن الهندي والهادي، تمرّ عبره لوحده 80000 سفينة سنويًا، مُحمّلةً بثلث السلع التجارية العالمية، متضمنّةً أيضًا 80% من النفط المُتجّه نحو شمال شرق آسيا، وأيّ طرقٍ أخرى بديلة تكون مكلفةً للغاية ويستغرق النقل عبرها زمنًا أطول. إنّ أيّ سيناريو حصارٍ ناجحٍ على أستراليا من شأنه أن يضعها بسرعةٍ أمام أزمةٍ طاقوية، فليس معها سوى مقدارُ شهرين فقط من إمدادات النفط في احتياطاتها الاستراتيجية.
لقد بنت أستراليا إستراتيجتها الدفاعية في جزءٍ منها آخذةً بعين الاعتبار حدوث سيناريو كهذا، إذْ أنّ لها سفنًا وغواصاتٍ بإمكانها حماية قوافل الطاقة وطائراتٍ لها القدرة على إجراء دورياتٍ بحريةٍ بعيدة المدى، كما أنّها تمتلك ستّة قواعد عسكريةٍ للقوّات الجويّة تقع شمال خطّ العرض 26 الذّي يقسم البلد نصفين، ثلاثةٌ منها مليئةٌ بالفرق والمُعدّات وثلاثةٌ على أُهبة الاستعداد تحسبًّا للطوارئ.
لكن نظرًا لحجم البلد وعدد سكّانه وثروته المتوسّطة، لا يُمكن لأستراليا أن تُشغّل بَحْريّةً قادرةً على حماية كلّ البحار القريبة من شواطئها، فإجراءُ دورياتِ مراقبةٍ بحريةٍ في البحار القريبة من أستراليا يُعتبر تحدّيًا بالفعل. لمواجهة أيّ من السيناريوهات المُخيفة وكذا الاستثمار على نحوٍ أثقل في بحريّتها، تُركّز أستراليا على الدبلوماسية واختيار حلفائها بعناية. لقد كانت دومًا تكترث لأمر القوة البحرية الأكثر هيمنةً عبر العالم، كانت بريطانيا العظمى أهمّ حُلفائها في الماضي لتحّل الولايات المتحدّة محلّها تدريجيًا منذ الحرب العالمية الثانية باعتبارها الحليف السياسي والعسكري والاستراتيجي رقم واحد. يتحدّث مارشال عن تاريخ الارتباط الاستراتيجي لأستراليا بالولايات المتحدّة منذ حادثة بيرل هاربور سنة 1943 وإنزال القوّات الأمريكية بشمال أستراليا، فمنذ تلك اللحظة صارت أستراليا ذات مكانةٍ جيوستراتيجيةٍ بالنسبة للولايات المتحدّة في إنجاح إستراتجيّتها وقد انخرطت القوات الأسترالية في حروب الولايات المتحدّة هناك عبر إرسال جنود لها كالحرب الكورية (1950-1953)، وحرب الفيتنام (1955-1975)، وحتّى حربيْ العراق سنة 1991 و2003. في مقابل ذلك توفّر الولايات المتحدّة مظلّتّها النووية لأستراليا وتحمي حريّة الملاحة بالبحار والمضائق الحيويّة بالنسبة لها، وفي منطقة داروين أقصى شمال البلد، لا تزال تحظى واشنطن بقاعدةٍ عسكريةٍ أساسيةٍ لها منذ الحرب العالمية الثانية مُعزّزةً ب 2500 جندي مارينز، تُبقي عبر هذه القاعدة عين الصينيّين ساهرة وتُرسل إشاراتٍ للأستراليين بأنّنا موجودون هنا للدفاع عن بلدكم ضدّ أيّ تهديدٍ خارجي.
المعضلة الجيوبولتيكية لكانبيرا والتنافس الأمريكي الصيني في آسيا-الباسفيك:
مع الصعود الصيني السريع منذ مطلع القرن الجديد، تجد أستراليا نفسها في معضلةٍ حقيقية، خاصّةً وأنّ الخيار الاستراتيجي الأمريكي تجاه الصين لا يزال غير واضحٍ تماما. ظلّ المسؤولون الدبلوماسيّون والعسكريون الأمريكيون يُؤكّدون بأنّ الحلف مع أستراليا صلبٌ كالصخر، إلاّ أنّ الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب أثار أعصاب أستراليا وكان غالبًا ما يُقدّم تلميحاتٍ لإعجابه بزعماء دكتاتوريّين في آسيا كزعيم كوريا الشمالية على حساب حلفاء ديمقراطيّين راسخين هناك. إلاّ أنّ نبرة الخطاب الأمريكي عادت لِما كانت عليه مع وصول بايدن إلى البيت الأبيض.
تُشكّل مطالب الصين في بحر الصين الجنوبي وجُزره تهديدًا لأستراليا، لاسيما مع المشاريع والتحرّكات الصينية هناك سواءً التجاريّة منها أو العسكرية، كحركة الصيد وبناء جُزرٍ اصطناعية ودوريات المراقبة البحريّة وغيرها. تُدرك أستراليا أنّه مع حلول منتصف القرن الحادي والعشرين لن يتفوّق الانفاق الدفاعي الأمريكي على نظيره الصيني، وإذا كان الاتّحاد السوفياتي قد انهار بسبب ضعفه الاقتصادي وعدم قدرته على مُجاراة الولايات المتحدّة عسكريًا، فإنّ الأمر مع الصين مختلفٌ تمامًا، حيث يستمر الصعود الاقتصادي للصين ويتوقّع الخبراء تجاوز بيجين لواشنطن من حيث إجمالي الدخل المحلّي بحلول منتصف القرن الحالي، إن لم يكن قبل. لذا، فإنّ خيارات أمريكا تجاه هذه القضايا ستؤثّر على خيار أستراليا تجاه الصين.
يعتقد الكاتب بأنّ الصين وأستراليا سيكونان قريبان من بعضهما نسبيًا بسبب عاملين. أولاًّ البُعد الجغرافي بين بيجين وكانبيرا (خلافاً لما تُوهِمه لنا الخرائط المُعتمَدة، فالمسافة بين بيجين ووارسو ببولندا تُعادل المسافة الموجودة بين بيجين وكانبيرا). ثانيًا، تشابك المصالح الاقتصادية-التجارية وحركة الأفراد بين البلدين، وهنا يُقدّم الكاتب بعضًا من الأرقام. على سبيل المثال، تُعتبر الصين الشريك التجاري الأكبر لأستراليا في المدى البعيد، وفي السنوات الأخيرة يزور حوالي 1,4 مليون صيني أستراليا سنويًا لتمضية العطلة، كما يُمثّل الطلبة الصينيّون أكثر من 30% من الطلبة الذّين يدرسون بأستراليا القادمين من الخارج. تشتري الصين تقريبًا ثلث الانتاج الزراعي التّي تُصدّره أستراليا، كما تُعتبر الصين سوقًا أساسيّةً لموارد أستراليا من الحديد الخام والغاز والفحم والذهب.
إلاّ أنّ الكاتب يرى بأنّ المطالب الصينية في بحر الصين الجنوبي تُعقّد العلاقات الأسترالية الصينية، إذْ تُطالب الصين بأكثر من 80% من منطقة بحر الصين الجنوبي باعتبارها حقًّا جغرافيًا وتاريخيًا لها، بل وتُنصّب على بعض الصخور البارزة البعيدة عنها هناك راداراتٍ وبطارّياتِ صواريخٍ أيضًا، مُتجاهلةً المطالب التاريخية والجغرافية لبعض جيرانها كالفلبين وفيتنام وتايوان وماليزيا وبروناي. لذلك، تخشى أستراليا اليوم من أن تدفع الصين قُدمًا في توسيع النفوذ هذه المنطقة لصالحها من اليابان شمالاً إلى حدود أستراليا في الجنوب ودفع الولايات المتحدّة خارج المنطقة في حالة حدوث حربٍ ما، خاصّةً وأنّ الأستراليّين لا يزالون يحتفظون بذاكرةٍ حيّةٍ للغزو الياباني الذّي وصل حدودهم سابقا.
إحدى سيناريوهات استجابة كانبيرا هي التحريك السريع للقوات العسكرية الأسترالية لردع الصينيّين. إلاّ أنّ الجغرافيا الأسترالية تُشكّل تحدّيًا في تموضع هذه القوّات، إذْ يؤدّي وضعها شمالاً إلى جعلها منكشفةً أمام العدو، أمّا وضعها جنوبًا فسيجعل عملية تحريكها تستغرق وقتًا أطول. يرى الكاتب بأنّ أستراليا ليس لها القدرة على منع الصين من الهيمنة على بحر الصين الجنوبي، لكنّها قادرةٌ على محاولة ضمان أن يكون لبيجين نفوذٌ محدودٌ في جنوب الباسفيك. على سبيل المثال، تُعتبر كانبيرا أكبر مُقدّمٍ للمساعدات في تلك المنطقة كوسيلةٍ لجعل الجُزر الواقعة هناك تدور في فلك نفوذها بعيدًا عن الصين. تُدرك بيجين ذلك وتتحرّك لكسب نفوذٍ ما جنوب الباسفيك. يذكر الكاتب حادثةً تعرّضت لها إحدى الطائرات الأسترالية شهر أبريل سنة 2020 والتّي كانت مُحمّلةً بالمساعدات الطبيّة في خضّم أزمة كوفيد-19 ومتجّهةً لجزيرة فانواتو، وبينما كانت تقترب من مطار الجزيرة ذا المدرج الضيّق لمحت به طائرةً صينيةً وصلت قبلها لتقديم مُعدّاتٍ طبيّةٍ للوقاية من كوفيد-19، فعادت أدراجها دون أن تنزل. بغضّ النظر عن سبب عودتها، فقد كانت تلك الحادثة إشارةً قويّةً من الصينيّين: «سبقناكم، نحن هنا أيضا.»
إلى جانب أهدافٍ ميدانيةٍ أخرى، تسعى الصين أيضًا إلى كسب تأييد تلك الدول-الجُزر الواقعة في جنوب الباسفيك فيما يتعلّق بقضيّة تايوان بمنظمّة الأمم المتحدّة، وقد نجحت على سبيل المثال سنة 2019 في جعل جُزر كيريباتي وسولومون تقطع علاقاتها مع تايوان وتُرسي علاقاتٍ دبلوماسيةٍ مع الصين، بالرغم من النشاط المُكثّف لجماعات الضغط الأمريكية والأسترالية هناك.
تعمل أستراليا منذ مدّة على تعزيز علاقاتها مع جزر جنوب الباسفيك لغلقها في وجه النفوذ الصيني، فقد موّلت القاعدة العسكرية الرئيسية في جُزر فيجي، ووقعّت إتفاقيّةً أمنيةً ثنائيةً مع فانواتو، كما تبرّعت ب 21 قاربًا عسكريًا جديدًا للمراقبة البحريّة للعديد من الجزر هناك. علاوةً على ذلك، خصّصت ميزانية المساعدات لبناء شبكة اتّصالٍ فائقة السرعة تحت المياه سُميّت بـ “نظام كابلات بحر المرجان” (Coral Sea Cable System) لتربط عبره أستراليا بجزر سولومون وبابوا غينيا الجديدة. إلاّ أنّ الصين حقّقت رغم كلّ هذه التدابير الأسترالية نجاحاتٍ هناك خصوصًا في جزر فيجي وكوك وطونغا.
تتفوّق الصين على أستراليا تكنولوجيًا، اقتصاديًا وعسكريًا، كما أنّ قدراتها السيبرانية تُتيح لها نفوذًا وحركةً أكبر في الجوار الأسترالي وتجعل من أستراليا ذاتها بلدًا محاصرًا. لقد تعرّضت كانبيرا لشيئٍ من “التنبيهات والعقوبات” الصينية في خِضّم بعض التوتّرات الدبلوماسية الدورية بين البلدين، على غرار ما حدث منتصف سنة 2019، حينما لمّح رئيس الوزراء الأسترالي موريسون لتورّط الصين في الهجمات السيبرانية المستمرة التّي تعرّضت لها الحكومة الأسترالية وقطاعات حسّاسة في البنية التحتيّة للبلد كالصحّة والتعليم. لذلك فإنّ التعامل الخاطئ لأستراليا مع الصين سيجعلها عالقةً وسط حربٍ باردةٍ خطرةٍ في منطقة الهندو-باسفيك، كما أنّ التعامل الضعيف مع الصين سيجعلها مُحاطةً بقواعدٍ عسكريةٍ صينيةٍ في حديقتها الخلفية. لقد سرّعت أزمة كوفيد-19 وضخّمت حالة الخوف من صعود الصين بين دول المنطقة، ففي الوقت الذّي كانت فيه اليابان والهند وتايوان وماليزيا وأستراليا وغيرها من الدول مشغولةً بمعركتها ضدّ الجائحة، كانت الصين تُجري تحرّكاتٍ مستفزّة بما فيها تحريك حاملات طائراتها في دائرةٍ كاملةٍ حول تايوان.
لذلك، فلا تجد كانبيرا منجدًا سوى في علاقاتها التاريخية الممتازة مع واشنطن. تحظى العلاقات الأمنية والعسكرية بمستوى رفيع بين الدولتين، فأستراليا مثلاً تُعتبر إحدى دول “الأعين الخمس” التّي تُمثّل أضخم شبكةَ جمعِ معلوماتٍ استخباراتيةٍ فعّالةٍ في العالم (تضمّ: الولايات المتحدّة، المملكة المتحدّة، كندا، نيوزيلند وأستراليا)، حيث تستضيف على أراضيها قاعدة (Pine Gap) العسكرية، وهي أهمّ قاعدةِ جمع معلوماتٍ استخباراتيةٍ أمريكيةٍ في العالم، لها وظائفٌ عسكريةٌ وأمنيةٌ عديدة تُغطي كافة المنطقة وصولاً إلى أفغانستان.
يختتم الكاتب هذا الفصل بتأكيد وجود حاجةٍ مُلحّةٍ للتعاون المُكثّف بين أستراليا ودول المنطقة من جهة، وبين كانبيرا وواشنطن من جهة أخرى، لتأمين خطوط الملاحة والتجارة هناك وسلامة سلاسل التوريد وأمن المضائق أيضًا، فغلق المضائق مثلاً سيؤدّي إلى خنق اقتصاديات هذه الدول ووضعها على المحّك. تتفّق كلّ دول المنطقة على هذه المسألة، فِعلُ ذلك يتطلّب صدّ الصين في كلّ مرّةٍ عن مطالبها ودحض أكاذيبها بخصوص حقوقها وسيادتها على بحر الصين الجنوبي، على حدّ تعبير الكاتب. تتقاسم بعض الدول المفتاحية هناك عضوية منتدى الـ (Quad) أيْ “الحوار الأمني رباعي الأطراف” الذّي يضّم أستراليا واليابان والهند والولايات المتحدّة، لا تُعتبر هذه المؤسّسة حلفًا ولكنّها أقرب إلى إطارٍ إستراتيجيٍ للتنسيق بين القوة البحرية لهذه البلدان الأربع. يهدف المنتدى لتحقيق التعاون في منطقة الهندو-باسفيك وتأمين خطوط الملاحة وموارد التوريد هناك، والأهمّ دحر النفوذ الصيني. هناك حديثٌ اليوم عن توسِيع هذا المنتدى إلى (Quad Plus) وضمّ كلٍّ من نيوزيلند وكوريا الجنوبية وفيتنام، رغم الحذر الشديد الذّي تُبديه الدولتيْن الأخيرتيْن بسبب قربهما الجغرافي من الصين.
هكذا يخلص الكاتب إلى إيضاح الوضع الجيوبوليتيكي الحرج الذّي تعانيه أستراليا بسبب جغرافيتها أساسًا والتّي تضعها أمام خياراتٍ إستراتيجيةٍ صعبة وتدفعها لتتوازن بحذرٍ شديدٍ في منطقتها، فأيُّ خطوةٍ خاطئةٍ قد تؤدّي إلى تبعاتٍ خطيرةٍ ومستدامة، في منطقةٍ تُعتبر اليوم أكثر المناطق أهميّةً من الناحية الجيواقتصادية في العالم.
أحد أبرز الخبراء في الشؤون الخارجية، له أكثر من ثلاثين عامًا من الخبرة في إعداد التقارير. وكان محرّرًا دبلوماسيًا في سكاي نيوز. عمل قبل ذلك في هيئة الإذاعة البريطانية وراديو إل بي سي/آي آر إن. وقد قدّم تقاريرًا من أربعين دولة وغطّى الصراعات في كرواتيا والبوسنة ومقدونيا وكوسوفو وأفغانستان والعراق ولبنان وسوريا والأراضي الفلسطينية المحتّلة. أبرز كتبه: “سجناء الجغرافيا”، و”عصر الجدران”، و”عَلمٌ يستحق الموت من أجله”، و”قوة الجغرافيا”، و”مستقبل الجغرافيا”.
باحث زميل بمركز دراسات الإسلام والشؤون العالمية (CIGA) التابع لجامعة إسطنبول صباح الدّين زعيم بتركيا. تهتّم أعماله البحثية بمجال الجيوبوليتيك، نظريات العلاقات الدولية، سياسات القوى العظمى، جيوبولتيك أوراسيا وبحر الصين الجنوبي وشمال إفريقيا، السياسة الخارجية التركية والسياسة الخارجية الجزائرية. له العديد من الكتب والدراسات والترجمات والملخصّات الأكاديمية المنشورة بالعربية والإنجليزية، من مؤلّفاته كتاب: “الصراع من أجل الإرادة الحرّة: السياسة الخارجية التركية في نظامٍ دوليٍ مُتغيّر” (الطبعة الثانية 2024)، كتاب: “النظام الدولي الليبرالي، صعودٌ أم سقوط؟ جون ميرشايمر في مواجهة جون آيكينبري” (2021)، وكتاب: “آفاق الانتقال الديمقراطي في روسيا” (2015).