الأُمميّة الواقعية في مواجهة الأُمميّة الليبرالية

ترجمة وإعداد: جلال خَشِّيبْ

ترجمات/ أغسطس 2023

يتضمّن هذا المقال تخليصًا موسّعًا لدراستيْن مهمتّيْن نُشرتا في مجلة البقاء الأمريكية شهريْ يوليو 2021 وأيلول 2021 على التوالي، على شكل مناظرةٍ بين كلٍّ من الباحثِيْن جون آيكنبيري ودانيال دودني من جهة، والباحث أناتول ليفين من جهةٍ أخرى حول الصراع الفكري الجاري بخصوص التوجّهات الكبرى للسياسة الخارجية الأمريكية بين مدارس العلاقات الدولية الفكرية السائدة، وقد تركّز النقاش بالأخصّ بين مُعسكريْ النزعة الأُمميّة الليبرالية والنزعة الأُمميّة الواقعية، حيث يجادل دعاةُ كلّ معسكرٍ بقدرة منظوره على تقديم الأنسب للسياسة الخارجية الأمريكية بالتوازي مع نقده اللاذع للمنظور الآخر وما تسبّب فيه خيبات سابقة للبلد والعالم، أو سيتسبّب له من وكوارث مستقبلية إذا تمكّن من الهيمنة على الإدارة الأمريكية ومؤسّسة الخارجية في المستقبل المنظور. كما يُضيف المقال ملخّصًا لتفاعلٍ آخر مهّم مع فحوى هذه المناظرة. يُمكن النظر لهذه المناظرة في سياقٍ أعمّ مرتبطٍ بذلك النقاش الأكاديمي التقليدي بين الليبرالية والواقعية في حقل العلاقات الدولية والذّي يتجدّد في كلّ حقبةٍ بين روّادهما المنخرطين بشكلٍ مستمر في مناقشة زوايا نظرية مُجرّدة أو مستجدات تطبيقية راهنة، لعلّ أبرزها اليوم موضوع السياسة الخارجية الأمريكية والتغيّرات الجدّية التّي يعرفها النظام الدولي.

 

الكلمات المفتاحية: ائتلاف كوينسي، النزعة الأُمميّة الواقعية، النزعة الأُمميّة الليبرالية، مقاربة الكبح/ضبط النفس، الهيمنة، القيادة، السياسة الخارجية الأمريكية، النظام الدولي الليبرالي

محتويات المقال:

  1. كبحٌ في غير مَوْضِعه: ائتلافُ كْوِينْسِي في مواجهة النَزعة الأُمميّة الليبرالية
  2. الانتصار للنزعة الأُمميّة الواقعية: ردٌ على مقال دانيال دُودْنِي وجون آيْكِنْبِيري
  3. هيمنةٌ عالميةٌ مُسلّحة: ردودٌ أخرى على مقال دودني وآيكنبيري

كبحٌ في غير مَوْضِعه: ائتلافُ كْوِينْسِي في مواجهة النَزعة الأُممية الليبرالية:

يُقدّم جون آيكنبيري ودانيال دودني هنا قراءةً نقديةً في مجموعةٍ من المدارس الفكرية التّي باتت تعرضُ نفسها كبديلٍ أنسب عن النَزعة الأُممية الليبرالية في تشكيل السياسة الخارجية الأمريكية وتوجيهها. يأخذ التأثير المتنامي لهذه المدارس هذه المرّة طابعًا مؤسّساتيًا في شكل مراكز دراسات أو مراكز سياسات بحثيّة مُموّلة بشكلٍ جيّد. يركّز المقال على “معهد كْوِينْسِي لفنّ الحكم المسؤول” الذّي تأسّس سنة 2019 بالعاصمة واشنطن ويرأسه حاليًا الباحث المخضرم أندرو باسيفيتش. يتبنّى المعهد أجندةً تدعو إلى ضرورة تحلّي واشنطن بمزيدٍ من ضبط النفس في سياستها الخارجية، تجنّب الوقوع في فخّ إغراء القوة، عدم عسكرة السياسة الخارجية، إنهاء حروبها غير الضرورية وغير المنتهية، كما يرى بأنّ على أمريكا أن تتوّقف «عن الذهاب للخارج بحثًا عن الوحوش لأجل تدميرها»، على حدّ تعبير الرئيس الأمريكي الأسبق جون كوينسي آدامز الذّي سُميّ المعهد تيّمنًا به استلهامًا من سياسته الخارجية الداعية إلى الكبح وضبط النفس آنذاك. يضّم المركز ما يراه كلّ من دودني وآيكينبري “ائتلافًا غريبًا” يشمل “الليبرتاريّين (التحرّريين/libertarians)، والواقعيّين، والتقدّميين-اليسارّيين مناهضيِ النزعة الإمبريالية والنزعة التدخلّية العسكرية. بالرغم من التحدّي الذّي يُشكّله هذا “الائتلاف” على مكانة النَزعة الأُمميّة الليبرالية وتأثيرها في سياسة البلد الخارجية، إلاّ أنّ الكاتبين يُحاجّان هنا بأنّه ائتلافٌ مليء بالمتناقضات والنقائص وسيكون مصيره الفشل، فضلاً أنّه يُقدّم أجندةً غير قادرةٍ على استيعاب التحوّلات العالمية الجديدة وبأنّ النَزعة الأُمميّة الليبرالية، في المقابل، لاتزال قادرةً على تقديم الحلول الأنسب لمشكلات السياسة الخارجية الأمريكية والنظام العالمي ككلّ.

ينقسم المقال إلى تسعة محاور. يُعرّف المحور الأول “بائتلاف كوينسي”، حيث يصفه الكاتبان “بالائتلاف الغريب” ظاهريًا بين تيّاراتٍ ذات منابع مختلفة ووجهات نظرٍ متباينةٍ تجاه قضايا عدّة، لكنّها تشترك جميعًا في نقدها للسياسة الخارجية الأمريكية ومطالبتها بمزيدٍ من الكبح/ضبط النفس تجنّبًا لحرب عراقٍ أخرى وتقليصًا للتدخّلات العسكرية الأمريكية عبر العالم. يتّحِدُ الائتلاف في معارضة مشروع النزعة الأُمميّة الليبرالية التّي تبنّته الولايات المتحدّة وقادته على مدار السبعين عاماً الماضية والذّي تجسّد في النظام الدولي الليبرالي. لذا، يُمثّل الائتلاف تحدّيًا جذريًا لهذا المسار، حتّى أنّ انسحاب الرئيس جو بايدن من أفغانستان (وخطّة ترامب السابقة للقيام بذلك) بدا وكأنّه استجابةٌ لإرشادات هذا الائتلاف. يرى المقال أيضاً بوجود تناسقٍ فكريٍ بين دُعاة الكبح وسياسات ترامب السابقة، على غرار إدانة حرب العراق والتدخّل الأمريكي في البلدان البعيدة، والتشكيك في أهميّة الناتو وكذا الاتفاقيات الأمنية مع اليابان وكوريا الجنوبية، رفض المؤسّسات الدولية، الانسحاب من العديد من اتفاقيات الحدّ من الأسلحة، إلخ. فسياسة ترامب “أمريكا أوّلاً” كانت تنفيذًا جريئًا –وإن كان فظًّا- لرؤية ائتلاف كوينسي الأساسية، وإن لم يُشد الائتلاف بسلوك ترامب. يُجادل المقال أيضًا بأنّ رؤى الائتلاف مَعيبةٌ وقاتلة، إنّه يعاني من قصورٍ في فهم منابع النجاح الأمريكي في القرن العشرين، لذا فأجندته للسياسة الخارجية أجندةٌ رجعيةٌ عفا عليها الزمن إلى حدٍّ بعيد، سيؤدّي اتبّاعها إلى الاضرار بالمصالح الأمريكية الأساسية، كما سيضرّ المؤسّسات الدولية ويُقوّض الديمقراطية الليبرالية وحقوق الإنسان على المستوى العالمي.

يشرح الباحثان في المحور الثاني ماهية النزعة الأُمميّة الليبرالية مُحاججين بقدرتها على حلّ الأزمات الراهنة كما فعلت الليبرالية سابقًا عبر مسارها التاريخي الطويل، ذلك أنّ الليبرالية تتميّز بمحاولة ربط التزاماتها، قِيمها وأهدافها المركزية بالتطوّرات العالمية الجديدة التّي انبثقت عن الثورة الصناعية والثورات التّي أعقبتها. لقد أنتجت هذه الثورات تناميًا غير مسبوقٍ للاعتماد المتبادل وعلى نطاقاتٍ أوسع من ذي قبل، وهذا ما يتطلّب في نظر الأُمميّة الليبرالية تدابيرًا جديدةً وغير عاديّةٍ لتأمين وتحقيق تلك القيم والأهداف الليبرالية الأساسية. يُنادي الليبراليون المعاصرون والأمميّون الليبراليون بالاقتصاد المُختلِط الذّي يجمع بين الرأسمالية والتنظيم الحكومي الشامل المُصمَّم بعناية لكونه ضروريًا لازدهار الرأسمالية والحفاظ على القيم المركزية للديمقراطية الليبرالية. فمشاركة الحكومة في تنظيم الاقتصاد والحياة العامّة تأتي ضمن محاولة تقليص الآثار السلبية للثورات الصناعية وما تلاها من مُخرجات. لقد غيّرت هذه الثورات أيضًا عالم السياسة الدولية بطرقٍ ثوريةٍ في نظر الليبراليّين المعاصرين. أدّت مثلاً إلى تضخّم مستويات العنف، وتنامي الاعتماد المتبادل، والانتشار السريع للتهديدات والمخاطر كالإرهاب العابر للحدود، وانتشار الأسلحة التقليدية وغير التقليدية، والجوائح، وتغيّر المناخ وغيرها. لذا لم يعد القانون الدولي لوحده كافيًا لتخفيف حدّة الصراع الدولي، وكبح العنف والحروب، ومنع الكوارث الحضارية الكبرى. هذا ما جعل الأُمميّين الليبراليّين يركزّون في مشروعهم على المؤسّسات الدولية كوسيلةٍ لضبط النفس، فأنشأوا عصبة الأمم ثمّ هيئة الأمم المتحدّة بعدها، وغيرهما من المؤسّسات. كلّها كانت محاولاتٌ من طرف الليبراليين للتكيّف مع الحقائق الجديدة، أثمرت نظامًا دوليًا ليبراليًا حافظ على السلام الدولي، ومنع الحروب الكبرى بين القوى العظمى، وحقّق انجازاتِ نموٍ وازدهارٍ طالت غالبية الأمم طيلة السبعين عامًا الماضية. ومع المشكلات العالمية الجديدة يجادل المقال بقدرة الأجندة الأُمميّة الليبرالية على تقديم حلولٍ مستدامة لها في مقابل عجز أجندة “ائتلاف كوينسي” عن القيام بذلك.

أمّا المحور الثالث فيُؤكّد وجود “شَرَاكةٍ غريبة” بين مدارس ائتلاف كوينسي، فمدارسه الثلاث لها وجهاتُ نظرٍ متباينةٍ تجاه مواضيع عدّة، على غرار نظرتها للدولة ومركزيّتها، ومدى تدخّلها في الاقتصاد والحياة العامّة، ومسألة المساواة الاقتصادية وتنظيم نشاط السوق، إلخ، لدرجة وجود تناقض فيما بينها. هكذا يرى المقال بأنّ الائتلاف مدفوعٌ بوجود أعداءٍ مُشترَكين بدلاً من وجود رؤيةٍ مشترَكة لمدارسه تجاه هذه القضايا، الأمر الذّي يجعله مليئًة بالقصور، خلافًا للأُمميّة الليبرالية ذات التماسك والبرنامج الأنسب للواقع العالمي المعاصر. 

يُخصّص المقال بعدها كلاًّ من المحور الرابع والخامس والسادس والسابع للتعريف بمدارس الائتلاف الثلاث، ونقدها وإيضاح مواطن عجزها على التوالي. تتمثّل المدرسة الأولى في الليبرتارية/التحرّرية (Libertarianism) التّي تبلورت كمشروعٍ فكريٍ خلال القرنيْن 19 و20م، يعتبرها المقال شكلاً متطرّفًا من أشكال الليبرالية، فهي إيديولوجيةُ المِلكيّة الخاصّة، والسوق الحرّ ورأس المال. تنظر الليبرتارية إلى دولة الرفاهية الديمقراطية الليبرالية على أنّها مُنحدرٌ زلقٌ نحو الشمولية، لذا فهي تُعارض أيّ شكلٍ من أشكال تدخّل الحكومات في الاقتصاد أو الشؤون العامّة ولو بداعي تحقيق استقرار الاقتصاد الكلّي ونموّه. يُعدّ كلٌّ من فريدريك هايك وميلتون فريدمان من كبار روّادها في الاقتصاد، أمّا في العلاقات الدولية فيُشير المقال إلى باحثيِ “معهد كاتو” بشكلٍ أساسيٍ كأحد أبرز دُعاتها أمثال كريستوفر بريبل وتيد كاربنتر. وفقًا للمقال، يحمل ليبرتاريّيِ العلاقات الدولية الأمريكيّين أجندةً أقرب للسلبية تجاه النظام الدولي، فمنطلقاتهم الفكرية جعلتهم يُعارضون سابقًا إنشاء عصبة الأمم وهيئة الأمم المتحدّة، ويقاومون الجهد الدولي لتطوير العالم الثالث ما بعد حقبة الاستعمار، ويعترضون على مساعدات التنمية والجهود المبذولة لبناء نظامٍ اقتصادي دوليٍ جديدٍ من شأنه أن يُنظّم التجارة الدولية لمساعدة المجتمعات النامية على التقدّم. خلال الحرب الباردة وما بعدها، عارض الليبرتاريون الأمريكيّون بشدّة الاتفاقيات الدولية المُلزِمة بالحدّ من التسلّح باعتبارها غير ضروريةٍ وخطيرة، كما رأوا بانتهاء صلاحية الناتو بعد زوال التهديد الشيوعي. أصبح الاتّحاد الأوروبي هدفًا لهم بعدها، فقد عارضوا بشكلٍ شاملٍ القانون الدولي وإنشاء المنظمّات بجميع أنواعها تقريبا. يُجادل دودني وآيكنبيري بأنّ لللبرتارية فهمٌ ناقصٌ للواقع نظرًا لتجاهلها ارتفاع مستويات الترابط المحلّي والدولي (الانتشار النووي، الجوائح، إلخ..)، فلهذا الترابط آثارٌ سلبيةٌ كبيرةٌ على الولايات المتحدّة والعالم كلّه. لمعالجة هذه الآثار لابّد من التعاون والمؤسّسات مثلما يحاجُ الأُمميّون الليبراليون. تقود أفكار الليبرتاريّين إلى حدوث تفاوتٍ شديدٍ في الثروة يؤدّي بدوره إلى الحدّ من الحريّة التّي يحرصون عليها أساسا، إذ ستكتسب النخبة الثريّة سلطةً سياسيةً واقتصاديةً مُفرطةً على حساب الجميع. لهذا يُدافع الأُمميّون الليبراليون عن ضرورة ممارسة الحكومات لدورٍ تنظيميٍ في المجتمعات الرأسمالية للحيلولة دون انقسامها إلى طبقات. أمّا على الصعيد الدولي فيَنتج عن هوّة عدم المساواة بين الدول (ثريّة وأخرى فقيرة) تسلسلٌ هرميٌ دوليٌ يسود فيه الأغنياء ويخضع فيه الفقراء بدلاً من نشوء نظامٍ للحريّة.

أمّا عن المدرسة الواقعيّة فيصفها المقال بالتقليد القديم الذّي يُشبه “خيمةً واسعةً” تضمّ العديد من الاختلافات حول الموضوع الأساسي، بعضها مُعادي تمامًا لبعضها الآخر، فهي مدرسةٌ غيرُ مُتسّقةٍ مع ذاتها. يُقدّم المقال مثالاً عن ذلك بالاختلافات القائمة بين الواقعيين روّاد مقاربة الهيمنة (ثيوسيديدس، كار، غيلبين، وولفورث) وبين الواقعيين دعاة مقاربة توازن القوى (ميكيافلي، روسو، والتز، باوزن، وولت)، فالنظام الدولي ينشأ من نمط تمركزات القوة بالنسبة للأوائل، بينما ينبع من معارضة تركيز القوة ومن التكوينات المُوزَّعة والمتوازنة للقوة بالنسبة للفصيل الثاني. يُعدّ الكبح/ضبط النفس أمرًا أساسًا لكلّ منهما في نظرته للنظام، ولكن يُفسّرون حدوثه بطرقٍ متعاكسة، كما يوجد اختلافٌ كبيرٌ بينهما حول المؤسّسات الدولية، فيراها مُنظرّو الهيمنة بأنّها تعبيراتٌ عن الهيمنة، بينما ينظر إليها مُنظّرو التوازن بعين الشكّ على أنّها قيودٌ على حريّة الدولة في التصرّف. ينفي المقال ادّعاءات الواقعيّين الأمريكيّين القائلة بتعرّضهم للتهميش في السياسة الخارجية الأمريكية. بالعكس لقد كان لهم تأثيرٌ كبيرٌ فيها وفي الاستراتيجية الكبرى للبلاد، فخلال فترة الحرب الباردة كان لواقعيّين أمثال كينان، مورغانثو، تاكر وكيسنجر تأثيرٌ غير عاديٍ في توجيه إستراتيجية الولايات المتحدّة. بعد الحرب الباردة تحوّل الواقعيّون لمعارضين ونقّاد، إذ عارضوا مثلاً توسيع الناتو، استخدام واشنطن للقوة حينما لا تكون مصالحها الأساسية على المحكّ، كما حذّروا من المبالغة في استخدام القوة بعد هجمات 11 سبتمبر في سياق محاربة الإرهاب. مع غزو العراق، استعاد الواقعيّون دُعاة ضبط النفس زخمهم، إذ كانت حرب العراق حالةً نموذجيةً لكارثةٍ ناتجةٍ عن قوّةٍ غير مُقيّدةٍ وأجندةٍ ليبراليةٍ مُوسّعة. مع ذلك يَعتبر المقال الواقعيّين دُعاة مقاربة الهيمنة (لا الأممّيين الليبراليين) بمثابة المُحرّكين الرئيسيّين لتلك الحرب، فلم يكن مُهندسو الحرب (تشيني، رامسفيلد، وولفوفيتز) أُمميّين ليبراليّين، بل كانوا متأثرّين بالواقعيّين دُعاة مُقاربة الهيمنة، إذْ لم يكن دَمَقرطة العراق هدفهم ودافعهم الرئيسي للحرب، بل كان مجرّد شعارٍ للاستهلاك المحلّي، لقد كانوا يسعون للحفاظ على التفوّق الأمريكي وتوسيعه في الشرق الأوسط لمواجهة القوى التعديلية الكبرى. كانت حرب العراق حربًا واقعيةً أكثر بكثير من كونها حربًا ليبرالية، وقد عارضها العديد من الأُمميّين الليبراليّين الأمريكيّين والأوروبيّين على حدٍّ سواء. ينتقد المقال أيضًا مقاربة “التوازن خارج المجال”(Offshore Balancing) ، ودعوتها واشنطن لتفكيك الكثير من تحالفاتها وقواعدها العالمية، وتَرْكُ الأوروبيّين والحلفاء الآسيويّين يتحمّلون تكلفة الدفاع عن أنفسهم لكونهم أثرياء بما فيه الكفاية، وتجنّب الدخول في صراعاتٍ لا علاقة لها بالمصالح الأمريكية الأساسية والأمن القومي. هكذا يصف دودني وآيكنبيري الواقعيّين بأنّ لهم فهمًا ناقصًا بشكلٍ خطيرٍ للقوى الرئيسية التّي تلعب أدوارًا في السياسة العالمية، كما تتمثّلُ أكبر عيوبهم في عدم استيعابهم بأنّنا نعيش عالمًا مختلفًا عن العالم القديم، عالمٌ يتميّز بالترابط الشديد والاعتماد المتبادل، وبأنّ مفهوم الفوضى(Anarchy)  ببساطة غير قادرٍ على توفير قيودٍ مناسبةٍ وكافية.

أمّا بالنسبة للتقدّميّين الديمقراطيّين اليساريين المناهضين للنزعة الإمبريالية والمناهضين للنزعة التدخليّة، فهم ينتمون إلى تقليدٍ عريقٍ ترجع جذوره إلى الثورة الأمريكية وله تأثيرٌ في الفكر الجمهوري والديمقراطي على حدٍّ سواء. كانت الثورة الأمريكية مناهضةً للإمبريالية بعمق ولسيطرة شعب على آخر، وَجدت أُسسها المعرفية في أفكار مونتيسكيو المناهض للإمبريالية. ظلّ لهذه النظرة تأثيرٌ على السياسة الخارجية الأمريكية ووُصفت بأنّ لها ميولاً انعزالية نظرًا لمعارضتها الانخراط في حروبٍ خارج الحدود. إلاّ أنّ هذا التقليد دُفع إلى الهامش بعدما صارت الولايات المتحدّة بمثابة “ترسانة الديمقراطية” في العالم وانخرطت في حروبٍ ضدّ الفاشية أولاّ، ثمّ الشيوعية أثناء الحرب الباردة. بحلول ستينيات القرن 20م ومع حرب فيتنام والتدخّلات العسكرية الأمريكية الأخرى ضدّ الشيوعية انتعش هذا التقليد، إذ رأى البعض بأنّ “السلام الأمريكي” Pax Americana)) يُعدُّ نوعاً جديداً من الإمبراطورية. ومع تنامي الاعتماد العالمي على نفط الشرق الأوسط وتوسّع التحالفات العسكرية الأمريكية في المنطقة تشكّلت نسخٌ مُحَيّنَة لهذا التقليد ومُعارِضة للالتزامات الأمريكية العالمية. يشير المقال إلى بعض الأسماء الرائدة الحديثة لهذا التقليد على غرار نعوم تشومسكي، صامويل مورين، جون موريفيلد، ستيفن وِيرثايْم وغيرهم. يُقدّم المؤرّخون المنتمون لهذا التقليد سرديةً مغايرةً تماماً للتاريخ الأمريكي مقارنةً بالسردية الليبرالية له، إذ يُصوّرون أمريكا باعتبارها “إمبراطوريةً على طول الخطّ” بُنيت عبر الهيمنة على الشعوب الأصلية، والعبيد والعمّال الأفارقة. شكّك هؤلاء اليساريّون بعد الحرب الباردة في عمليات حفظ السلام الأمريكية والتدخّل الإنساني وترويج الديمقراطية، واصفين إيّاها بالكولونيالية الجديدة. يُجادل المقال بأنّ انتقادات هذا التقليد للسياسة الخارجية الأمريكية تحمل طابعًا ديمقراطيًا ليبراليًا واضحًا، حيث يستخدم هؤلاء اليساريّون قيمًا ديمقراطيةً ليبراليةً قويّةً للحُكم على اخفاقات وعيوب المؤسّسات الأمريكية والسلوك الأمريكي الفعلي، وإن كانوا يُضمرون عداءً صارمًا للرأسمالية واقتصاد السوق. لقد فشل هؤلاء اليساريون في إدراك أنّ الديمقراطية الشعبية والحركات الثورية التّي يُفضّلونها غالبًا ما تكون عدّوًا للنزعة الدستورية الحكومية المحدودة وحماية حقوق الأقليّات التّي يدافعون عنها، كما فشلوا في إدراك أنّ النضال الدؤوب ضدّ الشرور الكبرى كالفاشية والشيوعية يتطلّب التسامح مع أوهن الشرور، مثل دعم واشنطن الظرفي للدكتاتوريات المُعادية للشيوعية.

 

بعد مناقشة ونقد المدارس الثلاث، يُناقش المحور الثامن المنابع الليبرالية المعاصرة للنجاح الأمريكي، فيُجادل بأنّ الليبراليّين المعاصرين يُقدّمون سرديةً تاريخيةً أدّق وبنّاءةً أكثر للمشروع الأمريكي ونجاحه. لقد كانت الأُسس الليبرالية التقدّميّة هي السبب التّي جعلت أمريكا عظيمةً في نهاية المطاف، هي التّي كانت وراء توسّع الحريّة الأمريكية، وانتصارها في الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة وهي التّي جلبت سلامًا وازدهارًا لم يسبق له مثيل للنظام الدولي. لم يكن ليحدث ذلك لو أَفشَلت المعارضة الليبرتارية مثلاً منذ البداية مشروع إنشاء عصبة الأمم وما بعدها. لقد اعتمد النجاح الأمريكي العالمي على مزيجٍ من القوة الخام والأفكار الليبرالية ومشاريع النزعة الأُمميّة الليبرالية ومُثل أمريكا الليبرالية الجذّابة.

في المحور الأخير، يُجادل الكاتبان بمَيْل الرئيس الأمريكي جو بايدن لتبنّي طروحات الأُمميّة الليبرالية ويحثّانه على ذلك لكونها تدّعم جدول أعماله الذّي تحدّث عنه، فهي القادرة على إعادة الولايات المتحدّة إلى مركز القيادة الليبرالية العالمية ومعاجلة مشاكل القرن الحادي والعشرين، خلافًا لأجندة ضبط النفس السبلية التّي يُقدّمها ائتلاف كوينسي، وغير المواتية في الوقت الحالي، لاسيما مع الصعود المتسارع للصين والمشكلات العالمية الراهنة، ليتوّقع الكاتبان في النهاية بانتعاش النزعة الأُمميّة الليبرالية نسبيًا بسرعة خلال الحقبة القادمة.

 

الانتصار للنزعة الأُمميّة الواقعية: ردٌ على مقال دانيال دُودْنِي وجون آيْكِنْبِيري:

في شهر يوليو 2021 نشر كلٌّ من دانيال دودني وجون آيكينبري (وهما من الدعاة البارزين للنزعة الأُمميّة الليبرالية) مقالاً بعنوان “كبحٌ في غير موضِعه: ائتلاف كْوِينْسِي في مواجهة النَزعة الأُممية الليبرالية”. يُقدّم المقال نقدًا لاذعًا لدُعاة “مقاربة الكبح/ضبط النفس” الواقعيّين (وغير الواقعيين) في السياسة الخارجية الأمريكية، أو ما سَمّاه الباحثان “بائتلافِ كْوِينْسِي”. تُنسب هذه التسمية لجون كوينسي آدامز، الرئيس السادس للولايات المتحدّة الذّي يُعتبر المُلهم الأول لدعاة مقاربة الكبح المعاصرين أمثال جون ميرشايمر وستيفن والت وأندرو باسيفيتش وستيفن وِيرثايْم وإيما أشفورد وأناتول ليفين، وقد أُنشأ في سنة 2019 “معهد كوينسي لفنّ الحكم المسؤول” ليستقطب أمثال هؤلاء الباحثين الداعين إلى ضرورة تحلّي واشنطن بمزيدٍ من ضبط النفس في سياستها الخارجية وتجنّب الوقوع في فخّ إغراء القوة وعدم عسكرة السياسة الخارجية وإنهاء حروبها غير الضرورية وغير المنتهية. يضّم المعهد ما يراه كلٌّ من دودني وآيكنبيري “ائتلافا غريبًا” يشمل “الليبرتاريّين (أو التحرّريين) والواقعيّين والتقدّميين اليسارّيين من مناهضيِ النزعتيْن الإمبريالية والتدخلّية العسكرية. بالرغم من التحدّي الذّي يُشكّله هذا “الإئتلاف” على مكانة النَزعة الأُمميّة الليبرالية وتأثيرها في سياسة البلد الخارجية، إلاّ أنّ الكاتبان جادلا بأنّه ائتلافٌ مليء بالمتناقضات والنقائص وسيكون مصيره الفشل، فضلاً أنّه يُقدّم أجندةً غير قادرةٍ على استيعاب التحوّلات العالمية الجديدة وبأنّ النَزعة الأُمميّة الليبرالية التّي يدعوان لها، في المقابل، لاتزال قادرةً على تقديم الحلول الأنسب لمشكلات السياسة الخارجية الأمريكية والنظام العالمي ككلّ.

في المقابل، يأتي مقال أناتول ليفين (الواقعي المنتسب لمعهد كوينسي) كردٍّ على مقال دودني وآيكنبيري ونقدٍ لنزعتهما الأُمميّة الليبرالية، ودفاعًا عمّا يُسمّيه بـ “النزعة الأُمميّة الواقعية”، ليُساهم بذلك في تجديد المناظرة والجدل القائم بين الليبراليّين والواقعيّين بخصوص الكيفية التّي ينبغي أن تتعامل بها الولايات المتحدّة في سياستها الخارجية وطبيعة نظرتها لنفسها ولمكانتها في العالم.

ينقسم مقال ليفين إلى خمسة أقسام. يُناقش القسم الأول مسألة “الائتلاف” في حدّ ذاته. لقد إدّعى دودني وآيكنبيري بعدم وجود وحدةٍ إيديولوجيةٍ “لائتلاف كوينسي” وبأنّه مليء بالتناقضات. يُجادل ليفين بأنّ في كلا الادعاءين مغالطةٌ عميقة، حيث لا يقوم “ائتلاف كوينسي” على وحدةٍ إيديولوجيةٍ، بل يجتمع أعضاؤه على الاتفاق في بعض القضايا، لاسيما المتعلّقة برفضهم للهيمنة الأمريكية والتدخّل العسكري الغربي، بينما يختلفون في قضايا خارجيةٍ وداخليةٍ أخرى كاختلاف بعض أعضاء كوينسي الواقعيّين واليساريّين مع أعضاء معهد كاتو الليبرتاريّين في أجندتهم التحرّرية الداخلية. كما أنّ فكرة الائتلاف هذه ليست بدعةً جديدة، فقد تكوَّن في الماضي ائتلافٌ عارض حرب فيتنام، ضمّ واقعيّين من أمثال رينِولد نيبور والسيناتور جيه ويليام فولبرايت، وطلاّب تيّار “اليسار الراديكالي من أجل مجتمعٍ ديمقراطي”، كانوا مختلفين بشدّةٍ حول قضايا عديدة لكنّهم اتّفقوا جميعًا بأنّ التدخّل العسكري الأمريكي في فيتنام كان خطأً كارثيًا له عواقبٌ إجرامية، وقد كانوا على حقّ. بنفس الطريقة اتّفق أعضاء معهد كوينسي وحلفائهم على معارضة التدخّل العسكري الأمريكي ومسألة “بناء الدولة” في أفغانستان والعراق وليبيا، ثمّ أثبتت الأيّام أنّهم على حقٍّ أيضًا.

علاوةً على ذلك، فإنّ الأُمميّين الليبراليّين ذاتهم جزءٌ من ائتلافٍ نشأ بحكم الواقع، ففي دعمهم للهيمنة الأمريكية العالمية والنزعة التدخليّة يشكّلون أجندةً مشتركةً مع كلٍّ من المحافظين الجدد والأصوليّين الدينيّين والإمبرياليّين الأمريكيّين.

إضافةً لذلك يصف الكاتب ادعاء دودني وآيكنبيري بوجود “أُلفةٍ وتقاربٍ بين معهد كوينسي والرئيس السابق دونالد ترامب” بالادعاء السخيف والمُشوّه، مُقدِّمًا أمثلةً عن التضارب التّام بين سلوكيات ترامب وما كان يدعو إليه أعضاء المعهد. على سبيل المثال، مزّق ترامب الاتفاق النووي مع إيران، بينما رافع معهد كوينسي بقوةٍ لأجل عقد صفقةٍ وإيجاد تسويةٍ عقلانيةٍ مع إيران. منح ترامب “لإسرائيل” والسعودية والإمارات دعمًا غير مشروطٍ، في حين ينتقد المعهد بشدّة شروط هذه الشَراكات وسلوكيات الشركاء أنفسهم في المنطقة كالتدخّل السعودي في اليمن. تبنّى ترامب تجاه الصين برنامجًا مُعاديًا بشدّة، في حين دعا المعهد إلى الحذر والبراغماتية في علاقات الولايات المتحدة مع الصين وإلى مواصلة التعاون مع بيجين حيثما كان ممكنا. بل يذهب الكاتب إلى القول بأنّ سياسات ترامب كانت تحمل سماتٍ كاملةٍ للنزعة الأُمميّة الليبرالية التّي يدافع عنها آيكنبيري وحلفائه. وفي الوقت الذّي تستمر فيه إدارة بايدن في السير على خطى إدارة ترامب بشنّها “لحربٍ باردةٍ جديدةٍ” ضدّ الصين (والتّي يُرافع لأجلها دودني وآيكنبيري)، يرى معهد كوينسي بأنّها حربٌ عبثيةٌ تستمر في تثبيت المُجمّع العسكري-الصناعي الأمريكي وتبذير تريليوناتٍ أكثر على برامجٍ عسكريةٍ غير ضروريةٍ مُصمَّمةٍ لتنفع الشرِكات الأمريكية بدلاً من الدفاع عن الأمن الفعلي للمواطنين الأمريكيّين الفعليّين.

ينفي الكاتب أيضًا ادّعاء دودني وآيكنبيري مهاجمة المعهد لهيئة الأمم المتحدة ونقده لدورها في تعزيز التعاون الدولي، وكذا معاداته للاتحاد الأوروبي. في الحقيقة لا يؤمن ليفين وزملاؤه بأنّ الأمم المتحدّة ستصير يومًا ما “حكومةً عالمية”، كما يرون بأنّ محاولة تحويل الإتحاد الأوروبي من كونفدرالية فضفاضةٍ إلى نمطٍ من الدولة الخارقة كان خطأً خلق ردود فعلٍ عكسيّةٍ خطيرةٍ ومؤسفةٍ في العديد من بلدان الاتحاد الأساسية. يشير الكاتب بأنّ دودني وآيكنبيري يتعمّدان الخلط بين الأُمميّين الواقعيّين والليبرتاريّين المحليّين، ويتهمّان بوضوح الواقعيّين بمعارضتهم لإجراءات التعاون الدولي. وفقًا للكاتب، فلا الواقعيّين القدماء ولا المعاصرين عارضوا إجراءات عمل منظماتٍ دوليةٍ كالصحة العالمية واليونيسكو أو أنكروا التغيّر المناخي أو عارضوا إجراءات التلقيح ضدّ كوفيد-19، كما يؤكّد بأنّ الاختلاف القائم بين النزعة الأُمميّة للليبراليّين والنزعة الأُمميّة للواقعيّين يكمن في الفهم المختلف تمامًا بخصوص أيّ “نزعةٍ أُمميّة” بالضبط تساهم على نحوٍ أفضل في تحقيق السلام الدولي والتنمية والتعاون، مُتابعةً للأهداف الإنسانية الجوهرية. كما يكمن الاختلاف في المواقف المختلفة للطرفيْن تجاه مسار السياسة الخارجية والأمنية للولايات المتحدة وحلفائها، فلطالما أكدّت الواقعية على الحكمة والتروّي والكبح والابتعاد عن العجرفة في السياسة الخارجية والأمنية، وكلّها ليست مرادفات للشوفينيّة القومية والانعزالية الفجّة ومعارضة التعاون الدولي التّي حاول دودني وآيكنبيري إلصاقها بالواقعية. يستلهم معهد كوينسي توجّهه من واقعيّين كانوا ذوي نزعةٍ أُمميّةٍ على رأسهم نيبور وموغانثو وكينان وفولبرايت، لكنّهم كانوا أمميّين بطريقةٍ تختلف عن أُمميّة آيكنبيري وحلفائه، فقد عارضوا الشيوعية بعمق، لكنّهم عارضوا أيضًا النزعة التدخليّة العسكرية للولايات المتحدة والهيمنة باسم مناهضة الشيوعية، على رأسهم كينان الذّي أنكر تحوّل إستراتيجية الاحتواء (التّي صاغها) إلى نزعةٍ عسكريةٍ وبارانويا وتعصّبٍ إيديولوجيٍ وطُموحٍ إمبرياليٍ للولايات المتحدة، حيث عارض بعد نهاية الحرب الباردة توسّع الناتو باتجاه الكتلة السوفياتية السابقة مُحاججًا بأنّ ذلك لم يكن ضروريًا للأمن الغربي وسوف يؤدّي بشكلٍ حتميٍ إلى انهيارٍ خطيرٍ عالي المستوى في العلاقات مع روسيا، خلافًا لما دعا له الأُمميّون الليبراليون.

في القسم الثاني يُدين ليفين النزعة الأُمميّة الليبرالية ويُحمّلها قسطًا كبيرًا من المسؤولية عن الجوانب المدمّرة للغاية للسياسة الخارجية الأمريكية خلال الجيل الماضي، كما يُدين عجزها عن فهم البلدان الأخرى سواءً تلك المنافسة لواشنطن أو تلك التّي كانت مواضيعًا لسياساتها وتدخّلاتها، كما ينفي ادعاء دودني وآيكنبيري ارتباط الواقعية بالمحافظين الجدد وكوارث حربيْ العراق وأفغانستان ويُثبتُ العكس تمامًا، أيْ ارتباط الأُمميّين الليبراليّين بسياسات المحافظين الجدد وكوارثهم. يُجادل ليفين بأنّ الهيمنة العسكرية الأمريكية والنزعة الأُمميّة الليبرالية مترابطتين، لا يمكن تبنّي إحداهما دون الأخرى، ويجمع بينهما النزعة القومية الإيديولوجية الأمريكية. تُغطّي النزعة الأُمميّة –في نظره- على النزعة الإمبريالية الأمريكية وتُوفّر لها الأسس الإيديولوجية لتبرير الحروب العدوانية الأمريكية على الشعوب الأخرى وتشتيت الانتباه والمال وتحويله عن الحاجات المحليّة الطارئة وزيادة العدوانية الدولية وإعاقة التعاون الدولي وتقويض احترام القانون الدولي.

ينفي الكاتب أيضًا ذلك الارتباط الذّي أقامه دودني وآيكنبيري بين منظرّي مقاربة “الهيمنة الواقعييّن” وبين “المحافظين الجدد” وحروبهم، فمنظرّي هذه المقاربة أدانوا بشكلٍ مستمرٍ ممارسة الهيمنة الأمريكية عبر العالم بما فيها منطقة الشرق الأوسط، بل ما حدث هو العكس تمامًا، فقد تواطئ الأُمميّون الليبراليون مع المحافظين الجدد ودعموا مسألة “بناء الدولة الديمقراطية” التّي تبنّوها في أفغانستان والعراق وليبيا، فكانت لغة النزعة الأُمميّة الليبرالية تتخلّل الحجج العامّة لإدارة بوش الابن في غزوه للعراق، كنشر الديمقراطية وتغيير النظام. باختصار، كانت “أجندة الحريّة” التّي تبنّتها إدارة بوش من أجل الشرق الأوسط أجندةً أُمميّةً ليبراليةً بامتياز.

علاوةً على ذلك يصف الكاتب مقال دودني وآيكنبيري بكونه صدى لخطاب توني بلير الذّي ألقاه أمام الكونغرس الأمريكي سنة 2003 تحت عنوان “عقيدة المجتمع الدولي”، كان خطابه المبرِّر لحرب العراق يحمل تصوّرات الأُمميّين الليبراليّين، حيث جعل من القيم الليبرالية قيمًا عالميةً، لا غربيّةً فحسب، وقسّم العالم إلى ديمقراطياتٍ مدافعةٍ عن الحريّة، وديكتاتورياتٍ مدافعةٍ عن الاستبداد. كانت أفكار الأُمميّين الليبراليّين أيضًا وراء كارثة ليبيا وما أحدثته من تداعياتٍ في جوارها وفي أوروبا، فإسقاط نظام القذّافي كان مُبرَّرًا بفكرة “مسؤولية الحماية” التّي يُدافع عنها هؤلاء. هكذا يخلص الكاتب هنا بأنّ السلوكيات الأمريكية الكارثية القائمة على أُسسِ دعم “نقاءِ وخيريّةِ” دوافع النزعة الأُمميّة الليبرالية لن تتمكّن من غسل الأيادي ممّا حدث من مآسي لهذه الدول وشعوبها.

في القسم الثالث يتحدُّث الكاتب عن ما سمّاه بــ “أوجه القصور الفكرية للنزعة الأُمميّة الليبرالية”، حيث يرى بأنّ دعاة الأُمميّة الليبرالية لا يهتمّون بدراسة ثقافات وتقاليد البلدان الأخرى، ولديهم دافعٌ عاطفيٌ لا شعوري قويّ لعدم دراسة هذه البلدان، فالأُمميّون الليبراليون يؤمنون بأنّ الديمقراطية الليبرالية ذات الطراز الغربي هي الشكل الوحيد القيّم والشرعي للحكم بالنسبة لأيّ مجتمعٍ بشري، وبأنّ كلّ مجتمعٍ في هذا الزمن قادرٌ على تبنّي الديمقراطية الليبرالية، بل وأنّ التقدّم البشري يعتمد بشكلٍ كاملٍ على الديمقراطية الليبرالية. هكذا فإنّ غائيّة الأُمميّين الليبراليّين ساهمت في الرفض الأعمى طيلة عشرين سنةً لدراسة تاريخ أفغانستان وثقافتها، وحالت دون التعلّم من المحاولات الفاشلة السابقة لخلق دولةٍ أفغانيّةٍ حديثةٍ أو التعلّم من نجاح طالبان. بدلاً من ذلك تواطأ هؤلاء مع الإدارة الأمريكية لخلق ديمقراطيةٍ زائفةٍ ومجتمعٍ مدنيٍ زائفٍ في أفغانستان سرعان ما تلاشى، بل تواطؤوا أيضًا في خَلْقِ قادةٍ سياسيّين ومثقفين ليبراليّين مزيّفين وانتهازيّين لعبوا دورًا في تدمير البلد وشعبه. بعد كلّ ما حدث من كوارث، لا تزال فئةٌ من الأُمميّين الليبراليّين يدعمون الحملة الغربية في أفغانستان على غرار الكاتبة المعروفة أنّا أبْلِيبُوم التّي كتبت شهر أغسطس 2021 مقالاً بعنوان “الديمقراطية الغربية تستحّق قتالاً من أجلها”، الأكثر من ذلك، تلعب إيديولوجية هؤلاء دورًا حاسمًا اليوم في محو دروس العراق وأفغانستان من الوعي العام الأمريكي، مثلما فعل أسلافهم من قبل مع دروس فيتنام. كلّ ذلك يُظهِر في نظر ليفين «فساد الأُمميّين الليبراليّين وزيف ديمقراطيّتهم».

يُقدّم القسم الرابع أمثلةً عمليّةً عن ضيق الأفق والغطرسة الذّين تتصّف بهما النزعة الأُمميّة الليبرالية مثلما عكستها مقالة دودني وآيكنبيري، حيث يرى لفين بأنّ تجاهل شرعية النظم السياسية الأخرى يُعتبر الجانب الأكثر تدميرًا وخطورةً في إيديولوجية هؤلاء، فهم مُحفَزّون لتدمير النظم “غير الديمقراطية” وإظهارها كعدو، الأمر الذّي يُساعدهم على تبرير ممارسة العدوانية عليهم. لذلك وصف الكاتبان الصين بكونها تُمثّل “تهديدًا شاملاً” للغرب. في هذا الصدد يرى ليفين خلاف ذلك، إذْ لا تُحاول الصين أن تنشر الثورة أو تُخرّب الأنظمة السياسية الأخرى كما كان الاتحاد السوفياتي يفعل، كما أنّ تواجدها الخارجي تواجدٌ اقتصاديٌ ولا تملك خارج بحر الصين الجنوبي إلاّ محطّةً بحريةً واحدةً وصغيرةً في جيبوتي، خلافًا للولايات المتحدة التّي تمتلك قواعدًا عسكريةً عديدةً وكبيرةً ما وراء البحار. علاوةً على ذلك، لا تُجبر الصين الدول الأخرى على تبنّي نموذجها في الحكم، إذ تترك لهم الخيار في ذلك، رغم أنّها خلقت نموذجًا ناجحًا غير مسبوقٍ لتنميةٍ رأسماليةٍ بقيادةٍ استبدادية. لذا يرى ليفين بأنّ التحدّي الذّي يواجه الغرب يتمثّل في تقوية جاذبية نموذجه الخاصّ عبر متابعةِ إصلاحٍ داخليٍ ناجحٍ بدلاً من شنّ حملاتٍ صليبيةٍ ديمقراطيةٍ -مثلما يدعو آيكنبيري وحلفائه- تحتاج دومًا إلى وجود “عدّوٍ مُهدّدٍ” لتبريرها. قد يؤدّي تجاهل الأُمميّين الليبراليّين لشرعية الدول الأخرى غير المرتكزة على “سيادة شعبها” إلى حروبٍ كبرى بين الدول مثلما حدث ذلك سابقًا في الحروب النابوليونية بعد الثورة الفرنسية، حيث رُفعت المُثل السياسية القومية للثورة واختلطت بالنزعة الإمبريالية وأدّت إلى عدوانٍ عسكريٍ فرنسيٍ على الشعوب الأخرى ولّد بدوره ردود فعلِ القوميّين-المحافظين في ألمانيا وغيرها من الدول، طاردت أوروبا بعدها لأجيالٍ وتسبّبت في إنتاج أفظع حروب القرن العشرين، أيْ الحربيْن العالميتيْن.

إضافةً إلى ما سبق، لم يفهم الأُمميّون الليبراليّون، حسب ليفين، بأنّ التدخّلات العسكرية لأمريكا وحلفائها، وما أنتجته من إسقاطٍ لأنظمةٍ وتدميرٍ لدولٍ، عزّزت شعورًا بالشكّ لدى العديد من المواطنين الروس والصينيّين وغيرهم بخصوص النيّات الأمريكية، لذلك فخطابات واشنطن عن نشر الديمقراطية عبر العالم ومواجهة الأنظمة الاستبدادية وتغييرها ستُفهم حتمًا في دولٍ كالصين وروسيا وإيران بأنّها سعيٌ أمريكيٌّ متعَمّدٌ لتدمير هذه الدول بغضّ النظر عن التكلفة التّي ستتحمّلها شعوب هذه الدول. فلا غرابةَ إذن من أن تدعم هذه الدول بعضها البعض ضدّ المصالح الأمريكية وجهود “الدَمقرَطة” العالمية.

أمّا عن مسألة كيفية التعامل مع الصين فيرى ليفين بأنّ آيكنبيري والأُمميّين الليبراليّين يعيشون في “عالمٍ حالمٍ” بدعوتهم الإدارة الأمريكية للتعاون مع الصين في مجالاتٍ مشتركةٍ كملف تغيّر المناخ، ومواجهتها في نفس اللحظة في قضايا أخرى. وفقًا للكاتب، لم تعد الولايات المتحدة قادرة على فرض إرادتها العالمية كما كانت في السابق حينما كانت مُهيمنةً على الاقتصاد العالمي وكان الاقتصاد الصيني ضعيفًا. لقد صار الاقتصاد الصيني اليوم تقريبًا أكبر من نظيره الأمريكي وتراجع الناتج الإجمالي العالمي للولايات المتحدة والغرب من 80% سنوات السبعينيات، إلى 40% اليوم، كما أنّ للصين تعاونٌ اقتصاديٌ عميقٌ مع بقيّة دول العالم. لذلك إذا لم يكن –في نظر ليفين- تعاونٌ هيكليٌ في مجموعةٍ من القضايا الرئيسية بين الولايات المتحدة والصين، فلن يكون هناك تعاونٌ عالميٌ على الإطلاق. كما يخلص إلى القول بأنّ رؤية دودني وآيكنبيري تجاه الصين اليوم صارت لا تختلف كثيرًا عن رؤية المحافظين الجدد وروّادهم على غرار روبرت كاغان الداعي إلى ضرورة مواجهة الصين واحتوائها.

في القسم الأخير ينتقد الكاتب ما يُطلق عليه الأُمميّون الليبراليون بـ “بالنظام العالمي القائم على قواعد”، ويراه نظامًا قائمًا على أسسٍ مهترئة. إنّ سبب استخدام هؤلاء لهذا المصطلح بدلاً من مصطلح “النظام القائم على القانون الدولي” راجعٌ إلى تملّص الولايات المتحدة من العديد من الاتفاقيات الدولية أو رفضها التوقيع عليها، وبالتالي فهي تُفضّل صيغةً مائعةً فضفاضةً كهذه تُمكّنها من تقدير أيُّ القواعد تُفضّل وأيّها ترفض أو تريد أن تكسر. علاوةً على ذلك يجعل الأُمميّون الليبراليون من الديمقراطية الليبرالية جوهر هذا “النظام العالمي القائم على قواعد”، ويدّعون بوجود سجّلٍ رائدٍ للولايات المتحدة في نشر الديمقراطية والدفاع عنها عبر العالم خلال الثمانين سنة الماضية. يدحض ليفين هذه الحجّة، فلم تكن واشنطن بحاجةٍ إلى خلق ديمقراطياتٍ في أوروبا الغربية والوسطى منذ أربيعينيات القرن العشرين، لأنّها كانت موجودة أصلاً، لقد كانت بحاجة إلى تقويتها فحسب، أمّا جهودها في شرق أوروبا فلم تكن كبيرةً بسبب وجود نزعةٍ قوميةٍ وأجنداتٍ وطنيةٍ مناهضةٍ لروسيا في تلك الدول ممّا يعني أنّ الأغلبيات الديمقراطية المحليّة لم تكن معارضةً للسياسات الأمريكية أساسا. أمّا في بقيّة العالم فكان الوضع مختلفًا، فالسجّل التاريخي السيئ للتدخّلات العسكرية الأمريكية يجعل من الصعب على شعوب أمريكا الوسطى أو إفريقيا أو جنوب شرق آسيا أو العرب والإيرانيّين الوثوق بالالتزام الأمريكي في بناء الديمقراطية ببلدانهم، حيث يتّم النظر إلى الولايات المتحدة من طرف العديد من شعوب العالم باعتبارها أكبر تهديدٍ للديمقراطية مقارنةً حتّى بروسيا أو الصين. أمّا الحركات الديمقراطية التّي تُدعمها الولايات المتحدة في الدول ذات المصلحة القومية المختلفة عن مصلحة واشنطن فيُنظر إليها عادةً من طرف أنظمةِ هذه الدول وشعوبها باعتبارها مجموعةً من الخونة والعملاء.

يُظهر الكاتب أيضًا وجود عدم اتّساقٍ وتناقضٍ واضحٍ لدى الأُمميّين الليبراليّين والإدارة الأمريكية فيما يتعلّق بدعوتهما لإقامة تحالفٍ عالمي للديمقراطيات، فحينما دعا بايدن إلى عقد “قمّة الديمقراطيات” شهر ديسمبر 2021 تمّ دعوة رئيس الهند ناريندرا مودي، وهو المعروف بشوفينيّته الهندوسية ونزعته الاستبدادية في الهند، وذلك حتّى يُضفي (بايدن) على القمّة شيئًا من “العالمية” ويؤكّد على الشراكة الأمريكية-الهندية ضد الصين، فلم يكن “تحالف الديمقراطيات” في نظر الكاتب، سوى جهدٍ لبناء جبهةٍ جيوبولتيكيةٍ ضدّ الصين.

في الختام يؤكّد ليفين “النزعة الأُمميّة” لأعضاء معهد كوينسي، لاسيما الواقعيّين منهم، غير أنّهم أُمميّين بطريقةٍ مختلفةٍ عن أُمميّة آيكنبيري ودودني. تؤمن جماعة كوينسي بالقانون الدولي والتعاون بين مختلف الأنظمة السياسية من أجل حفظ السلام وتحقيق الأهداف الانسانية المشتركة، بينما يدافع الأُمميّون الليبراليون عن الهيمنة الأمريكية مُبرِّرين ذلك باسم الديمقراطية الليبرالية، كما يؤمن الأُمميّون الليبراليون بالتعاون بين الولايات المتحدة والبلدان المنتسبة للأهداف الأمريكية وبإخضاع الدول التّي تعارض الهيمنة الأمريكية أو إسقاطها، إنّهم أقرب “للإمبريالية الليبرالية” لبريطانيا الفيكتورية، ولا يناسبهم لقب “الأُمميّين” على الإطلا

 

هيمنةٌ عالميةٌ مُسلّحة: ردودٌ أخرى على مقال دودني وآيكنبيري:

ليفين لم يكن الباحث الوحيد الذّي تصدّى بالنقد لمقالة دودني وآيكنبيري المثيرة للجدل، فقد أثار الكاتبان حركة نقاشٍ متميّزة بين المنظرّين والمهتمّين، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر، ستيفن وولت وبول بواست الذّيْن كتبا حول هذا النقاش سلسلة منشوراتٍ “ثريدز” في تويتر، مُحِيلين إلى نصوصٍ مهمّة ذات صلة. غير أنّنا نجد المقال الذّي كتبه الباحث بمعهد كوينسي سَرانْج شِيدور يُعتبر أحد المقالات النقدية الصريحة في هذا الصدد، حيث نشر مقالاً نقديًا بتاريخ الرابع من أغسطس 2021 حمل عنوان تَسميةُ “النزعة الأُممية الليبرالية” بماهيتها: الصدارة الأمريكية، نعرض هنا لأبرز ما جاء فيه.

وفقاً لـ شيدور تتمثّل الحُجّة الأساسية لمقال دودني وآيكنبيري في أنّ “معسكر الكبح يظلّ رهينةَ انتقاده ‘للخطأ الفادح’ الأمريكي في العراق، كما أنّه معسكرٌ غير متماسكٍ بسبب وجود تيّاراتٍ متباينةٍ داخله كالليبرتاريّين، والواقعيّين دعاة مقاربة توازن القوى، والتقدميّين اليساريّين المُناهضين للنزعة الإمبريالية والنزعة التدخليّة وغيرهم، وبالتالي لا يُقدّم هذا المعسكر سوى أجندةً سلبيةً لتشكيل مستقبل النظام العالمي، كما لا يُقدّم أيّ حلولٍ للمشاكل الناتجة عن التصنيع والاعتماد المتبادل عالي المستوى كمشكلات عدم المساواة وتغيّر المناخ، فضلاً أنّ دُعاته يقاومون الدفاع عن الديمقراطية وترويجها في عالمٍ تُهدّده الصين الصاعدة والاستبدادية”، ليصل الكاتبان بعدها إلى أنّ “النزعة الأُممية الليبرالية هي النموذج الوحيد القادر على حلّ مشاكل العالم”.

يصف شيدور مقال الكاتبيْن بكونه مليئًا بتأكيداتٍ عَرَضِيّة، غيرُ دقيقةٍ ومُبسَّطة، مُفضِّلاً تسمية النزعة الأُممية الليبرالية بـ “نزعة الصدارة الليبرالية” (Liberal Primacy) أو “الهيمنة العالمية المسلَّحة”، مُحمّلاً إيّاها قسطًا من المسؤولية عن أزمات النظام العالمي الحالي، خاصّةً وأنّها صاحبة التأثير الأكبر على سياسة واشنطن لعقودٍ من الزمن، كما يُجادل بأنّ دُعاتها يُعزّزون الآن أخطار الصراع بين القوى العظمى. وبالرغم من أنّ “الصدارة الليبرالية” كان لها إيجابيات معيّنة كتعزيزها للنزعة الفردانية والديمقراطية بهدف علاج القمع الاجتماعي والسياسي، دعمها للمؤسّسات في حلّ المشكلات، اهتمامها بمشكلة المناخ الجماعية، إلاّ أنّ الفحص الدقيق يكشف بأنّ انجازاتها المُفترضة لهي انجازاتٌ بلاغيةٌ ينقصها المصداقية أكثر من كونها حقيقة عملية. في مقابل ذلك يُقدّم دعاة ضبط النفس مقاربةً أكثر صدقًا وعمليّة، يبدو ذلك من خلال مقارنة تصوّرات الطرفيْن في مواضيع عديدة.

أولاّ، لا يتطابق تأكيد الصدارة الليبرالية (المهيمِنة على واشنطن) على الديمقراطية مع سلوكياتها، إذ يهتّم دُعاتها بمصير الديمقراطية في منطقة الأطلسي (The Core) بينما يغضّون الطرف عمّا يحدث في الجنوب العالمي (Global South)، خاصّة إذا تعلّق الأمر بسلوكيات حلفاء واشنطن هناك (سلوكيات إسرائيل مثلا). في مقابل ذلك، يُدعّم دعاة الكبح الديمقراطية بصدقٍ من خلال حثّ الولايات المتحدّة على جعل نموذجها الخاصّ مُتقنًا في الداخل قابلاً للاقتداء. كما أنّهم يُشكّكون دومًا في الدوافع الحقيقية لأفعال واشنطن حينما تُطالب بترويج الديمقراطية في بلدٍ ما أو تُحدث به هندسةً اجتماعيةً قسرية.

ثانيًا، تُحاول الصدارة الليبرالية أن تُقلّل من مسؤولية الولايات المتحدّة في خلق مشكلات العالم رغم ادّعائها الصريح بضرورة قيادة العالم والحفاظ على القطبية الأحادية، وهذا ما يرفضه الكاتب نظرًا للقوة والثروة غير المتكافئتيْن التّي تحظى بهما واشطن مقارنة بالآخرين.

ثالثًا، تُهمّش الصدارة الليبرالية النسخ البديلة والمختلفة للليبرالية والأُمميّة الليبرالية، فقبل الحرب العالمية الثانية كانت الأُمميّة الأمريكية مختلفةً عن نظيرتها بعد الحرب، لقد ساندت الأولى الابتعاد عن الحروب الخارجية ودعت إلى الدبلوماسية كوسيلة لحلّ النزاعات. إضافةً إلى ذلك، فالصدارة الليبرالية أقلُّ دوليةً مقارنةً ببدائلها، لأنّ ميولاتها متمحورةٌ أساسًا حول أوروبا والشمال العالمي، في حين تشمل النزعة الأُممية البديلة تلك الأمم المتواجدة في الجنوب العالمي أين يعيش معظم البشر، وهي تُقدّم طروحاتٍ مهمّةً للمصلحة الأمريكية في عالمٍ يتجّه لتعدّدٍ في أقطابه، كما أنّ تركيز الصدارة الليبرالية على مواضيع نشر الديمقراطية، وإدارة الاعتماد المتبادل واحتواء صعود الصين يجعلها تتجاهل المسائل التّي تُؤرّق دول الجنوب العالمي كمسائل تحقيق الاستقرار الداخلي، واللحاق الاقتصادي بالعالم الثرّي، وتجنّب التدخّلات العسكرية الأجنبية والأمريكية، وتجنّب حدوث منافسةٍ عسكريةٍ أخرى بين القوى العظمى، إلخ. لقد قدّمت النزعة الأُممية الجنوبية (Southen Internationalism) مبادراتٍ بنّاءة عديدة كإنهاء الاستعمار، والتنسيق الأفروآسيوي، وحركة عدم الانحياز، والدعوة لإنشاء نظامٍ اقتصاديٍ دوليٍ جديد، وحاليًا مبادراتها المتعلّقة بالمناخ، مع ذلك تتعرّض للمعارضة أو التجاهل من طرف الصدارة الليبرالية وهذا ما يكشف ازدواجية الأخيرة.

رابعًا، يَعتبر دعاة الصدارة الليبرالية الصين أكبر خطرٍ على النظام الدولي ويُرجعون ذلك إلى نظامها الاستبدادي وإلى أفعالها الأخيرة في الجوار. يرفض الكاتب هنا الربط الحتمي بين طبيعة النظام الداخلي والسياسة الخارجية للدول، فقد لا تسعى الدول الاستبدادية بالضرورة إلى الغزو أو الهيمنة العالمية (الصين في القرن 15م مثلا)، تمامًا كما قد تتنصّل الدول الديمقراطية الكبرى من الهيمنة العالمية (الولايات المتحدّة أواخر 19م إلى الحرب العالمية الثانية)، فالصدارة الليبرالية وجهة نظر حتميةٍ ومُضخّمةٍ للقوة الصينية والتهديد الصيني، كما أنّها تُبالغ حينما تُصوّر انحياز دول شرق آسيا والعالم إلى جانب واشنطن ضدّ بيجين، وهنا يُقدّم الكاتب أمثلةً عن انخراط حلفاء أمريكا ذاتهم مع مشاريع الصين وتوجسّهم من استراتيجية الصدارة الليبرالية تجاه بيجين. علاوةً على ذلك، يعارض الكاتب سياسة “الصين الواحدة” التّي تتبنّاها الصدارة الليبرالية لكونها تتسبّب في زيادة أخطار صراع القوى العظمى وما ينتج عنه من عدوانيةٍ وعسكرةٍ للسياسات. اختصارًا، لا تُشكّل الصين في نظره تهديدًا وجوديًا للولايات المتحدّة كما يدّعي دودني وآيكنبيري.

خامسًا، يستغرب شيدور محاولة الصدارة الليبرالية ربط نفسها بالرئيس روزفلت ودعوتها لإرساء “مدرسة روزفلتيّة”، ذلك أنّ روزفلت ذاته حقّق نجاحًا هائلاً بسبب تشكيله لائتلاف متنوّعٍ في الداخل لمواجهة التحدّيات المركزية في زمنه، فبناء الائتلافات دليلٌ على النضج بدلاً من عدم الاتسّاق.

أخيرا، يوضّح شيدور بعض مزايا مقاربة الكبح كرفض الهيمنة المسلحّة وتفعيل الدبلوماسية مُحاججًا بأنّ مزاياها قادرةٌ على التقليل من خطر نشوب حربٍ بين القوى العظمى، وبأنّها المقاربة التّي تحتاجها الاستراتيجية الأمريكية الكبرى لكي تُمهّد الطريق لنظامٍ عالميٍ أكثر أمنًا وازدهارا. في مقابل ذلك، يؤكّد بأنّ “نزعة الصدارة الليبرالية” ما هي إلاّ إيديولوجيةُ الوضعِ القائم التّي من المُرجّح أن تُؤدّي فقط إلى تفاقم التحدّيات العالمية، فضلاً عن نيّتها الصريحة لإدامة الأحادية القطبية من أجل مصلحتها الذاتية، إنّها مقاربةٌ عفا عليها الزمن في حقبة اللايقين والتعدّدية القطبية المتزايدة وأزمة كوكبنا الراهنة.

جون آيْكِنْبِيرِي:

أستاذ السياسة والشؤون الدولية بجامعة برينستون، وأستاذ بمدرسة وودرو ويلسون للشؤون العامة والدولية، وهو يشترك أيضًا في إدارة مركز برينستون للدراسات الأمنية الدولية، ويُدّرس كأستاذٍ زائرٍ بالعديد من الجامعات عبر العالم. يُعدّ آكينبري أحد أبرز المنظّرين الليبراليين الجدد المعاصرين في حقل العلاقات الدولية على الإطلاق، ورائد النزعة الأُممية الليبرالية حاليًا، له إسهامات تنظيرية أصيلة، وقدّ تمّ تصنيفه من بين 10 أكثر الباحثين ذوي الإنتاج الأفضل في حقل العلاقات الدولية خلال العشرين سنة الماضية، كما حظي بالمرتبة الثامنة من بين الباحثين أصحاب الإنتاج الأكثر أهميّة خلال السنوات الخمس الماضية. من أبرز كتبه: “ما بعد الإنتصار: المؤسّسات، الكبح الإستراتيجي، وإعادة بناء النظام بعد الحروب الكبرى” (2001)، “الليبرالية المتوحشّة: أصول النظام الأمريكي العالمي وأزمته وتحوّله” (2011)، آخر كتبه المنشورة بعنوان: “عالمٌ آمن للديمقراطية: النزعة الليبرالية الدولية وأزمة النظام العالمي” (2020).

دانيال دودني:

أستاذ علم السياسة والعلاقات الدولية والنظرية السياسة في جامعة جونز هوبكنز بالولايات المتحدة. خلال أواخر السبعينيات، عمل كمساعد تشريعي لشؤون الطاقة والبيئة، ومدير التشريعات للسيناتور جون دوركين (الحزب الديمقراطي، نيو هامبشاير). وخلال أوائل الثمانينيات، عمل كباحث في معهد وورلدوتش بالعاصمة واشنطن. أمّا خلال الفترة ما بين 2010 و2011، فكان باحثًا أول في أكاديمية ترانس أتلانتيك-صندوق مارشال الألماني في العاصمة واشنطن. تهتّم أبحاثه بنظريات العلاقات الدولية العامة، ونظرية السياسة الدولية والنزعة الجمهورية، وقضايا العالم المعاصر (الطاقة النووية، والفضاء الخارجي، والبيئة، والطاقة). من أعماله المنشورة كتاب “الطاقة المتجددة” (1983)، “الأراضي المتنازع عليها: الصراع والأمن في سياسات البيئة العالمية الجديدة” (كتاب مشترك، 1998). كما نشر بشكل واسع بالتعاون مع جون آيكنبيري حول موضوع نهاية الحرب الباردة ونظام النظام الليبرالي الدولي. كتابه “القوة المحيطة: نظرية الأمن الجمهوري من بوليس إلى القرية العالمية” (2007) كان من الفائزين المشتركين بجائزة جيرفيس-شرويدر لأفضل كتاب في السياسة الدولية والتاريخ، المُقدَّمة من طرف جمعية العلوم السياسية الأمريكية، كما كان من الفائزين المشتركين أيضًا بجائزة كتاب العقد المُقدّمة من طرف جمعية الدراسات الدولية. أحدث كتاب له حمل عنوان “سماواتٌ مظلمة: توسّع الفضاء، والجيوبولتيك الكوكبية، ونهاية البشرية” (2020). أمّا مشاريع كتبه الحالية فتتمثّل في “السلام الذري: الجيوبولتيك، ومراقبة الأسلحة، والحكومة المحدودة”، و”قواعد الداخل: الجيوبولتيك الكوكبية والجمهورية الترابوليتانية”.

أناتول ليفين:

مدير برنامج أوراسيا في معهد كوينسي لفن الحكم المسؤول. اشتغل أستاذًا في جامعة جورج تاون في قطر، وأستاذًا في قسم دراسات الحرب في كينجز كوليدج في لندن. وهو عضو في اللجنة الاستشارية في الإدارة المختّصة بمنطقة جنوب آسيا بوزارة الخارجية والكومنولث البريطانية. عمل ليفين  ما بين سنتيْ 1985 و1998 كصحفي بريطاني في جنوب آسيا والاتحاد السوفيتي السابق وأوروبا الشرقية، وقام بتغطية الحروب في أفغانستان والشيشان وجنوب القوقاز. ثمّ عمل ما بين سنتيْ 2000 و2007 في مراكز أبحاث عديدة في العاصمة واشنطن. ليفين باحثٌ واقعي، وهو مؤلف كتاب “الواقعية الأخلاقية” الصادر في العام (2006) والعديد من الكتب عن روسيا وجيرانها. كتابه الأخير الصادر في العام 2020  حمل عنوان “تغير المناخ والدولة القومية”.

سَرانْج شِيدور:

هو مدير برنامج الجنوب العالمي بمعهد كوينسي لفنّ الحكم المسؤول وباحث غير مقيم في مجلس المخاطر الاستراتيجية. كما أنه أستاذ مساعد في جامعة جورج واشنطن أين يقدم دروسًا عن جيوبولتيك تغير المناخ. تشمل مجالات أعماله مواضيع المخاطر الجيوبولتيكية والاستراتيجية الكبرى وأمن الطاقة والمناخ، مع تركيزٍ خاصّ على آسيا والجنوب العالمي. يتعاون سارانج مع العديد من المؤسّسات العلمية ومراكز السياسات المرموقة، ولديه أكثر من 90 منشورًا في مجالات اختصاصه.

جلال خَشِّيبْ:

باحث رئيسي بمركز دراسات الإسلام والشؤون العالمية (CIGA) التابع لجامعة إسطنبول صباح الدّين زعيم بتركيا. تهتّم أعماله البحثية بمجال الجيوبوليتيك، نظريات العلاقات الدولية، سياسات القوى العظمى، جيوبولتيك أوراسيا وبحر الصين الجنوبي وشمال إفريقيا، السياسة الخارجية التركية والسياسة الخارجية الجزائرية. عمل كباحث مقيم ومتعاون مع العديد من مراكز الأبحاث، له العديد من الكتب والدراسات والترجمات والملخصّات الأكاديمية المنشورة، منها كتاب “النظام الدولي الليبرالي: جون ميرشايمر في مواجهة جون آيكينبري، صعودٌ أم سقوط؟” (2021)، وكتاب “أثر التحوّلات الطارئة في بنية النظام الدولي على التوجّهات الكبرى للسياسة الخارجية التركية” (2017)، وكتاب “آفاق الانتقال الديمقراطي في روسيا” (2015).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *