جلال خَشِّيبْ

أصوات نقديّة/ 14 أكتوبر 2023

بعد يومين من العمليّة التّي شنّتها عناصر حركة المقاومة الإسلامية “حماس” في غلاف غزّة، كتب هال براندز مقالاً “دعائيًا” عن دلالات تأثير العملية على حقبة السلام الأمريكي والنظام الدولي، حيث يرى فيها دليلاً إضافيًا على تعرّض النظام الدولي لضغوطٍ أشدّ لم يعرف مثيلاً لها منذ الفوضى التّي أعقبت نهاية الحرب العالمية الثانية.

هال براندز هو باحث أمريكي بارز، نشرتُ خلال السنوات الماضية ملخصّاتٍ لبعض مقالاته وكتاباته، وهو من روّاد النزعة الأُممية الليبرالية أو تيار الهيمنة الليبرالية الأمريكية كما يسميها خصومها الواقعيون، معروفٌ بتأييده لسياسات “دولة إسرائيل” ويُعتبر أحد المستشارين الصقور المقربّين من دوائر البيت الأبيض ومؤسّسة الخارجية والدفاع الأمريكيين.

 افتتح براندز مقاله بتشبيه العملية التّي قامت بها عناصر “حماس” في السابع من أكتوبر الماضي بهجمات الحادي عشر من سبتمبر، بل واعتبرها أكثر هولاً منها نظرًا لديمغرافيا “إسرائيل” الضئيلة مقارنة بنظيرتها الأمريكية. طبعًا لا يتفاجأ المرؤ بتهويل كهذا حينما يكون مطّلعًا على كتاباتٍ سابقة لهذا الباحث تُغرِق في تهويل “التهديدين الصيني والروسي لبقاء أمريكا ونمط الحياة الغربية”، لذا لم أعرُ في الحقيقة اهتمامًا كبيرًا بهذا التهويل. لكن بعد مرور أسبوعٍ على العملية، تعالت تصريحاتٌ عديدة لمسؤولين أمريكيين سامين، على رأسهم الرئيس الأمريكي جون بايدن، يكرّرون فيها ذات التشبيه المُهِوّل، وأخرى من مسؤولين إسرائيليين يصفون فيها العملية بكونها أكبر “هزيمة” تتعرّض لها ” دولة إسرائيل” منذ هزيمة حرب 1973، أو يصفونها بأكبر “محرقة” بعد الهولوكوست النازي، وغيرها من التشبيهات والتهويلات. هنا يتوجّب على المرء إعادة التفكير في السياق والظروف التّي جاءت فيه عملية “طوفان الأقصى” والوتيرة التّي جرت بها.

في البداية كنتُ أنظر للعملية في سياقٍ إقليميٍ مرتبط بصفقة التطبيع التّي تريد المملكة العربية السعودية عقدها مع “إسرائيل” حيث اشترطت الرياض أن تأخذ ضماناتٍ ومساعداتٍ من تل أبيب تُمكّنها من بناء برنامجٍ نووي سلمي، فضلاً عن توفير الدعم التكنولوجي اللازم لها في تجسيد مشروع مدينة الذكاء الصناعي السعودية “نيوم” والدعم السياسي والمناخ الأمني اللازميْن لتجسيد رؤية محمد بن سلمان المعروفة برؤية 2030. طبعًا، إنّ صفقةً كهذه إذا تمّت ستكون كارثةً سياسيةً وأمنيةً من ناحيتيْن، أولاًّ، تطبيع السعودية، صاحبة الرمزية الدينية في العالم الإسلامي، سيوفّر شرعيّةً أعظم لوجود “إسرائيل” في محيطها الإقليمي ويُنهي النظر إليها رسميًا باعتبارها كيانا محتّلاً غريبًا على المنطقة، كما سيرفع هذا التطبيع، إذا تمّ، الحرج السياسي عن بعض الدول العربية التّي لم تُطبّع بعد، ويُخرِج نهائيًا وبشكلٍ رسمي دول العالم العربي من دائرة “الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي”، لتبقى القضية الفلسطينية تبدو لدى الرأي العام العالمي شأنًا إسرائيليًا محلّيًا محضًا. ثانيًا، اكتساب السعودية لبرنامجٍ نوويٍ سلمي يعني خسارةً كبرى لمنافسها الإقليمي الأول، إيران، التّي يفرض عليها الغرب والجيران حصارًا منذ سنواتٍ بسبب مشروعها النووي، فلعبة التنافس الجيوبولتيكي بين الرياض وطهران ستظلّ صفرية لمدّة أطول، في نظرنا، رغم ما لاح مؤخرًا من بوادر إفراجٍ عابرٍ بينهما، ومن المعروف جدًا ارتباط حماس بالدعم الإيراني السياسي والعسكري على حدٍّ سواء. لذا، لم يخرج تحليلي الأولّي لسياق عملية “طوفان الأقصى” عن هذين السياقين: تحرّك حماس لضرب مشروع التطبيع السعودي ذي التأثير السلبي بعيد المدى على القضية الفلسطينية، و”تحريك” حماس من طرف الإيرانيين لقطع الطريق أمام صفقة التطبيع السعودية المُضرّة بالأمن القومي الإيراني على المدى البعيد، وكلا التحليليين لا يُناقض أحدهما الآخر.

 

إلاّ أنّ تكرّر تصريحاتٍ رسميةٍ رفيعة المستوى تشابهُ افتتاحية مقال هال براندز، جعلني أُرجّح تصوّرًا آخر جرت في سياقه العملية مرتبطٌ بتحيين المسؤولين الإسرائيليين لمخطّط تصفيةِ ما تبقّى من أراضي فلسطينية، أولّها قطاع غزّة، وثانيها الضفة الغربية. ما صار سائدًا في الإعلام خلال الأيام القليلة الماضية يُثبت تمامًا استئناف “إسرائيل” لهذا المشروع الصهيوني القديم، والذّي سيجري تنفيذه، في تقديري، هذه المرّة بالقوة والعنف الشديدين.

قبل سنوات قال إسحاق ربين، رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، مقولةً صارت شهيرة، «أحلم أن أستيقظ ذات يوم وأجد غزّة وقد ابتلعها البحر». في سنة 2005، شرع خليفته، أرييل شارون، في تنفيذ هذا المشروع على طريقته الخاصّة والصبورة حينما أعلن انسحابًا أحاديّ الجانب من غزّة مهدّمًا كلّ المستوطنات الإسرائيلية هناك، في خطوةٍ اعتبرها متطرفون صهاينة هزيمةً مدويّةً “لإسرائيل”، بينما اعتبرها فلسطينيو غرّة انتصارًا كبيرًا، لكنّ شارون كان يُدرك جيّدًا ما يفعل: “تحويل غزّة لأكبر سجنٍ مفتوح في العالم وإنهاء أيّ ارتباط سياسي قائمٍ بين حماس والسلطة الفلسطينية في الضفّة، بعد القضاء على عامل الثقة بينهما إلى الأبد”، وهو ما حدث بالفعل. لكن ما راهن عليه شارون، لم يتحقّق بالكامل، كان يُرجّح احتمال تخلّي فلسطينيّي غزّة عن حماس وخيار المقاومة عمومًا بعدما يشتّد عليهم الحصار ويطالُ قوتهم اليومي فتتحوّل حياتهم لجحيم لا يُطاق، سوف يُحمِّلون بعدها قيادة حماس مسؤولية ذلك، وينتفضون ضدّها وتفقد المقاومة بذلك حاضنتها الشعبية، وهو ما سيسهّل لاحقًا عودة السيطرة الإسرائيلية على قطاع غزّة مباشرةً أو عن طريق وكيلٍ فلسطيني خاضعٍ لتلّ أبيب، وبالتالي إنهاء “صداع غزّة” الذّي أرهق رابين وغيره من المسؤولين الإسرائيليّين، أو هكذا كان يظّن.

إذا ما وضعنا عودة مشروع التصفية القسرية الصهيوني لمسألة قطاع غزّة كمسلّمةٍ فرضيّةٍ أوليّةٍ لنحلّل وفقًا لذلك عملية السابع من أكتوبر فسيبدو لنا مقال هال براندز سابق الذِكر وتصريحات المسؤولين الأمريكيين والاسرائيليّين المبالِغةِ في تهويل عملية حماس منطقيةً جدًا، كما قد نفهم طبيعة الاستجابة العسكرية الإسرائيلية لعملية “طوفان الأقصى”. لقد ضربت “حماس” بشكلٍ مفاجئٍ دون اعتراض، ودخلت عناصر المقاومة مسافةَ أربعين كيلومتر خارج سور القطاع دون اعتراضٍ جدّيٍ من القوات البريّة الإسرائيلية، وهو ما كان أمرًا مفاجئًا للجميع، وتمّ عَزوُه أساسًا لقدراتٍ حديثةٍ امتلكتها كتائب المقاومة. قد يكون في ذلك شيء من الصحّة، لكنّه في نظري جزءٌ من صورةٍ أكبر بكثير. لو افترضنا عدم علم أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية بموعد العملية، فقد يفسّر ذلك جزءًا من انتصار المقاومة الأولّي في يوم العملية الأول فحسب، من اختراقٍ للجدار المادّي والرقمي المحيط بغزّة، بغضّ النظر عن مدى قدرات حماس التسليحية أو السيبرانية في الاختراق. لكن، كيف نفسّر استمرار انتصارات المقاومة على الأرض طيلة أسبوعٍ كاملٍ واختراقها لمسافة أربعين كيلومتر دون اعتراضٍ جدّي، وتمكّنها من أسر عدد هائلٍ من الرهائن تبعًا؟

بعد ربط كلّ ما سبق من سياقاتٍ وعوامل، يبدو لنا أنّ العملية حدثت بالشكل التالي: بلغت لقيادة حركة “حماس” معلومات مؤكدّة عن اقتراب موعد عمليةٍ بريّةٍ كبرى ستشنّها إسرائيل على قطاع غزّة إحياءً لمشروع التصفية سابق الذكر، بعدما ثبت استحالة نجاح خطّة شارون في حصار القطاع وما تلاها من عمليات إسرائيلية على القطاع طيلة 18 سنة كاملة من أجل تركيع المقاومة وحاضنتها الشعبية في قطاع غزّة، لذا بادرت “حماس” هذه المرّة بشنّ الضربة الأولى في الحرب بشكلٍ مفاجئٍ وسريعٍ وقويٍّ لإرباك العملية. فمن المعروف في مجال التخطيط الحربي أنّ المُبادر بشنّ الضربة الأولى سيحظى بأفضليةٍ أوليّة على حساب العدو، لاسيما إذا كانت ضربته سريعةً وقويّةً ومفاجئة. كما من شأن انتصارٍ أولّي كهذا للمقاومة أن يُربك صفقة التطبيع السعودية وينقذ حليف حماس الرئيسي في المنطقة، إيران. لذا كانت العملية في هذا التوقيت وبهذه الطريقة الاحترافية. غير أنّ نتنياهو وحكومته فضلّوا استغلال انتصارات المقاومة لصالحهم، مادامت حماس أقدمت على ما أقدمت عليه، مُصدرًا أوامرًا بعدم اعتراض تقدّم عناصر المقاومة برًّا أو عرقلة مساعيها لأسر العديد من الإسرائيليين. هكذا سيضمن لنفسه شيئان، أولاًّ، حشدٌ شعبيٌ داخليٌ لخطتّه البريّة المرتقبة بشنّ حربٍ عنيفةٍ لتصفية مسألة “حماس” وقطاع غزّة نهائيًا، خاصّةً وأنّ الداخل السياسي الإسرائيلي يعاني انقسامًا شديدًا غير مسبوقٍ بسبب هذا الموضوع أضعفَ حكومة نتنياهو بشكلٍ كبير. لهذا ركّزت وسائل الاعلام الإسرائيلية وحليفاتها الغربية على مسألة الرهائن وتعمدّت تضخيم الحدث وإدانة “حماس” مُشبّهةً أعمالها بأعمال داعش. ثانيًا، سيضمن لعمليّته بذلك مبرّرًا جدّيًا: “حدثٌ كبيرٌ غير مسبوق” منذ حرب 1973 و”هولوكوستًا ثانيًا لم يعرف اليهود مثيلاً له منذ زمن النازية”، و”11 سبتمبر جديدة” في نسختها الإسرائيلية تُقدّم ذريعةً كافيةً لحملته الحربية البريّة القادمة أمام الرأي العالمي وتحشد له دعمًا سياسيًا دوليًا وأُمميًا، بنفس الطريقة التّي استغلت فيها إدارة بوش الابن هجمات الحادي عشر من سبتمبر لتجهيز الرأي الأمريكي والعالمي من أجل احتلال أفغانستان بهدف احتواء الصين الصاعدة، الموضوع رقم واحد في أجندة بوش الابن حينما دخل البيت الأبيض.

المراقِب لما تبّثه القنوات الأمريكية والغربية والإسرائيلية منذ أيام سيلاحظ حتمًا تهويلاً للعملية وتشبيهات كهذه، وسيستوعب أخيرًا سبب تصريحات الرئيس الأمريكي جو بايدن ووزير خارجيته أنتوني بلينكين وتصريحات نتنياهو ووزير حربه، بل وحتّى موقف مصر والأردن، ذي النبرة المرتفعة ضدّ “إسرائيل” غير المألوفة عنهما منذ سنوات، “فصديقهما” الإسرائيلي صار يستهدف الآن أراضيهما المباشرة، ذلك أنّ سيناء المصرية ستصير موطنًا جديدًا لفلسطينيّي غزّة في خطّةِ التصفية هذه، وإذا صارت الأمور كما يُخطَّط لها ستكون الضفّة الغربية هدف “إسرائيل” الموالي وسيُرحّل سكانها الفلسطينيون نحو الضفة الشرقية لنهر الأردن، أيْ نحو الأردن. فلا مصر ولا الأردن يريدان حدوث ذلك. لا ننس أنّ مصر خاضت حرب 1973 من أجل استرجاع سيناء بالأساس.

طبعًا لا يُلمّح تحليلي هذا لأيّ انتقاصٍ من الانتصار الأولّي الذّي حقّقته عناصر المقاومة “حماس” لحدّ الآن، أو لوقوع قيادة “حماس” في خطئٍ ما أو دعوتها للتريّث أو الاستدراك. فالمقاومة في نظري لا ينبغي أن يحكمها ظرفٌ محلّي أو إقليمي أو دولي، ولا خطّةَ عدو، ولا موقفَ حليفٍ مهادن. هي فعل دائم ومستديم لا ينبغي أن يخمد حتّى يُطرد الاحتلال.

يبدو بأنّ جميع الظروف الدولية والإقليمية الحالية تخدم مشروع “إسرائيل” الصهيوني لتصفية القضية الفلسطينية عبر القوة حاليًا. أولاً، هناك دعمٌ أمريكي لا يتزعزع، لاسيما بعد إرسال واشنطن دعمها العسكري وحاملة طائراتٍ نحو سواحل الأراضي المحتلة كرسالةٍ قويّةٍ لأيّ طرف ثالث قد يفكّر في تعكير مسار الخطّة إذا شُرع في تجسيدها، أيْ تحييد أيّ تدخّلٍ إيراني أو مصري أو حتّى روسي في حالة انفلات الأمور. ثانيًا، هناك حملة دعمٍ إعلاميةٍ غربية مكثّفة لصالح “إسرائيل” من خلال إظهارها “لوحشية حماس” التّي صارت تأسر “مدنيّين أبرياء” وتُهدّد بقطع رؤوسهم على العلن في وسائل الإعلام، وهو ما من شأنه أن يُجهّز الرأي العام العالمي لتفهّم حملة التصفية الصهيونية المُخطّط لها. ثالثًا، هناك عجزٌ رسميٌ عربيٌ عن إيقاف أيّ حربٍ إسرائيليةٍ جديدة على غزّة، بل وتواطؤٌ واضحٌ مع تل أبيب بعد تطبيع أغلب الدول العربية لعلاقاتها الدبلوماسية مع “إسرائيل”. رابعًا، عودة العلاقات التركية-الإسرائيلية لوضع ما قبل أزمة سفينة مرمرة، وبالتالي فقدان المقاومة الفلسطينية لصديقٍ ظلّ يُزعج “إسرائيل” لسنوات. خامسًا، استمرار حصار الغرب لإيران وروسيا، وانشغال الأخيرة بحرب الاستنزاف في أوكرانيا، واستمرار الصين في النأي النسبي بنفسها عن شؤون الشرق الأوسط وصراعاته، لاسيما الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، وإن بدأت ملامح التغيير في سياستها الخارجية تلوح في الأفق بعد تدخلاتها الدبلوماسية الأخيرة. سادسًا، خروج الشعوب العربية من معادلة الصراع بعد فشل أغلبها في تحويل الأنظمة السياسية العربية عبر أساليب الانتفاضات السلمية أو الثورات المسلّحة، أو ما عُرف “بثورات الربيع العربي”.

مع ذلك قد نكون مقبلين على انفلاتٍ كبيرٍ ستشهده المنطقة إذا قرّرت حكومة نتنياهو المُضي في مشروع التصفية الوحشي هذا، ولا يمكن التنبؤ بالمسارات التّي قد يأخذها هذا الانفلات. قد يُقحم روسيا أو إيران أو حتّى مصر في حرب وكالةٍ جديدةٍ أو حربٍ مباشرةٍ محدودة النطاق، خاصّة مع تنامي التنافس الجيوبوليتيكي بين قوى “العالم الحرّ” وقوى “أوراسيا المُحصّنة”، على حدّ تعبير هال براندز، ولجوء كلّ طرفٍ لحشد مزيدٍ من الأصدقاء والوكلاء في صفّه وحرمان الآخر من خدماتهم. وقد يُحرّك هذا الحدث الشارع العربي لموجة انتفاضاتٍ جديدةٍ سيستفيد فيها الشارع العربي من الدروس السابقة “للربيع العربي” والخبرة التّي راكمها منه في مواجهته للأنظمة السياسية، لاسيما المُطبِّعة منها، مادامت القضية الفلسطينية ستكون هذه المرّة الدافع الأساسي لحدوث انتفاضاتٍ جديدةٍ كهذه، ولا أحد بإمكانه أن يتوقّع ما سيحمله المستقبل للمنطقة.

 

قبل إنهاء هذا المقال قد يتساءل المرؤ، هل يُمكن أن يُكلَّل الاجتياح العسكري البرّي الإسرائيلي على قطاع غزّة -إذا حدث-بالنجاح؟ وهل سيكون في مصلحة “إسرائيل” أساسًا؟

تعتمد “إسرائيل” سياسة الأرض المحروقة هذه الأيام عبر القصف الجوي المكثّف لغايتين. أولاً، دفع سكان غزّة للنزوح القسري نحو مناطق المعابر القريبة من سيناء المصرية التّي سيجعلونها أكثر جاذبية وقابلية للحياة تمهيدًا لتوطينهم فيها بعد جعل قطاع غزّة خرابًا غير قابل للحياة. ثانيًا، تعبيد الطريق للاجتياح البرّي الشامل بعد استنزاف قوّات المقاومة نفسيًا وإشغالهم بأهاليهم المستهدفين بالقصف الذّين لم تعد تسعهم مستشفيات قطاع غزّة ومقابره.

 لكن، هل ستكون الحرب البريّة في صالح قوات الاحتلال؟ لا أعتقد ذلك، من المرجّح أن تكون الحرب البريّة، في نظري، كارثةً عسكريةً لقوات الاحتلال الإسرائيلي، قد تتحوّل غزّة حرفيًا إلى مقبرة للغزاة، مثلما صارت أفغانستان مقبرةً للغزاة الأمريكيين ومن سبقهم طيلة قرون. وبالرغم من التفوّق النوعي والكمّي للجيش الاسرائيلي مقارنةً بقوات المقاومة إلاّ أنّ أفضليةً كبرى تحظى بها كتائب المقاومة على حساب قوّات العدو في حربٍ بريّةٍ كهذه تجري في ساحة قطاع غزّة، فمعاركٌ كهذه بين قوات نظاميةٍ وقوات تعتمد على ما يسمى بـ “حروب العصابات”، أيّ حروب الجيل الرابع، والحروب التّي تجري في المدن (Urban Warfares)، لا تحتكم لمنطق كمِّ العتاد ونوعه فحسب.

 جغرافيًا ساحة المعركة عاملٌ مهمّ أيضًا، وهي في صالح قوات المقاومة إذا جرى الاجتياح. فبسبب الدور الحاسم الذّي لعبه عامل الجغرافيا في الحروب التّي خاضتها أمريكا في أفغانستان والعراق كتب روبرت كابلان كتابه الشهير انتقام الجغرافيا”. حينما ظنّت الإدارة الأمريكية أنّ التكنولوجيا العسكرية العالية لوحدها ستكون كافية لإلحاق الهزيمة بقوات طالبان (نظرية الصفر جندي) مهملةً دور عامل الجغرافيا في خطط الحرب، تعرّضت لأسوء الهزائم في جبال تورا بورا الوعرة أو مناطق العراق شديدة الحرارة، وهي أراضي معارك لم يعتد عليها الجندي الأمريكي المدجّج بالسلاح والمجهّز بأحدث التقنيات العسكرية. صحيح بأنّ جغرافيا غزّة مُستويةٌ نسبيًا وضئيلةُ الحجم من الناحية الطبوغرافية وهي أقلّ أفضليةً لقوات المقاومة الفلسطينية مقارنةً بما وفرّته الجغرافيا الوعرة الشاسعة من أفضلية لقوات طالبان في أفغانستان، مع ذلك تبقى ساحةُ معركةِ غزّة أرضًا يعرفها المقاتل الغزّاوي جيّدًا وهذا في حدّ ذاته يقدّم له أفضليةً على حساب القوات الاسرائيلية، فهي ساحةٌ مجهّزةٌ منه أساسًا بالكمائن والأنفاق وغيرها لأجل أيامٍ كهذه. من دون أن ننسى بأنّ اجتياحًا كهذا إذا تمّ سيفتح على “إسرائيل” جبهةً أكثر شدّة في الشمال مع قوات حزب الله المجهّز بعتادٍ عسكريٍ أقوى وأكثر نوعية، وتحظى أرض معركته بطبوغرافيا أكثر أفضلية لقواته، وهي أكثر وعورةً على قوات الاحتلال.

 ثاني عامل مهمّ هنا في نظري هو العامل النفسي/الروحي، الذّي سيكون عاملاً حاسمًا في حربٍ مصيريةٍ كهذه. سيُقاتل الفلسطيني من أجل أرضه التّي ليس له سواها، سينظر للحرب كونها حربًا مصيريةً صفرية، كما سيقاتل بروحٍ تتطلّع للشهادة بنفس القدر الذّي يتطلّع فيه الجندي الاسرائيلي المحتّل للخروج حيًّا من هذه الحرب، وربّما سيلوذ الأخير بالفرار وأهله من “دولة إسرائيل” غير الآمنة نحو بلادٍ أخرى إذا نجا من القتل. فلا الأرض أرضه ولا دافعَ له قويّ في خوض حربٍ كهذه لا تريدها سوى حكومته التّي يقودها سياسي ضعيف يعيش آخر أيّام مسيرته السياسية، يريد أن ينهيها بانتصارٍ ما يُنقذ به اسمه، فلا يُحرّكه شخصيًا لشنّ حربِ التصفية هذه سوى دوافعٌ نفسية تمتزج فيها رغبة تحقيق انتصارٍ شخصي يُشبع به كبرياءه، “عقبُ أخِيل” الذّي سيكلّفه هزيمةً نكراء تُنهي مسيرته بشكلٍ مخزي.

فلنتصوّر ما الذّي سيُحدثه انتصارٌ كهذا للمقاومة في غزّة -تحت ظرف قاهرٍ كهذا- من آثارٍ نفسيةٍ واستراتيجيةٍ إيجابيةٍ بعيدة في صالح القضية؟! قد يكون لهذا النصر أثرٌ أبعد في تآكل “دولة الكيان” من النصر الذّي حقّقته مقاومة جنوب لبنان لسنة 2006. أخيرًا، وجب التأكيد أنّه من الصعب جدّا استشراف المسار الذّي ستأخذه هذه الجولة وهذه الحرب، لاسيما إذا انفلت الوضع وانخرط طرفٌ ثالث فيها. كما أنّ هناك عواملُ أخرى قد تصنع مسار الحرب ومصيرها تتعدّى الحسابات العقلانية للدول والأفراد، بعضها يُسمّيها الناس حظّا أو صدفة، وبعضهم يُؤمن بها كقدرٍ وسننٍ ربّانية تتعدّى قدرات البشر على الفهم والإدراك.

جلال خَشِّيبْ:

باحث رئيسي بمركز دراسات الإسلام والشؤون العالمية (CIGA) التابع لجامعة إسطنبول صباح الدّين زعيم بتركيا، مقيمٌ بإسطنبول. تهتّم أعماله البحثية بمجال الجيوبوليتيك، نظريات العلاقات الدولية، سياسات القوى العظمى، جيوبولتيك أوراسيا وبحر الصين الجنوبي وشمال افريقيا، السياسة الخارجية التركية والسياسة الخارجية الجزائرية. له العديد من الكتب والدراسات والترجمات والملخصّات الأكاديمية. تظهر أعماله بمجلاّت دولية مُحكّمة ومراكز أبحاث عديدة، باللغتين العربية والانجليزية، منها كتاب “النظام الدولي الليبرالي: جون ميرشايمر في مواجهة جون آيكينبري، صعودٌ أم سقوط؟” (2021)، وكتاب “أثر التحوّلات الطارئة في بنية النظام الدولي على التوجّهات الكبرى للسياسة الخارجية التركية” (2017)، وكتاب “آفاق الانتقال الديمقراطي في روسيا” (2015).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *