المؤلِّف: جلال خَشِّيبْ

مراجعة: شروق مستور

مراجعات كُتب: سبتمبر 2024

The Struggle for Free Will: Turkish Foreign Policy in a Changing International System (1923-2017)

By: Djallel Khechib

Reviewed by: Chourouk Mestour

Book Reviews: September 2024

نُشر الكتاب من قبل مركز إدراك للدراسات والاستشارات بإسطنبول في العام 2017، كما صدرت طبعته الثانية سنة 2024 عن ذات المركز ودار كندل للنشر بإسطنبول. يتتبّع الكتاب في 277 صفحة تطوّر السياسة الخارجية التركية منذ تأسيس الجمهورية من خلال عدسة حقل العلاقات الدولية IR، مع التركيز بشكلٍ خاصٍّ على المنظور الواقعي.

ينقسم الكتاب إلى خمسة فصول رئيسية يتناول كلّ فصلٍ منها فترةً انتقالية أو تغييرات مفاجئة مرّ بها النظام الدولي وكيفية تأثير ذلك على السياسة الخارجية التركية. في الإطار النظري، يعتمد الكاتب على الواقعية البنيوية لتحليل آثار بنية النظام الدولي على مسار السياسة الخارجية التركية منذ نشأتها. يُفضّل الكاتب الاعتماد على هيكل النظام الدولي ذي الطبيعة الفوضوية، وفقًا لتعبير الواقعيين، والتغيرات التّي حدثت داخله، كعاملٍ مؤثّر بالرغم من أنّ العوامل التاريخية والجغرافية هي من بين أكثر العوامل تأثيرًا في تشكيل السياسة الخارجية التركية. ويستند ذلك إلى المشكلة الرئيسية المتمثّلة في تحديد حدود أثر التغيّرات المفاجئة في هيكل النظام الدولي على الاتجاهات الرئيسية للسياسة الخارجية التركية في بيئتها الإقليمية والدولية.

 

تركيا الفتيّة في نظام ما بين الحربين العالميتين:

يُقسّم المؤلّف الفصل الأول بشأن السياسة الخارجية التركية خلال فترة ما بين الحربين إلى جزأين. يتحدّث الجزء الأول عن نشوء الجمهورية التركية ومشروع مصطفى كمال أتاتورك، بينما يركز الجزء الثاني على السياسة التركية في عهد حسين نعمان مينيمنجي أوغلو.

بدءًا من تأسيس الجمهورية التركية في العام 1923، ظهر اتجاهٌ جديد في السياسة الخارجية. أدّت نهاية عهد الإمبراطورية العثمانية إلى قطع الجمهورية الجديدة جميع العلاقات مع الماضي العثماني. يُلخّص خَشِّيبْ أهداف السياسة الخارجية التركية خلال هذه المرحلة في العبارة المنسوبة إلى أتاتورك، «السلام في الداخل يعني السلام في العالم». كان المبدأ الرئيسي الذّي دفع سياستها الخارجية هو اللجوء إلى الوسائل السلمية والولاء للقانون الدولي لتحقيق الاعتراف الكامل بتركيا كدولةٍ مستقلة وتحقيق التحديث، الذّي اعتبرَته كمردافٍ للتغريب. الفكرة الأخيرة هي مبدأ وهدف تبلوَر في رغبة تركيا القويّة في الانضمام إلى حلف الناتو والاتحاد الأوروبي.

يرى الكاتب بأن تركيا ورثت من الإمبراطورية العثمانية بيئةً غير مستقرة إقليميًا يحيط بها العديد من الخصوم، ممّا زاد من إحساسها بالتهديدات الأمنية المستمرة، خاصّة من التهديد الروسي في الشمال. أصبحت مواجهة روسيا أحد المبادئ المبكّرة للسياسة الخارجية التركية.

بالانتقال إلى فترة الحرب العالمية الثانية، يُقدّم المؤلّف سردًا لوضع تركيا وسياستها خلال تلك الفترة. اعتمدت تركيا سياسةً خارجيةً تتماشى مع توازن القوة الدولي، وكانت دبلوماسيتها ناجحةً وعمليةً للغاية من حيث استيراد وتصدير الأسلحة من كلا الجانبين المشاركين في الحرب. كما وصفها الدبلوماسي البريطاني نيفيل هندرسون، بُنيت هذه السياسة على تحالفٍ أنجلو-تركي من ناحية، ومعاهدة عدم الاعتداء الموقّعة مع ألمانيا من ناحية أخرى، ممّا يعني سياسةً حياديةً نشطةً وفعالة. ومع ذلك، تعرّضت تركيا إلى ضغوطٍ خارجيةٍ وداخلية للانضمام إلى الحرب ضدّ الاتحاد السوفيتي والتخلّي عن موقفها المحايد.

لم تكن هذه أفضل فترة بالنسبة إلى تركيا، لكنّها أرست الأسس الأولى للدولة، ورأى الكاتب أن المكسب الحقيقي الذّي تطلّع إليه صنّاع القرار ونفذّوه هو مقاومة النزعة العثمانية التوسعيّة، ممّا أدّى إلى ظهور الدولة الوطنية التركية.

 

تركيا خلال الحرب الباردة:

ينقسم هذا الفصل إلى جزأين. يُناقش الجزء الأول القيود التّي فرضتها الحرب الباردة على السياسة الخارجية التركية، بينما يركّز الجزء الثاني على حلم الإرادة السياسية الحرّة في عهد تورغوت أوزال. يعتقد خَشِّيب أنّ فترة الحرب الباردة كانت سبب اعتماد تركيا العميق على المساعدات الغربية مقابل استخدام الولايات المتحدة للقواعد العسكرية التركية لتحقيق هدفها الرئيسي المتمثّل في العضوية الكاملة في منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو).

وفي الوقت نفسه، تعاني تركيا من أزمات داخلية، وبدأت حالتها الاقتصادية تتدهور. ظهرت بداية الصراعات الداخلية، والتّي انعكست على السياسة الخارجية التركية وجعلت الهدف الأساسي للبلد هو تحسين الوضع الاقتصادي والاجتماعي بدلاً من التغلّب على المخاوف الاستراتيجية.

أدّت حاجة تركيا إلى الدعم الاقتصادي إلى فتح الباب أمام العدو الأول، السوفييت، في العام 1960 عندما وافقت الحكومة على تبادل الزيارات مع خروتشوف. ومع ذلك، لم يدم هذا الافتتاح طويلاً حيث أدّى الانقلاب العسكري في تركيا إلى تشكيل حكومةٍ عسكريةٍ أشركت تركيا في واحدةٍ من أخطر الأزمات الدولية في القرن، وهي أزمة الصواريخ الكوبية.

أصبحت رغبة تركيا في هذه المرحلة في تحسين العلاقات مع السوفييت نقطة تحوّلٍ في السياسة الخارجية لدولة كانت تَعتبر السوفييت في السابق أول وأكبر تهديد لها. يعتقد الكاتب أنّ سبب هذا التحوّل لم يكن الزيارات المتبادلة مع السوفييت، بل الأزمات الأساسية الأخرى مثل أزمة قبرص، التّي تسبّبت في خلافٍ مع الغرب وحدوث تقاربٍ مع السوفييت، ثمّ التقارب مع دول عدم الانحياز ودول الشرق الأوسط.

بالانتقال إلى الجزء الثاني من هذا الفصل، يناقش الكاتب فترة تورغوت أوزال، “رجل التناقضات”، الذّي شغل منصب رئيس وزراء تركيا بين عامي 1983-1989. أحدث أوزال تغييرًا في السياسة الخارجية مقارنةً بأسلافه وعرفت تركيا تقاربًا مع العالم الإسلامي.

يعتقد خَشِّيب أنّ الطموح لبناء دولة تركية نشطة بدأ مع أوزال، لكنّ التناقض يكمن في دعمه للسياسات الأمريكية في الشرق الأوسط وإصراره على أنّ مصالح تركيا تتطلّب علاقاتٍ مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية. كما وافق على الدور الذّي حدّدته الولايات المتحدة لتركيا في المنطقة من منظورٍ عملي، والذّي كان من المقرّر أن يكون حصنًا منيعًا ضدّ إيران، ودعم الغرب في سياساتهم ضدّ الدول المتطرفة.

يرى خَشِّيب بأنّه في كلِّ فترةٍ من حياة تركيا ومع تعاقب القادة، كان هناك دائمًا عامل ذا تأثيرٍ أكبر على السياسة الخارجية من العوامل الأخرى. في الفترة التّي سبقت أوزال، كان للوضع الاقتصادي والاجتماعي تأثير كبير، بينما خلال حكم أوزال، كان  للعوامل الشخصية دورٌ مهمّ في تحديد سياستها الخارجية. ومع ذلك، فإنّ الاتجاه السائد للسياسة الخارجية التركية لا يزال يسترشد بتوازن القوة الدقيق بين اللاعبين العالميين الرئيسيين.

 

السياسة الخارجية التركية في بيئة دولية جديدة (نهاية الحرب الباردة):

في الفصل الثالث، يناقش المؤلف التحوّلات الرئيسية في النظام الدولي والفرص التّي أتاحتها البيئة الجديدة للسياسة الخارجية التركية. ركزّت السياسة التركية على ثلاثة محاورٍ رئيسية بعد نهاية الحرب الباردة: منطقة القوقاز وآسيا الوسطى، والبلقان، والشرق الأوسط. في السابق، كانت تركيا تتبع سياسةً تقليديةً تتمثّل في عدم الانخراط في السياسة الإقليمية، لكنّ الوضع تغيّر مع ظهور فراغٍ في المنطقة، وتزايد المخاطر التّي تعبر حدود تركيا، والمخاطر التّي تشكّلها الجماعات الوطنية المختلطة. يعتقد المؤلّف أنّ النظام الدولي الجديد، الخالي من الاستقطاب الحاد ومنافسين كبار للولايات المتحدة، أعطى تركيا مجالًا أكبر للمناورة في اختيار اتجاه جديد. تَعتبر تركيا نفسها الآن قوة إقليمية، أمّا العلاقة مع الولايات المتحدة، كقطب وقوة مهيمنة، فقائمةٌ على أساس التهديدات المشتركة. كان الاتحاد السوفيتي في الماضي هو التهديد المشترك، ولكن بعد نهاية الحرب الباردة، كان القاسم المشترك الجديد الذي يزعج الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي هو التهديدات الأمنية الموجودة في الجوار التركي.

 

يتناول الكاتب فكرةً رئيسية أخرى في هذا الفصل، وهي سياسة تركيا تجاه الشرق الأوسط وعلاقتها بمشروع تركيا “الإرادة الحرّة” كما يسميها. يرى خَشِّيب أنّ تحوّل السياسة الخارجية التركية نحو الشرق الأوسط كان الاختبار الأول لمشروع الإرادة الحرة. وفي هذا الصدد، يتناول الظروف الداخلية والخارجية التّي تحيط بتركيا وتؤثّر على تطور سياستها الخارجية.

على الصعيد الخارجي، هناك زيادة في الأزمات والأحداث الإقليمية الصعبة (التهديدات الأمنية والتغيير الأولي في موقف تركيا فيما يتعلّق بأزمات الشرق الأوسط، والصراع السوري، والصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وما إلى ذلك). يؤدّي هذا إلى مناقشة تركيا كمنتج للسياسة وليس كمنفذ للسياسة.

على المستوى المحلي، أثّر عدم الاستقرار السياسي وصعود الحركات الإسلامية السياسية مع وصول إردوغان إلى السلطة على التوجّه الخارجي لتركيا. بالإضافة إلى ذلك، أدّت الصراعات الداخلية إلى ظهور تصوّرٍ جديدٍ لتركيا، التّي تعتبر نفسها الآن جزءًا من العالم الإسلامي، ممّا أثار نقاشًا بداخلها حول مسألة الهوية. ومع ذلك، لم يدم هذا الوضع طويلاً، كما هو الحال مع توطيد إردوغان لسلطته وسلطة حزبه، عاد دور البيئة الخارجية في السياسات الداخلية والخارجية إلى الظهور. الاحتمال الأكثر ترجيحًا هو أنّ الضغط والنفوذ الغربي داخل الحركات السياسية التركية، بما في ذلك داخل المؤسّسة العسكرية، أعاق أو عطل مشروع الإرادة الحرة قبل أن يبدأ.

 

سياسة تركيا الخارجية في بداية القرن الحادي والعشرين:

في الفصل الرابع، يناقش المؤلّف السياسة الخارجية لتركيا منذ صعود حزب العدالة والتنمية إلى السلطة، وكذلك دور البيئة الإقليمية والدولية التّي وجد الحزب الحاكم نفسه فيها.

يعتقد خَشِّيب بأنّه بالرغم من كون حزب العدالة والتنمية حزبًا ذا خلفية إسلامية أو امتدادًا لحزبٍ إسلامي سابق، إلاّ أنّه كان أكثر اعتدالًا وانفتاحًا، مدعيًا أنّه حزب ديمقراطي محافظ. لم يكن هناك تغييرٌ جذري مع صعوده إلى السلطة، حيث حافظت تركيا على الرؤية العلمانية المهيمنة للبلاد ولم تراجع سياستها الخارجية، حيث ظل التوجه الغربي لتركيا حينها كما هو.

كانت مقاربة حزب العدالة والتنمية في قضية الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي مختلفةً عن مقاربة الأحزاب الإسلامية السابقة. بدلاً من رفض العضوية تمامًا، استخدم حزب العدالة والتنمية القضية لتعزيز موقفه وكسب الدعم من الناخبين المحافظين. على الرغم من ذلك، حافظ الحزب على توجه غربي في سياسته الخارجية وركّز على تحسين العلاقات الاقتصادية والتجارية مع أوروبا. في الوقت نفسه، سعى حزب العدالة والتنمية إلى تعزيز العلاقات مع البلدان العربية والإسلامية.

فيما يتعلّق بقضية فلسطين، تبنّى حزب العدالة والتنمية مقاربة متوازنةً تدعم حقوق الفلسطينيين بينما تسعى إلى تعزيز الاستقرار في المنطقة. أدّت تركيا دورًا محوريًا في الجهود الدولية لتحقيق السلام النسبي بين الإسرائيليين والفلسطينيين.

من المهم أن نلاحظ أنّ حزب العدالة والتنمية لم يتخّل عن أيديولوجيته الإسلامية منذ وصوله إلى السلطة ولكنّه سعى بدلاً من ذلك إلى تحقيق التوازن بين أيديولوجيته ومصالح الدولة التركية. تبنّى الحزب نهجًا عمليًا ومتوازنًا للسياسة الخارجية يأخذ المصالح الوطنية لتركيا في الحسبان.

في الجزء الثاني من هذا الفصل، يناقش الكتاب أطروحة “العمق الاستراتيجي”، والتّي يرى أنّها الأكثر تأثيرًا في السياسة الخارجية التركية منذ تولّي حزب العدالة والتنمية السلطة. وهي تقوم على فكرة أنّ تركيا بحاجة إلى إعادة النظر في تراثها التاريخي وموقعها الجغرافي ودورها في السياسة الخارجية لرفع مركزها الإقليمي والدولي. ويقول إنّ هذه النظرية كانت الخطوة الاستراتيجية الرئيسية في السياسة التركية منذ العام 2002، إذْ دعمت مشاركة تركيا النشطة في النظم الإقليمية. يقدم خَشَّيب العديد من الأمثلة التّي تشير إلى انفتاح تركيا على بيئتها الإقليمية وتحسين العلاقات مع البلدان من خلال حلّ القضايا مع العالم العربي وسياسات الطاقة وسياسات المياه ودورها في الربيع العربي والذّي وصفه بالمتضارب. كما يقارن موقف تركيا واتجاهها في كلّ دولة خلال “ثورات الربيع العربي” (مصر وسوريا وليبيا وما إلى ذلك).

 يرى الكاتب في هذا السياق أنّ سياسة تركيا تجاه سوريا هي الاختبار الثاني لمشروع الإرادة الحرة التركي. ولذلك، يحدّد المراحل الرئيسية الستّ التالية للسياسة التركية في سوريا. المرحلة الأولى: استخدام سلطتها الحالية للضغط من أجل إحداث التحوّل داخل سوريا. المرحلة الثانية: مساعدة المعارضة السورية والعمل ضدّ الحكومة هناك. المرحلة الثالثة: خلال نمو تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا، تعرّضت تركيا لانتقادات بسبب دعمها للمعارضة. المرحلة الرابعة: كانت السياسة التركية ضعيفة وغير مستقرة، لا سيما بسبب مشاركتها في التحالف ضدّ داعش ودعمها المستمر لمنظمات المعارضة العربية والتركمانية التّي تقاتل حكومة الأسد. المرحلة الخامسة: بعد إسقاط طائرة روسية، تسببت أنقرة في أزمة دبلوماسية مع موسكو وشلّت نفوذها في شمال سوريا وعزلتها عن البلاد وزادت المخاطر الحدودية. المرحلة السادسة: يرى الكاتب أنّ هذه مرحلة هامّة يميّزها استخدام تركيا تركيا القوة العسكرية في شمال سوريا بموافقة أمريكية.

 

انتقال القوة نحو الشرق، صعود أوراسيا الجديدة، ومستقبل السياسة الخارجية التركية:

في الفصل الخامس، يناقش الكاتب التحوّلات الحالية في النظام الدولي، المتمثّلة في انتقال القوة نحو الشرق وصعود أوراسيا، وكيف أثّر هذا التحوّل على مستقبل السياسة الخارجية التركية. ويرى هذه المرحلة بمنزلة الاختبار الأخير لمشروع الإرادة التركية الحرّة خلال الحقبة الراهنة.

ينقسم الفصل إلى ثلاثة أجزاء. في الجزء الأول، يشرح خَشِّيب الأطروحة القائلة بأنّ حقبة ما بعد الحرب الباردة انتقالية، وأنّ صعود الولايات المتحدة إلى قمة العالم ليس إلاّ مسألة مؤقتة في ضوء التحوّلات العالمية التّي تشكّلها بلدان شرق وجنوب شرق آسيا التّي تشكّل محورًا سريع التطور، وازدهار المنافسين مثل الصين وروسيا والهند، بالإضافة إلى النكسات التّي تواجهها الولايات المتحدة في بقاعٍ عديدة من العالم. ويشدّد على أنّ آسيا أصبحت ساحةً رئيسيةً لتفاعلات القرن الحادي والعشرين في إطار التحول الاقتصادي العالمي نحو الشرق، وأنّنا نواجه واقعًا جديدًا مع صعود الشرق في وقتٍ متزامنٍ مع تراجع الغرب عن مركزه المهيمن.

في الجزء الثاني من الفصل الأخير، يناقش خَشِّيب علاقة تركيا الحاسمة مع الغرب، لا سيما على المستوى الأمني. لطالما ارتبط الأمن التركي بالغرب، لكنّ حزب العدالة والتنمية أدرك أنّ اعتماد تركيا على الولايات المتحدة سيؤدّي إلى استسلام الإرادة التركية الحرة للغرب. لذلك، كان أحد المبادئ الرئيسية لمبدأ العمق الاستراتيجي هو الالتزام بسياسة متعدّدة الأبعاد، ممّا دفع تركيا نحو بناء روابط استراتيجية مع الشرق الأوراسي. يتعمّق خَشيب في شرح طموحات تركيا الساعية لتصير لاعبًا بارزًا في كلّ من الساحتين الإقليمية والعالمية، مع التركيز على الجيش وصناعة الأسلحة. تأمل تركيا في استهداف آسيا والشرق الأوسط كأسواق محتملة لشركات الأسلحة التركية.

في الجزء الأخير من هذا الفصل، يُسائل المؤلّف حدود جديّة وواقعية تطلّعات تركيا، فضلاً عن قوة علاقات تركيا الثنائية مع القوى الكبرى في منظمة شنغهاي للتعاون. ما هي حدود علاقة تركيا بالشرق، وهل يمكن لمنظمة شنغهاي للتعاون أن تكون بديلاً لحلف شمال الأطلسي؟ يدرس خَشِّيب حدود العلاقة بين تركيا والقوى الكبرى في المنظمة (روسيا والصين وإيران)، ويجادل بأنّ تركيا تربطها بها جميعًا علاقاتٍ اقتصاديةٍ وتجارية يمكن أن تيسِّر انضمامها إلى المنظمة. ومع ذلك، هناك خلافات جوهرية، بدءًا من علاقة روسيا بتركيا، مثلما ظهر ذلك في الأزمة الجورجية والأزمة السورية، وحتّى أزمات “الربيع العربي”.

أمّا بالنسبة إلى الصين، فيعتقد الكاتب أنّ الصين لديها شكوك حول التزام تركيا الفعلي وما إذا كان إردوغان يستخدم قضية شنغهاي كورقة مساومة في مفاوضاته مع الناتو. يؤكّد الكاتب أنّ الأزمة الحقيقية لانضمام تركيا إلى منظمة شنغهاي للتعاون تكمن في انعدام الثقة الاستراتيجية بينها وبين فواعل المنظمة الرئيسيين، بالإضافة إلى الاختلافات الأساسية بين مبادئ المنظمة وسياسات تركيا، وبخاصّة مبدأ احترام سيادة الدول وعدم التدخّل. في المقابل، تركيا هي واحدة من الدول التّي تدعم نسبيًا التدخّل العسكري لتغيير الأنظمة.

يختتم خَشِّيب كتابه بتأكيده أنّ هيكل النظام الدولي لا يزال العامل الأساسي في تشكيل السياسة الخارجية التركية وتوجيهها، ويتطلّب التغلّب على ذلك وجود نخبة سياسية وطنية يمكنها تحسين فهمها للوضع الدولي.

 

تأمّلات نقدية:

نظرًا لأهمية الكتاب، سنسعى إلى قراءته من زوايا مختلفة، بعد تحديد أهم الجوانب المذكورة فيه، وعرض أبرز الأفكار والمفاهيم التّي طرحها المؤلّف في صفحاته. سنفحص هنا نقاط القوة في الكتاب بالإضافة إلى أهم الفجوات التّي طالته:

  • يغطّي الكتاب قدرًا كبيرًا من المعلومات التاريخية والسياسية حول السياسة الخارجية لتركيا، والتّي يمكن أن تكون مفيدة للقراء المهتمين بالموضوع.
  • اعتمد الكاتب على مراجع هامّةٍ وحقيقية وثيقة الصلّة بالموضوع. كما قدّم وجهاتِ نظرٍ مختلفة عن الخبراء والباحثين لدعم موقفه وتغطية جميع الجوانب المحيطة بالموضوع.
  • “الكفاح من أجل الإرادة الحرة والمستقلة” هو موضوع يركز عليه المؤلف في الكتاب، كما يشير العنوان. لكنّني أعتقد أنّه حتّى لو أرادت تركيا الحفاظ على مستوى معيّن من الاستقلال في سياستها الخارجية، فإنّ هذا الهدف يتعارض بشكلٍ مباشر مع رغبة الدول المجاورة في الاقتراب من الغرب. وقد تجلّى ذلك من خلال سعيها المستمر إلى الانضمام إلى عضوية الاتحاد الأوروبي ورغبتها في الحفاظ على علاقات متناغمة مع الغرب. هل ترغب تركيا بالفعل في أن تكون حرّة؟ أم أنّ الفوائد التّي تقدّمها المظلّة الغربية أكثر أهمية؟ هل المشروع التركي للإرادة الحرّة تعوقه ضغوط داخلية أخرى؟ هناك تضارب بين الموضع التاريخي والموقع الجغرافي والموارد، ناهيك بالرغبة الصادقة في سياسة مستقلة.
  • إحدى النقاط الإيجابية التّي ركّز عليها الكاتب هي العلاقة التركية مع الغرب، والتّي رأى أنّها القضية المحورية لسياستها الخارجية، والتّي لا يمكن التشكيك فيها. ومع ذلك، بالرغم من حقيقة أنّ حدود هذه العلاقة والمكاسب التّي يمكن تحقيقها لخدمة مصالح تركيا هي المحرّكات الرئيسية لسياستها، لا أتفّق مع الاعتقاد بأنّ تركيا كانت مستقلة تمامًا في تحديد حدود هذه العلاقة وقربها أو بعدها عن الغرب وتحرّرها من المظلّة الأمريكية. وبنفس القدر الذّي أثّر فيه هيكل النظام الدولي على السياسة التركية، أدّى النفوذ والضغوط الغربية دورًا مهمًا وحاسمًا في استمرارية تبعية تركيا، والتّي غالبًا ما توصف بالسلبية، ولكن في الواقع، كان هناك نقص في المناورة وغياب بديل حقيقي.
  • يشير الكاتب إلى تحوّل تركيا من منفّذ سياسات إلى صانع سياسات، ومن متلقّي للأمن إلى موفّر له. أعتقد أنّ هذه النقطة مهمّة إذا قمنا بتحليلها من منظور بنائي، وهو التغيير الطارئ في تصوّر تركيا لنفسها وموضعها، حيث ترى نفسها الآن كقوة إقليمية بدلاً من كونها مجرّد حليفٍ غربي. ولا يمكن للمنظور الواقعي أن يقدّم تفسيرًا كافيا لهذه النقطة.
  • يبدو أن هناك فجوة في الدراسة لا تتعلّق بالكاتب بل بالقيود الناجمة عن استخدامه للمنظور الواقعي وتركيزه على النظام الدولي كعاملٍ في تحديد السياسة الخارجية التركية. ومع ذلك، فإنّ بعض التغييرات في السياسة الخارجية التركية كانت مرتبطةٌ بأفرادٍ في مناصب السلطة، ولكلّ منهم هدفٌ سياسيٌّ مختلف ومنظور مختلف بشأن دور تركيا في العالم. تسلّط هذه المنهجية الضوء على أهمية اعتماد “مقاربة صناعة القرار” في هذه الدراسة لسدّ الفجوة في المنظور الواقعي.
  • وفي السياق نفسه، أعتقد أنّ المؤلّف بحث في هذا الموضوع ووسّع تحليله فيه، ممّا يثير التساؤل عمّا إذا كان هذا العمق في تناوله للموضوع مسألةً سلبيةً أم إيجابية.
  • بدءًا من العنوان وامتدادًا إلى المحتوى، يمكن تقسيم الدراسة إلى كتابين وليس كتابًا واحدًا. الأول يتعلق بالبيئة الدولية وتأثيرها على السياسة الخارجية التركية من دون الخوض في المستوى الداخلي بشكلٍ كبير ومن دون الإشارة إلى مقاربات أخرى. وكما لاحظنا، ناقش المؤلّف باستفاضة الحالة الداخلية في تركيا وأثرها على بلورة السياسة الخارجية، وكذلك دور صنّاع القرار المتعاقبين على السلطة، بالرغم من أنّ الواقعية لا تعترف بالبيئة الداخلية كمحدّد للسياسة الخارجية. والثاني يمكن تكريسه لمشروع الإرادة الحرّة والمستقلة، والتعمّق في هذه الفكرة الهامّة وتحليلها بمقاربة أخرى، كالمقاربة النقدية أو البنائيّة.
  • وفيما يتعلق بالمناقشة التّي أجراها الكاتب في الفصل الخامس بشأن انضمام تركيا إلى منظمة شنغهاي، أعتقد أنّ المسألة لا تتعلّق بتركيا ونواياها الفعلية للانضمام إلى منظمة شنغهاي للتعاون، بل تتعلّق بنوايا القوى الكبرى التّي تشكّل المنظمة والامتيازات التّي ستمُكّن تركيا من التخلّي عن مظلّة المحيط الأطلسي.
  • الواقعية قادرة على تحديد تحديات تركيا ولكنّها لا تستطيع توفير حلّ فعال لهذه المشاكل من شأنه أن ينهي اعتماد تركيا على الغرب. يعتقد المؤلّف أنّ النخبة السياسية التركية تحمل مفتاح وضع مشروع الإرادة السياسية الحرّة موضع التنفيذ.

 

هكذا يمكن القول بأنّ الواقعية فشلت في تقديم استجابةٍ كافية لمشاكل تركيا وحتّى لو ذهبنا مع سيناريو أنّ الحل هو دعم التحول الحالي في النظام الدولي نحو صعود الشرق كمنافس للولايات المتحدة، والقيام بذلك لن يؤدّي إلى تغييرٍ كبيرٍ في الأجليْن القريب أو المتوسّط. تختلف تركيا وتلك الدول باستمرار في الأمور الاستراتيجية والمبادئ الأساسية، وعليه فإنّ الاعتماد عليها كحليفٍ بديلٍ للغرب لن يؤدّي إلاّ إلى معضلةٍ جديدة.

باحث زميل بمركز دراسات الإسلام والشؤون العالمية (CIGA) التابع لجامعة إسطنبول صباح الدّين زعيم بتركيا. تهتّم أعماله البحثية بمجال الجيوبوليتيك، نظريات العلاقات الدولية، سياسات القوى العظمى، جيوبولتيك أوراسيا وبحر الصين الجنوبي وشمال إفريقيا، السياسة الخارجية التركية والسياسة الخارجية الجزائرية. له العديد من الكتب والدراسات والترجمات والملخصّات الأكاديمية المنشورة بالعربية والإنجليزية، من مؤلّفاته كتاب: “الصراع من أجل الإرادة الحرّة: السياسة الخارجية التركية في نظامٍ دوليٍ مُتغيّر” (الطبعة الثانية 2024)، كتاب: “النظام الدولي الليبرالي، صعودٌ أم سقوط؟ جون ميرشايمر في مواجهة جون آيكينبري” (2021)، وكتاب: “آفاق الانتقال الديمقراطي في روسيا” (2015).

طالبة دكتوراه وباحثة في مجال العلاقات الدولية في الجزائر. تتركّز اهتماماتها البحثية بشكلٍ أساسي على دراسات الأمن والاستراتيجية، مع اهتمامٍ خاصٍّ بالشؤون الافريقية لاسيما منطقة شمال إفريقيا ونظريات العلاقات الدولية والدراسات ما بعد الكولونيالية. تشمل مساهماتها البحثية مجموعةً متنوعةً من الأعمال، منها مقالاتٌ باللغة العربية ومراجعاتٌ للكتب واستعراضٌ لأوراقٍ البحث وأعمالُ ترجمةٍ بين اللغتين العربية والإنجليزية. تظهر مساهماتها في مجموعة متنوعة من المجلات والمعاهد البحثية والمنصات الإلكترونية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *