تأليف: جوزيف ناي
عرض ومراجعة: جلال خَشِّيبْ


محتويات المراجعة:
مقدّمّة
i. تقسيمات الكتاب
ii. مناقشةٌ ونقد: ما الجديد الذّي يُخبرنا به الكتاب؟
iii. بين الذكاء السياقي والذكاء العاطفي: أهميّة السّمات الشخصية والنفسية للرؤساء
iv. تحدّياتٌ مستقبلية: من أجل سياسةٍ خارجيةٍ أمريكيةٍ أكثر أخلاقية
خاتمة

يُعتبر جوزيف ناي أحد الأعمدة المعاصرة لتيّار الليبرالية الجديدة في العلاقات الدولية، تمّ تصنيفه سنة 2008 من قِبل استطلاع رأيٍ شمل 2700 باحثًا في العلاقات الدولية باعتباره أكثر الباحثين تأثيرًا على السياسة الخارجية الأمريكية، وفي سنة 2011 صنّفته دورية السياسة الخارجية ضمن قائمةٍ شملت 100 مفكرٍ عالميٍ الأكثر تأثيرًا، من أشهر كتبه (Soft Power: The Means To Success In World Politics). إلى جانب مساره الأكاديمي المتميّز، تقلّد ناي العديد من المناصب الرسمية في كلٍّ من إدارات كارتر وكلينتون وأوباما، الأمر الذّي أتاح له خبرةً مهنيةً واحتكاكًا مباشرًا بمؤسّسات صنع السياسات العليا بالولايات المتحدة وفرصةً للتأثير بطروحاته التنظيرية عليها، لاسيما في الحقبة التّي تلت سقوط الاتحاد السوفياتي أو ما صار يُعرف بالنزعة الأُممية الليبرالية (The Liberal Internationalism) أو كما يُسميها منتقديها بتيار الهيمنة الليبرالية (The Liberal Hegemoy)، التّي امتدّت إلى غاية انتخاب الرئيس ترامب.
صدر الكتاب باللغة الإنجليزية عن منشورات جامعة أكسفورد – المملكة المتحدّة في شهر يناير 2020، ويقع في 254 صفحة. يأتي هذا العمل كثمرةٍ لهذه الخبرة المهنية من جهة، وكامتدادٍ للطروحات التنظيرية التّي طالما دافع عنها وأرسى لها منذ نهاية سبعينيات القرن المنصرم من جهةٍ أخرى، أيْ طروحات تيّار “النزعة الأُممية الليبرالية” والتّي يُحاجج دُعاتها بأنّها لم تكن وليدةَ “لحظة الأحادية القطبية” (1991) فحسب، بل امتدادًا طبيعيًا للأُسس التّي أرست لها الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية مع الرئيس فرانكلين رُوزفيلت أو ما عُرف آنذاك بالنظام الدولي الليبرالي، وتجد لنفسها جذورًا فلسفيةً ضاربةً في تاريخ الفكر السياسي الغربي (أفلاطون، إيمانوييل كانط، إلخ..)، بينما حمل لواءها في حقل التنظير الخاصّ بالعلاقات الدولية باحثون كُثر من أبرزهم جوزيف ناي.
في الوقت الذّي تعرف فيه هذه النزعة الأممية الليبرالية تراجعًا حادًا لطروحاتها، يسعى ناي في هذا الكتاب للدفاع عن إحدى أهمّ مرتكزاتها، أيْ القيم الليبرالية، وذلك من خلال توضيح الأهميّة الكبيرة للقيم في السياسة الخارجية عبر تتبّع أثرها منذ حقبة الرئيس روزفليت إلى إدارة الرئيس ترامب الحالية.

الكلمات المفتاحيّة:  القيم، بطاقة التقييم ثلاثيّة الأبعاد، الذكاء السياقي، الذكاء العاطفي، الرؤساء الأمريكيّون، السياسة الخارجية الأمريكية

 

تقسيمات الكتاب: 
جاء الكتاب في تسعة محاور مُرقّمةٌ من واحد إلى تسعة بما فيها مقدمة الكتاب وخاتمته، لكن يُمكننا إعادة تقسيمه إلى ثلاثة أقسام أساسية. يُمثّل القسم الأول (يشمل الفصل 1 و 2) مدخلاً نظريًا يشرح فيه ناي كلّ ما له علاقة بالقيم في السياسة العالمية والكيفية التّي يقترحها لتقييم سلوكات الرؤساء والحكم على مدى أخلاقيتها، واضعًا فيه أدواتٍ عمليةٍ وسُلّمًا خاصًّا يُمكِّنه من إجراء تقييمٍ موضوعيٍ ما أمكن، بينما يُعتبر القسم الثاني (الذّي يشمل الفصول رقم 3، 4، 5، 6، 7، 8) استقصاءً لمدى وجود هذه القيم في أفكار وسلوكات الرؤساء الأمريكيين وصفاتهم الشخصية والنفسية الموروثة عن الآباء والمكتسبة بفعل النشأة العائلية والمحيط الاجتماعي التعليمي والمهني الذّي عاش فيه هؤلاء الرؤساء وتفاعلوا معه، من فرانكلين روزفيلت إلى دونالد ترامب، وكيف انعكس ذلك على سياساتهم الخارجية والأزمات التّي تعاملوا معها أثناء فترة حكمهم، مُسّلطًا الضوء على السياقات التّي جاءت فيها أبرز القرارات التّي اتّخذوها في سياستهم الخارجية، يُعدّ هذا القسم بمثابة “المختبر التاريخي والنفسي” الذّي مكّن الباحث من استخلاص مقاربته النظرية الأخلاقية في السياسة الخارجية والتّي صاغ معالمها في القسم الأول للكتاب (الفصلين الأول والثاني)، ثمّ يأتي القسم الثالث (الفصل التاسع) ليتضمن تقييمًا أخلاقيًا شاملاً للسياسة الخارجية الأمريكية منذ عهد روزفيلت إلى إدارة ترامب وفقًا للأسس التّي أرسى لها في القسم الأول والأمثلة التّي فصّل فيها حينما عاجل حقبة كلّ رئيسٍ على حدا بالقسم الثاني، محاولاً هنا رصد صعود وتراجع الأخلاق في سياسة البلد الخارجية وسياقات ذلك، وأخيرًا التحدّيات التّي تُواجهها سياسةٌ خارجيةٌ أمريكيةٌ أكثر أخلاقيةً على ضوء التغيّرات التّي تعرفها الولايات المتحدّة في الداخل والتغيّرات التّي تعيشها البيئة العالمية التّي تتفاعل فيها سياستها الخارجية أيضا.

 

مناقشةٌ ونقد: ما الجديد الذّي يُخبرنا به الكتاب؟
إنّه لمن البديهي أن تختار الدول التصرّف وفقًا لما تمليه عليها مصالحها الخاصّة، لكنّ المسألة الأهّم هنا هي الكيفية التّي يختار عبرها القادة تحديد ومتابعة المصالح الوطنية في ظلّ ظروفٍ مختلفة. في هذا الكتاب يريد ناي أن يُوضّح الأهميّة الكبيرة للقيم في السياسة الخارجية من خلال تتبّع أثرها منذ حقبة الرئيس روزفليت إلى إدارة الرئيس ترامب. لا يُعدُّ هدفه تفسيريًا فحسب، بقدر ما يحمل كتابه هذا دعوة/وصفة للالتزام بعامل القيم في عالم تسوده الفوضى الدولية والشكّ والمصالح الضيّقة، فبتركيزه على القيم (الليبرالية طبعًا) سيمنح الفلسفة الليبرالية عمرًا أطول باعتبار القيم الليبرالية هي الركيزة المحورية لهذه الفلسفة، والأهّم أنّه سيُعطي النزعة الأممية الليبرالية في السياسة الخارجية والعلاقات الدولية تأثيرًا أدوم على نخب ومؤسّسات السياسة العليا بالولايات المتحدة، لاسيما في هذه الحقبة التّي يقف فيها هذا التيّار ودعاته على المحكّ مع النقد الحادّ الموجّه لهم والتحوّلات الجديدة التّي يعرفها عالم اليوم.

قبل كلّ شيء، يستخدم ناي في هذا الكتاب مصطلحا الأخلاق (Ethics) والقيم (Morals) كمترادفيْن، ليُعبّر بهما عن أحكام الصواب والخطأ، فالأخلاق بالنسبة له هي مبادئ أكثر تجريدًا للسلوك الصحيح، في حين تُشير القيم عادةً إلى الأحكام الشخصية، والتّي قد ترتكز على الأخلاق الرسمية أو الضمير الشخصي.

إنّه لمن الصعوبة بمكان على أيّ باحثٍ أن يُقدّم حُكمًا موضوعيًا بخصوص مدى أخلاقية السلوك الخارجي أو السياسة الخارجية عمومًا لرئيسٍ من الرؤساء نظرًا للتعقيد الذّي تتميّز به عملية صنع السياسة الخارجية وملابساتها الداخلية والخارجية، فضلاً عن تأثير الأحكام الشخصية والميولات السياسية والإيديولوجية لصاحب الحكم والتقييم، لذا يُقدّم ناي هنا “وصفةً نظريةً” تُمكّننا من صياغة تقييمٍ “أقلّ تحيّزًا وأكثر موضوعيةً” لأيّ سلوكٍ خارجيٍ أو سياسة خارجيةٍ، مُطبّقًا سُلّم التقييم هذا على رؤساء الولايات المتحدة من فرانكلين روزفليت إلى دونالد ترامب، لذا فمن من المهمّ التأكيد هنا أنّ هذا الكتاب ليس بكتاب تاريخٍ يستهدف سرد القيم الأخلاقية لدى رؤساء الولايات المتحدة وتتبّع مرجعيتها، بل هو كتاب يستند لمختبر التاريخ ليبني مقاربةً نظريةً مُفسّرةً ومُرشدةً في آن، عبر استخلاص استنتاجاتٍ مجرّدة وعامّةٍ وقابلةٍ للسفر بين الأماكن والأزمة تحكمها قوانينٌ وضعيةٌ تجريبيةٌ كأيّ مقاربةٍ نظريةٍ وضعيةٍ أخرى.
يستلزم سلّم تقييمه ضرورة التركيز على ثلاثة أبعادٍ أساسيةٍ مترابطةٍ وإحداث التوازن بينها:
النوايا والمحفّزات:  وهنا يقيس الرؤية الأخلاقية التّي يحظى بها القائد.
الوسائل:  يقيس هنا الضرورة والتناسب ودرجة التمييز بين استخدام القوّة والاحترام الليبرالي للحقوق والمؤسّسات.
العواقب/التبعات:  وهنا يقيس درجة النجاح المحقّق على المدى البعيد للمصالح الأمريكية، والحدّ الأدنى من الضرّر الذّي يتسبّب فيه الرئيس للآخرين، وكذا الخطاب الأخلاقي الصادق له.

في كلّ خطوة يُحاول ناي الإجابة عن جملةٍ من الأسئلة المساعِدة على التقييم كما يُوضّح الشكل التالي:

 

أمّا نتيجة سلّم التقييم بالنسبة لكلّ رئيس فتتأرجح ما بين درجة: سيّئ، مختلط، وجيّد لكلّ بُعدٍ من هذه الأبعاد الثلاث. كلّ ذلك ليؤكّد الكاتب بأنّ القيم مهمّةٌ في السياسة الخارجية، لكن شريطة أن يُحكَمَ عليها على ضوء النوايا/الدوافع والوسائل والعواقب مجتمعةً. يؤكّد ناي على ضرورة إحداث التوازن بين هذه الأبعاد الثلاثة فهذا ما يمنحنا تقييمًا موضوعيًا للسلوك السياسي إذا ما كان سلوكًا أخلاقيًا أم لا. بناءً على ذلك، يرى بأنّ على الرؤساء الأمريكيّين إحداث التوازن بين النزعة الليبرالية الويلسونية (المثالية) والنزعة البراغماتية الميكيافيلية (الواقعية)، مُحذّرًا من مغبّة الميل المطلق لإحداها على حساب الأخرى.
مع ذلك، يُظهر ناي ميلاً لتفضيل الرؤساء الذّين يلتزمون بقيم الليبرالية أو بالأحرى تيّار النزعة الأممية الليبرالية المُشار إليها آنفا (الويلسونيون)، كالذّين عمل ضمن إداراتهم، لاسيما الرئيس الأسبق باراك أوباما الذّي تبنّى أثناء إدارته مقاربة ناي عن القوّة الناعمة والقوّة الذكية كوسيلة للنجاح في السياسة الخارجية، لذا وبالرغم من الأخطاء الكارثية التّي ارتكبها رؤساءٌ ليبراليون كأوباما أو كلينتون في سياساتهم الخارجية، فإنّ تقييمهم بالنسبة لجوزيف ناي كان إيجابيًا وأعلى درجة مقارنةً بنُظرائهم، لذلك نجده يمنح في تقييمه هذا درجةً أكبر لترومان وكلينتون، ثم أوباما وكارتر متبوعين بجورج بوش الأب وجيرارد فورد. بعدها يتقارب في التقييم كلٌّ من إيزنهاور، ريغن وروزفلت، يليهم كلّ من كنيدي، ترامب، بوش الإبن، نيكسون وليندون جونسون، من دون أن يخفي الكاتب التحيّز الشخصي الذّي يعتريه هذا التقييم.

بين الذكاء السياقي والذكاء العاطفي: أهميّة السّمات الشخصية والنفسية للرؤساء:
إضافةً لما سبق، تتضمّن مقاربة ناي مجموعةً من المفاهيم المفتاحية المساعدة على تقييم آداء الرؤساء ومدى أخلاقيّة قراراتهم المتّخذَة لاسيما أثناء الأزمات، أبرزها مفهوميْ: الذكاء السياقي والذكاء العاطفي للرؤساء. إذ يجب على القائم بالتقييم أن ينتبه للسياق الذّي جاءت فيه قرارات الرئيس، لاسيما تلك المثيرة للجدل، ويلحظ مدى إستيعاب الرئيس لللحظة التّي يمرّ بها ويتّخذ فيها قراراته تلك، على سبيل المثال، رأى الرئيس ترومان، الذّي ألقى قنبلةً ذريّةً على هيروشيما وناكازاكي، بأنّ فعله ذاك كان خيارًا صائبًا (بالرغم من انتصار الولايات المتحدة في الحرب قبيل هذا القرار)، لأنّ العالم لم يكن واعيًا بعدُ آنذاك بالعواقب الكارثية للأسلحة النووية، نجده ذات الشخص الذّي يرفض لاحقًا استخدام الأسلحة الذريّة في الحرب الكوريّة لأجل إنقاذ نفسه من شبح خسارة الحرب، فالخبرة هنا ساهمت في قرار ترومان تجاه كوريا، كوّنت له ذكاءً سياقيًا وجعلت قراره أخلاقيًا في هذا الصدد، في حين لم يكن قراره تجاه اليابان كذلك. أمّا بالنسبة للذكاء العاطفي فيرتبط بشخصية القائد ومدى قدرته على استيعاب نفسيّة “الأصدقاء والخصوم”، تلعب هذه القدرة دورًا مهمًّا في مدى التزامه بالفعل الأخلاقي من عدمه. في هذا الصدد يُبدي الكاتب إعجابًا كبيرًا بشخصية الرئيس جورج بوش الأب الذّي أرسى توازنًا جيّدًا بين الفعل الأخلاقي والمصلحة الأمريكية حينما كانت واشنطن تعيش لحظة الانتصار المطلق مع سقوط جدار برلين، فلم يتجّه نحو إهانة السوفيات أو يُبدي رغبةً في الانتقام منهم لحظة انكسارهم، وهذا هو الذكاء العاطفي بالضبط، والذّي عبّر عنه في قوله وبطريقة عفويّة: “لن أضرب على صدري مفتخرًا ولن أرقص حول الجدار”، لقد ساعده هذا الذكاء العاطفي لاحقًا في تعبيد الطريق لنجاح قمّة مالطا مع غورباتشوف.
يُولي الكتاب أهميّةً كبيرةً للسمات الشخصية والنفسية للرئيس (التواضع، الغرور، الثقة، الخوف، الحرج، الصبر، الحكمة، إلخ..) وللمصادر الأوليّة التّي ساهمت في تكوين هذه السمات كالبيئة الأسُرية التّي نشأ فيها (غنية/فقيرة)، التعليم الذّي تلّقاه والجامعة التّي درس بها (مرموقة/عاديّة)، الإرث السياسي الذّي تحظى به عائلته أو حظي به هو نفسه قبل وصوله للبيت الأبيض (تقلّده هو أو والده مثلاً لمناصبٍ سامية/مسيرة سياسية متواضعة في ولاية متواضعة)، فلكلّ ذلك أثرٌ ما في القرارات التّي يتخذّها لاسيما أثناء الأزمات، وبالتالي فإنّ أخذ هذه السمات في عين الاعتبار أثناء التحليل يُساعدنا على تقييم مدى أخلاقية السلوكات والقرارات المتخذّة.

 

تحدّياتٌ مستقبلية: من أجل سياسةٍ خارجيةٍ أمريكيةٍ أكثر أخلاقية:
يتضمّن القسم الثالث من الكتاب تقييمًا أخلاقيًا شاملاً للسياسة الخارجية الأمريكية منذ عهد روزفيلت إلى إدارة ترامب، محاولاً هنا رصد صعود الأخلاق وتراجعها في سياسة البلد الخارجية، وسياقات ذلك، حيث يتساءل الكاتب عن مصير المكانة الأمريكية والنظام الليبرالي الدولي بعد مائة سنة من العهد الويلسوني الذّي يُعتبر مضرب المثل في السياسة الأخلاقية بالنسبة له، ليقّر بأنّ كلاًّ من هذه المكانة وهذا النظام يعرفان تراجعًا واضحًا لاسيما في حقبة ترامب الذّي يراه مجرّد عَرَضٍ، لا سببًا جوهريًا لهذا التراجع، إذ يُمثّل ترامب “لحظةَ معاداةٍ للويلسونية” في تاريخ الولايات المتحدة، على حدّ تعبير ناي، مع مقته للمؤسّسات الدولية متعدّدة الأطراف ومناهضته للعولمة والديمقراطية بشكلٍ أضعف القوّة الناعمة الأمريكية.
أخيرًا، يُناقش الكتاب التحدّيات التّي تُواجهها عملية إرساء سياسةٍ خارجيةٍ أمريكيةٍ أكثر أخلاقيةً على ضوء التغيّرات التّي تعرفها الولايات المتحدّة في الداخل، إضافةً إلى التحوّلات التّي تعيشها البيئة العالمية التّي تتفاعل فيها سياستها الخارجية، حيث يرى بأنّ رؤساء الولايات المتحدّة المُقبلين سوف يُواجهون نمطيْن إثنيْن من تحوّلات القوّة العالمية من شأنهما أن يُشكّلا سياق السياسة الخارجية الأمريكية في هذا القرن، أحدهما تحوّلٌ أفقيٌ متعلّق بانتعاش آسيا وصعود الصين، والثاني عموديٌّ ومتعلّق بالثورة التكنولوجية والمعلوماتية التّي يشهدها عالم اليوم.
علاوةً على ذلك، يتخوّف ناي من التهديد القادم من الداخل لوضع الهيمنة الأمريكية أكثر من التهديد القادم من الخارج، ويعني بذلك خصوصًا صعود النَزَعات القومية والشعبوية داخل الولايات المتحدة على حساب القيم الليبرالية والديمقراطية، وتنامي الاستقطاب السياسي والميل الدوغمائي للقادة في السياسة الخارجية.

ختامًا، يرى ناي بأنّ على الولايات المتحدة أن تتجّه نحو تعزيز مهمّة القيادة العالمية بدلاً من الهيمنة الإمبريالية، مستعينةً بالإرث الويلسوني الأخلاقي لديها، كا ينبغي لها (بالرغم من تراجع تفوّقها العالمي) أن تأخذ زمام القيادة في العديد من القضايا المعاصرة كقضايا التغيّر المناخي والاستقرار المالي العالمي، نظرًا لكونها الفاعل الوحيد القادر على تجنيب الجميع الآثار السلبية لهذه القضايا، فهذه قضايا ذات طبيعةٍ أخلاقيةٍ عالميةٍ من شأنها أن تُعزّز أكثر من مكانة لولايات المتحدة ومصالحها القومية على حدٍّ سواء.


نُشر لصاحب هذا العرض مراجعةٌ موسّعة لذات الكتاب بمجلة سياسات عربية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، العدد 46، أيلول 2020، الدوحة-قطر. ونُشر هذا المقال سابقًا بمجلّة جُسور الجيوبولتيك (GPB)، الصادرة عن مركز دراسات الإسلام والشؤون العالمية (CIGA)، المُجلّد الأول، العدد الأول، شتاء 2023.

جوزيف ناي، أستاذ فخري بكلية كينيدي للحوكمة في جامعة هارفارد وعميد سابق لها. يُعتبر أحد الأعمدة المعاصرة لتيّار الليبرالية الجديدة في العلاقات الدولية، وهو باحث غزيز الانتاج، نشر 14 كتابًا وأكثر من 200 مقال في مجلات أكاديمية ومراكز أبحاث عالمية مرموقة، من أشهر كتبه: “القوة الناعمة: وسيلةٌ للنجاح في السياسة العالمية”. إلى جانب مساره الأكاديمي المتميّز، تقلّد ناي العديد من المناصب الرسمية في كلٍّ من إدارات كارتر وكلينتون وأوباما، الأمر الذّي أتاح له خبرةً مهنيةً واحتكاكًا مباشرًا بمؤسّسات صنع السياسات العليا بالولايات المتحدة وفرصةً للتأثير بطروحاته عليها.

الصفحة الإلكترونية الخاصّة بالباحث في جامعة هارفرد:
https://www.belfercenter.org/person/joseph-s-nye

جلال خَشِّيبْ، باحث رئيس بمركز دراسات الإسلام والشؤون العالمية (CIGA) التابع لجامعة إسطنبول صباح الدّين زعيم بتركيا. تهتّم أعماله البحثية بمجال الجيوبوليتيك، نظريات العلاقات الدولية، سياسات القوى العظمى، جيوبولتيك أوراسيا وبحر الصين الجنوبي وشمال إفريقيا، السياسة الخارجية التركية والسياسة الخارجية الجزائرية. له العديد من الكتب والدراسات والترجمات والملخصّات الأكاديمية المنشورة بالعربية والإنجليزية، من مؤلّفاته كتاب: “النظام الدولي الليبرالي: جون ميرشايمر في مواجهة جون آيكينبري-صعودٌ أم سقوط؟” (2021)، وكتاب: “أثر التحوّلات الطارئة في بنية النظام الدولي على التوجّهات الكبرى للسياسة الخارجية التركية” (2017)، وكتاب: “آفاق الانتقال الديمقراطي في روسيا” (2015).

الصفحة الخاصّة بالباحث في موقع أصوات نقدية- مركز دراسات الإسلام والشؤون العالمية CIGA:
https://cigacriticalvoices.com/ar/جلال-خشيب/

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *